في عام (969م/ 358هـ)، فاجأت الجيوش الفاطمية المغربية العالم الإسلامي، بعد ما نجحت في دخول مصر، وإنهاء حُكم الدولة الإخشيدية، وفصل هذا الإقليم المهم عن جسم الخلافة السُنية لأول مرة منذ فتحها على يدي عمرو بن العاص عام 641م.

وعدا بعض المناوشات العسكرية المحدودة، فإن جوهر الصقلي قائد الجيوش الفاطمية لم يُواجه أي مقاومةٍ تُذكر.

وعلى الرغم من عدائهم المستحكم مع الأمويين في إسبانيا والبيزنطيين في جزر البحر المتوسط والعباسيين في بغداد، لم يتوقف النجاح العسكري للفاطميين على حدود مصر، وإنما راحت رقعة الدولة تتسع سريعًا حتى شملت فلسطين وسوريا وبلاد الحجاز؛ لتمتد من جنوب مصر حتى صقلية ومن المغرب إلى اليمن والحجاز.

وبهذا شهد التاريخ مولد إمبراطورية شيعية مترامية الأطراف، عاصمتها القاهرة التي بُنيت خصيصًا لتكون مقرًّا للحُكم الفاطمي الذي بدا أنه في طريقه لابتلاع باقي أقطار العالم الإسلامي، ورفع الرايات البيضاء (شعار الفاطميين) على منابر المساجد بدلاً من الرايات السُود العباسية.

شعر الخليفة الفاطمي العزيز أن هذا الوقت قد اقترب لدرجة أنه أنشأ مبنى ضخمًا في القاهرة ليسجن فيه منافسيه العباسيين عقب القبض عليهم، وبدأ يضع خطط الاستيلاء على الأندلس من الأمويين.

القاهرة.. عاصمة الدعوة السرية

لم يعتمد هذا الصعود المُدوِّي لأحفاد عبيدالله المهدي بالله على قُدرتهم العسكرية وحسب، وإنما استخدموا أيضًا سلاحًا عظيمًا لا يقلُّ عن السيف أثرًا؛ وهو الدعاة السريون.

يحكي الطبيب والفيلسوف الشهير ابن سينا (980م – 1037م)، عن تعرضه خلال صغره لهذه الدعاوى الإسماعيلية، الذي شهد جوانب منها حينما كان لا يزال طفلاً في مسقط رأسه قرية أفشنة التي تقع بالقرب من بخاري (أوزبكستان حاليًا).

وقال ابن سينا، إن أباه وأخاه كانا «ممن أجاب داعي المصريين» (أي الفاطميين)، وشرح أن الدعاة الإسماعيليين كانوا يترددون على بيت والده، وأنه لما تنصَّت على حديثهم سمع منهم كلامًا «النفس والعقل».

وفي كتبه، لم يعتبر الإمام الغزالي، أحد أشهر من صدّرتهم الخلافة العباسية لمعارضة الدعاوى الفاطمية، التهديد الأكبر على الدول الإسلامية السُنية بتفوق العبيديين البحري ولا ثرائهم الجمّ، وإنما اعتبر التحدي الأكثر تهديدًا بأيدي الفاطميين هو جهازهم الدعوي العملاق.

كان هؤلاء الدعاة ينشطون في البلاد المختارة، ويبثّون بين صفوف أهلها أحاديث مُقنعة عن مدى عَظَمة الفاطميين القادمين من الشرق، وقد يتطوّر الأمر لمحاولة نشر بعض العقائد الدينية كالولاء لآل البيت والإمامة والتحريض على العباسيين مغتصبي السُلطة، وهذه السياسة تضمن، حال نجاحها، أن تضعضع أركان أي دولة قبل الهجوم عليها، ما يُقلل من احتمالات المقاومة العسكرية إلى حدِّها الأدنى.

والمفارقة، أن مُبتدع هذا السلاح العظيم هم العباسيون، الخصوم التاريخيون للفاطميين، والذين نجحوا في تأسيس دولتهم عقب 30 عامًا من الدعوة السرية التي نخرت في بنيان دولة الأمويين وأوهنت دولتهم ما سهّل إسقاطهم بعد معركة سريعة عند نهر الزاب العراقي.

استعار الفاطميون سلاح أعدائهم العباسيين وطوّروه ومنحوه بنية تنظيمية هرمية بالغة الدقة، ثم أعادوا توجيهه في صدور أحفاد عمِّ الرسول فتمكنوا من تهديد دولتهم وتمدّدوا شرقًا وغربًا بمنتهى السهولة حتى نجحوا في إقامة دولة مترامية الأطراف رغمًا عن أنف الخليفة العباسي الضعيف الذي راح يراقب السكاكين الشيعية وهي تقتطع من دولته إقليمًا تلو الآخر، وهو لا يستطيع فِعل أي شيء إلا أمره لدعاته بألا يكفّوا عن سبِّ الفاطميين من فوق منابر بغداد والتشديد على شُرطته بمراقبة كافة سكان مدينة المنصور ليضمن ألا يكون من بينهم داعية إسماعيلي يمهِّد لقدوم الجحافل الفاطمية إلى قلب الخلافة الإسلامية.

بفضل دعاة نشيطين مثل أبو جعفر أحمد بن نصر وغيره دخلت الجيوش الفاطمية إلى عاصمة مصر الفسطاط بلا مقاومة، وهي التجربة التي سعى الفاطميون لتكرارها في كافة البلاد المهمة في العالم الإسلامي.

يحكي المستشرق البريطاني برنارد لويس في كتابه «الحشاشون فرقة ثورية في الإسلام»، أن الدولة الفاطمية أنشأت في مصر مؤسستين كبيرتين لتنظيم أعمال نشر المذهب الشيعي في مصر وغيرها من البلاد، وهما جامع الأزهر ثم دار الحكمة في مصر، وبعد ذلك أُلحق بهما دار الدعوة في حلب.

جميع هذه المؤسسات اعتنت بتعليم المذهب الشيعي للنشء، إضافة إلى تدريب الدعاة السريين بشكلٍ عقائدي منضبط يُمكِّنهم من نشر العقيدة الإسماعيلية في كافة الأصقاع التي يُرسلون إليها.

ويضيف لويس: عكف الأساتذة العِظام في دور العلم القاهرية الكُبرى على تطوير نظريات العقيدة الإسماعيلية، واجتهدوا في تدريب المُبَشِّرين لنشر الدعوة في الداخل والخارج.

ويتابع دكتور محمد الناصر في أطروحته «الدعاء الوسطاء في عصر الغيبة الفاطمي»: شكّل أتباع الإسماعيلية، بعد عملٍ سري دقيق وطويل، فرقًا ذات إعداد وتنظيم مُحكمين، سواءً على مستوى الجذب العقلاني الفلسفي أو الثقافي العالمي أو مستوى الإثارة العاطفية في حُسن مخاطبة الناس للحسِّ الوجداني والانفعالي.

ومن بين المناطق الرئيسية التي وضعها الفاطميون نُصب أعينهم، هي وسط آسيا وبلاد فارس.

الجامع الأقمر أحد مساجد القاهرة الفاطمية في شارع النحاسين
الجامع الأقمر، أحد مساجد القاهرة الفاطمية في شارع النحاسين

الإيرانيون أدخلوا الإسلام إلى مصر

لا تنقطع المفارقات عند الحديث عن العلاقة بين الدولتين العريقتين؛ مصر وإيران، فإن كنّا بصدد مناقشة الدور الذي لعبته القاهرة في نشر المذهب الشيعي بإيران سيكون لزامًا علينا أن نتحدث في البداية عن الدور الذي لعبه الإيرانيون في نشر دين الإسلام بمصر.

يقول دكتور حسين مجيب المصري، في كتابه «إيران ومصر عبر التاريخ»، إن جيش العرب الفاتحين تضمَّن عديدًا من الإيرانيين، وقيل إنهم بقية جند «بادان»، الذي كان حاكمًا لليمن قبل الإسلام، وبعد ما أسلموا تطوّعوا للجهاد والمُساهمة في توسيع رقعة الدولة الإسلامية الوليدة.

وهنا، يُؤكد كتاب «إيران – مصر»، الذي أصدره مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، أنه بعد خضوع مصر للحكم الإسلامي، بدأت عمليات هجرة منتظمة من مسلمي إيران إلى وادي النيل، كان منهم بعض أبناء سلمان الفارسي الصحابي الإيراني الشهير، فيروي ابن الأثير في «أسد الغابة»، أن اثنتين من بنات الصحابي الفارسي الشهير سلمان الفارسي قرّرتا الرحيل إلى مصر والإقامة فيها.

نتج عن عمليات الهجرة الفارسية على الأرض المصرية، امتزاجٌ كُبيرٌ بين الشعبين العريقين أسفر عن اعتلاء عددٍ من العلماء من ذوي الأصول الإيرانية قمة النخبة الفكرية المصرية، أبرزهم الإمام الشهير الليث بن سعد، فقيه أهل مصر، والذي قال عنه الإمام الشافعي إنه «أفقه من مالك».

ضريح الليث بن سعد في مصر

هاجرت أسرة الليث الإيرانية من أصبهان إلى دلتا مصر، حيث وُلِد ونشأ مصريًّا عربي اللسان، برع في علوم الدين ورفع المصريون من شأنه وجعلوه إمامهم الأكبر حتى مات ودُفن في مصر، ولا يزال قبره موجودًا حتى الآن في حي البساتين في القاهرة.

بعد ما تغلّب العباسيون على الأمويين في معركة الزاب، أرسلوا جيشًا إلى مصر يتتبع الخليفة الأموي الأخير محمد بن مروان، حتى عثروا عليه في قرية أبو صير بمحافظة الفيوم وقتلوه، كان مُعظم قوام هذا الجيش من الفرس، الذين رفض عدد منهم العودة إلى بغداد عقب نجاح مهتهم، وفضّلوا البقاء في مصر.

بعد ذلك أضيفت إليهم قوات إيرانية أخرى عرفهم المصريون بِاسم «الديلم»، يشرح الدكتور حاتم محمد في بحثه «الفرس في مصر الفاطمية»، أن «الديلم» نشأوا في أماكن تتبع الآن محافظة بو شهر الإيرانية، وينقل عن المؤرخ الشهير ابن إياس أن الحاكم أحمد بن طولون جلب لمصر 40 ألف جندي من الديلم.

وربما كان لهذا الوجود العسكري دور في تفضيل الخلفاء العباسيين تعيين حكام إيرانيين على مصر في كثيرٍ من الأحيان بِاعتبار أنهم يتصلون بقوة عسكرية على الأرض تكفل لهم السيطرة على الأمر وإنفاذ القرارات؛ فيكشف الكندي صاحب كتاب «ولاة مصر»، بأن عددًا كبيرًا مِمَّن حكموا «مصر العباسية» كانوا من الإيرانييين مثل عبد الله بن طاهر الذي ولّاه الخليفة المأمون، وأبو عون عبد الملك بن يزيد (من أهل جرجان) الذي تولّى حُكم مصر في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، وهرثمة ابن أعين (من أهل بلخ)، الذي حكم مصر في خلافة هارون الرشيد.

نشر المذهب الشيعي برعاية مصرية

أبدى الحكّام الفاطميون هوسًا كبيرًا بميراث الإمبراطورية الفارسية، فحرصوا على نقل العديد من العادات والأعياد الفارسية إلى المصريين، مثل: عيد النوروز، الذي كانت الدولة تُعطِّل فيه الأسواق، وتُكثر من توزيع الأموال والكسوات على الشعب، وبلغت نفقات هذا العيد سنة 517هـ/1123م 4 آلاف دينار و15 ألف درهم فضة، وفقًا لبحث «نفقات دار الخلافة الفاطمية في مصر» الذي أعدّه الباحث عيسى العزام.

كما كثرت حفلات الأبهة والفخامة في البلاط الفاطمي واعتُبرت جزءًا من نظم الدولة، وهو طقس لم تشهد له مصر ولا العالم الإسلامي مثيلاً، وإنما عرفه من قبل البلاط الفارسي الذي كان يحرص ملكه على إقامة حفلات رسمية تجمعه برجال دولته خلال العام.

يحكي المصري: أخذ الفاطميون الكثير عن الفرس في عاداتهم ورسومهم حتى جعلوا بلاطهم أشبه ما يكون ببلاط ملوك الفرس؛ فكان الخليفة الفاطمي يتشبَّه بكسرى في بعض الطقوس البروتوكولية، مثل أنه كان يحضر مجالسه الملكية خلف ستار.

وإزاء تمسّك الفاطميين بهذه الإجراءات اعتبر كثيرٌ من المؤرخين أن العلاقة بين مصر وإيران لم تبلغ ذروتها إلا في العهد الفاطمي.

وسرعان ما استوعب الفاطميون القوات الفارسية الموجودة على أرض مصر، فأسكنوهم في «رُبع» (منطقة) قريبة من القصر الفاطمي ومسجد الأزهر، وبعدها بدأوا في الاستعانة ضمن قواتهم العسكرية، مثلما فعل الخليفة العزيز بالله الذي كوّن منهم قوة عسكرية خاصة أطلق عليها اسم «الجيش الشرقي»، وهو النهج الذي استمرَّ في عهد الخليفة المستنصر بالله.

وفيما كان لهذا التعاون، أو لنقل بمعنى أدق انخفاض الروح العدائية، بين الفاطميين والفرس سببًا في حدوث تقارب بين حكّام القاهرة وحكّام بغداد الفعليين من بني بويه، الذين استولوا على بغداد وحوّلوا الخليفة العباسي إلى رمز روحي مُجرد من الصلاحيات.

ولهذا لم يضعه الطرفان في ذهنيهما وهما يتبادلان رسائل الودِّ والقُرب الدبلوماسي والعقدي، فبعث الملك البويهي المُتسلِّط على بغداد وخليفتها العباسي الطائع لله عضد الدولة أبو شجاع خسرو (338- 372هـ/ 949- 982م) رسالة إلى الخليفة الفاطمي العزيز بالله في مصر، اعترف له فيها بالإمامة وأظهر له الطاعة والمحبة، وربما كان يُمكن أن يستمر هذا التعاون أكثر ويظفر الفاطميون ببغداد من دون قتال لو أن السلاجقة الأتراك لم يُزيحوا البويهيين عن العاصمة العباسية ويجلوهم عن قصر الخلافة.

وبلا شك فإن الخليفة الفاطمي المُظفَّر بالقاهرة وأهل مصر، لم يكن يحلم بِامتلاك دولة أكثر من إيران، لتُشبع غرامه بالحضارة الفارسية من جهة ولتكون ضربة هائلة تزيد من عُزلة حكّام بغداد من جهةٍ أخرى وتُسرِّع من عملية الإجهاز على ما تبقى للخليفة العباسي من قوات وأراض، وهي الخطوة التي أيقن الخلفة الفاطمي أن حدوثها يفتح له أبواب الشرق على مصراعيه.

ومن أجل تحقيق هذا الغرض، لجأ الفاطميون إلى وسائل عِدة لغزو البلاد الفارسية (السُنية حينها، فالدولة الإيرانية لم تُعلن اعتناقها المذهب الشيعي رسميًا إلا بعد هذه الأحداث بـ5 قرون تقريبًا) فكريًا، واستمالة أهلها إلى مذهبهم الإسماعيلي.

نبعت هذه الوسائل من فلسفة الفاطميين في عدم إجبار الناس على دخول دعوتهم بالقوة، وإنما يجب العمل على استقطابهم ليدخلوا في الإسماعيلية أفواجًا بكامل، إرادتهم وهو ما تجلّى في مصر نفسها، التي بقي أغلبية سكانها مسيحيون حتى القرن الـ12 الميلادي، وفقًا لما قاله ديفيد برامولي الباحث في الدراسات العربية في جامعة تولوز لـ«إضاءات».

ويضيف «برامولي»: في هذا التوقيت في العصور الوسطي، كانت إيران منطقة سنية مع وجود بعض الكُتل السكانية الشيعية أكبر من أي منطقة أخرى في العالم الإسلام.

ولا يُمكننا اعتبار أن كافة هذه الكتل الشيعية المحدودة هي نتاج عمل الدعاة الإسماعيليين الفاطميين وحدهم، فلقد كانت بلاد فارس، وقتها، واقعة تحت تأثير شيعي آخر، وهم بنو بويه، الذين أخضعوا العاصمة بغداد تحت سلطتهم، لكنهم بشكل أساسي عاشوا في مدينة شيراز، وعلى الرغم من أنهم كانوا شيعة أيضًا فإنهم كانوا يعتنقون المذهب الإثني عشري (بعض المرويات قالت إنهم اعتنقوا المذهب الزيدي وهم الذين ينتسبون للإمام زيد بن علي) وليس الإسماعيلي الفاطمي، وظلت العلاقة بين الطرفين محل جدل تاريخي.

والجذر الرئيسي للخلاف بين المذهبين، هو لحظة وفاة الإمام جعفر الصادق سنة 148هـ، والذي كان عهد بالإمامة إلى ابنه الأكبر إسماعيل الذي مات في ظِل حياة جعفر، الذي فتح موته باب الجدل عن هوية خليفته؛ هل هو الحفيد محمد بن إسماعيل أم الابن الثاني موسى الكاظم، مَن أيَّدوا الإمام موسى الكاظم هم الإثنا عشرية، أما الإسماعيلية فهم من ساروا خلف محمد بن إسماعيل.

ويقول سيباستيان كوت بابون الباحث في دراسات الأديان، في أطروحته «الدعوة الفاطمية والمقاومة الإسماعيلية لحكم السلاجقة في إيران»، إن وجود أساس شيعي كوّنته مجموعة من الخلايا الشيعية المحدودة التي انتشرت في مدن مثل الري، قم، كاشان، وطبرستان (يقع ضمن حدود دولة تركمانستان الآن) ومازندران حفّز الفاطميين على العمل على استغلال تلك النبتة الشيعية في الأراضي الفارسية، والعناية بها حتى تنمو وتُصبح شجرة عملاقة تحمل الفِكر الإسماعيلي وحده دونًا عن باقي المذاهب.

ولهذا لم يعتمد الفاطميون على رفاقهم في المذهب (بني بويه) في «تشييع إيران»، وإنما آثروا تنفيذ خُطتهم بشكلٍ منفرد، وشملت 3 محاور رئيسية: أولها العمل بشكل تقليدي عن طريق نشر الدُعاة السريين في كرمان وأصفهان والعديد من البلدان الإيرانية الرئيسية، إضافة إلى دول قريبة مثل باكستان الحديثة (نجح الدعاة الإسماعيليون في إقناع زعيم هندوسي بالتحول إلى الإسماعيلية، وأقام إمارة مقرّها مدينة «ملتان Multan» الباكستانية، استمرَّت حتى عام 1005م حينما تم القضاء عليها على أيدي جيوش الغزنويين السُنَّة) وغرب الهند والبحرين واليمن.

وثانيها، استغلال الفاطميين سيطرتهم على طريق الحج في استمالة الحجاج الإيرانيين إليهم، فبذلوا قصارى جهدهم لتوفير كافة سُبًل الراحة للإيرانيبن خلال رحلتهم إلى مكة، وهو ما تناقض مع حالة انعدام الأمن التي عاشوها خلال عهد العباسيين، ما دفع وفداً منهم إلى إرسال هدايا إلى الخليفة الفاطمي الظاهر.

وثالثها العمل على استقطاب عددٍ من النخبة الفكرية الفارسية وإقناعهم بالمذهب الإسماعيلي، فمثلاً، استضافت القاهرة، في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، الرحَّالة والشاعر الفارسي الشهير ناصر خسرو عام 439هـ/1047م  حيث اعتنق المذهب الإسماعيلي، وخرج من مصر داعيًا متحمسًا للخلافة الفاطمية ليس في إيران وحدها، وإنما في كافة دول المشرق التي زارها، وحقق فيها نجاحًا ونفوذًا عظيمين.

ويعتبر ناصر خسرو أهم كاتب تصدَّى لوصف عظمة مصر في عهد الفاطميين، وفي كتابه الشهير «سفر نامه» (وتعني كتاب السفر)، اعتبر فيه أن الفاطميين على «المذهب الحق»، كما شرح في صفحاته كثيرًا من جوانب رحلته واستفاض في بيان انبهاره بـ«مصر الشيعية» وبعمائر القاهرة وحدائقها التي جعلتها تُصبح واحدة من أعظم مدن العالم في العصور الوسطى وبانتشار الأمن والأمانة فيها بشكلٍ يجعلها أشبه بمدينة فاضلة قال إنه لو توسّع في وصفها، لما صدَّقه أحد من أهل إيران.

كتاب سفر نامه

كما نظم شعرًا بليغًا في الخليفة الفاطمي، وصفه فيه بأنه «سيد الزمان» الذي لا يظلم أحدًا، وأن بلده هي «الحصن الذي لا يدخله إبليس، الحصن الذي شيّده الله على الغفران، وحماه جبريل من الشيطان».

وكشف خسرو في كتابه صراحة عن أن الخليفة الفاطمي يستغل حالة الرخاء التي تعيشها مصر من أجل استضافة الأمراء من مختلف البلدان؛ ليُطلعهم على الدعوة الإسماعيلية عن كثب أملاً في استقطابهم إليها، وهو ما حدث مع أبناء ملوك جورجيا وتركستان وآخرين.

وبهذه الجهود مارس خسرو دورًا كبيرًا في الربط بين «عظمة الدولة» و«الإسماعيلية»، ومن دون أن يدري لعب على حنين الإيرانيين إلى إمبراطوريتهم الفارسية بتقديمه المذهب الفاطمي، ولو بشكلٍ غير مُباشر، سبيلاً إلى استعادة هذا الماضي التليد كما فعل أهل مصر، التي حوّلها المغاربة إلى دُرة الشرق وعاصمة خلافة، بعد ما كانت مجرد ولاية تابعة لخليفة ضعيف لا يكاد يُغادر قصره البغدادي.

وخوفًا من القتل على أيدي جنود الدولة الغزنوية السنية المؤيدة لبغداد، فرَّ ناصر إلى منطقة الأهواز الإيرانية، وشيّد بها مسجدًا نقش على محرابه أسماء الخلفاء الفاطميين حتى المستنصر بالله، ودعا في خطبة الجمعة لخليفة القاهرة.

ويُجمع المؤرخون أن «خسرو» قدّم خدمة لا تُقدَّر بثمن للفاطميين وبذل جهودًا كبيرًا ساعدت إلقاء بذور التشيع في التربة الإيرانية على المدى الطويل، ولو لمذاهب شيعية أخرى بخلاف المذهب الإسماعيلي، ولا يزال حتى الآن بعض الإسماعيليين الذين يُعيشون شمال باكستان يُعظِّمون من قدره ويعتبرونه أول مؤسس للدولة الإسماعيلية، ويحتفون بضريحه الكائن في مدينة فايد آباد عاصمة بدخشان الأفغانية.

ولم يكن ناصر هو المُفكِّر الإيراني الوحيد الذي استقطبته الآلة الدعائية الفاطمية، وإنما هناك آخرون لعبوا نفس دوره وأكثر، مثل المؤيد في الدين الشيرازي، والذي حمل لقب «داعي الدعاة»، وكان يُشرف على أعمال خسرو (لقاؤهما الأول كان في القاهرة) وغيره من أتباع الفاطميين المنتشرين في أراضي فارس.

لم يكتفِ الشيرازي بالسعي لاستقطاب أهل إيران إلى الإسماعيلية وإنما اخترق الأسرة البويهية التي كانت تحكم بغداد، وأقنع أبو كاليجار مازروبان الأمير البويهي على خوزستان بالانضمام إلى الدعوة الفاطمية.

وعندما شهد عام 398هـ وقوع الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد، كان الشيعة يهتفون «يا حاكم.. يا منصور» يقصدون حكّام مصر، ما يدلُّ على أن الشيعة باتوا يعتبرون خليفة مصر مُنقذهم الأول من ظلم السُنة، وأن الدعاية الفاطمية بدأت تدقُّ أبواب قصر الخليفة نفسه.

وبعدها امتدَّ تأثير الشيرازي إلى بغداد ذاتها بعد ما ضمّ إلى دعوته القائد التركي البساسيري، الذي سيطر على عددٍ من المدن في العراق، ودخل بغداد عام 450هـ/1058م، وألقت بعض مساجد بغداد الخطبة بِاسم الخليفة الفاطمي المستنصر، وبالطبع فإن الخليفة العباسي ما إن سمع هذه الخُطب حتى كاد يُصاب بالسكتة القلبية فحرّك جنوده لوأد هذه الفتنة ولو تطلبّ الأمر حرق بغداد كلها.

وعلى الرغم من أن «تمرد البساسيري» تمت السيطرة عليها خلال فترة زمنية وجيزة، وعاد العراق سُنيًّا تحت الراية السوداء، فإن نجاح هذه الخطوة بحد ذاتها أنبأ الفاطميون أنهم على الطريق الصحيح، وأنهم بجهود دعاتهم، السريين والعلنيين، ستكون السيطرة على فارس والعراق مسألة وقت.

ويضيف الباحث حاتم محمد في أطروحته البحثية «الدعوة الإسماعيلية والسياسة في مصر الفاطمية»، أن مصر عملت على استقطاب كافة رجال الدين البارزين من مختلف الأماكن وإغرائهم بالعطايا والوظائف الدينية الكُبرى في دولة الخلافة الفاطمية، مثلما حدث مع الفقيه البارز الحسن بن علي اليازوري الذي وُلِد في فلسطين، وتولّى القضاء في الرملة، ثم قدم على مصر وعمل في ديوان الخليفة الفاطمي المستنصر بالله وخدمه بإخلاص حتى تولّى منصب «داعي الدعاة» الذي يُشرف على أعمال كافة الدعاة الإسماعيليين في الأقطار المختلفة.

كما حملت لنا كتب التاريخ أسماء لدعاة مشاهير عاشوا في إيران لفترات طويلة، مثل: حميد الدين الكرماني، أو لفرس حملوا لواء الدعوة للفاطميين، مثل: حمزة بن علي الزوزني، حسن بن حيدرة الفرغاني، محمد بن إسماعيل الدرزي وهؤلاء تحديدًا أحدثوا نقلة نوعية في الفقه الإسماعيلي بعد ما أمعنوا في الإضفاء على هيبة الإمام حتى أنهم نادوا بألوهية الخليفة وقتها وهو الحاكم بأمر الله الفاطمي.

وفي ستينيات القرن الخامس الهجري (الـ11 الميلادي)، برز اسم داعية إسماعيلي جديد هو عبد الملك بن عطاش، الذي تمتّع بقدرات خطابية وإدارية فذة كفلت له كسب المزيد من الأتباع في الأراضي الفارسية، وأسَّس مركزًا سريًا للدعوة في أصفهان.

مسجد الحاكم بأمر الله
صحن مسجد الحاكم بأمر الله في القاهرة

الدولة الفاطمية الأخيرة

من بعد ابن عطاش كان الإسماعيليون على موعدٍ مع قائد آخر كبير سيلعب دورًا هائلاً في توطيد أركانهم في الأراضي الإيرانية لعشرات السنوات، وهو الداعية الفارسي حسن الصباح، الذي عاش فترة طويلة بالقاهرة تلقى فيها قدرًا كبيرًا من التدريب الدعوي والقيادي.

في عام 487 هـ/1094م شهدت الدولة الفاطمية صَدْعًا سياسيًّا في مصر تردّد صداه في إيران، فبعد وفاة الخليفة المستنصر كان مفترض أن يؤول الحكم إلى ابنه نزار، لكن أخاه المستعلي انتزع السُلطة منه فهرب نزار إلى الإسكندرية، فلاحقه المستعلي وحاربه وقتله.

رفض «إسماعيلية إيران»، بقيادة حسن الصباح، الاعتراف بالمستعلي خليفةً عليهم، وأعلنوا أن الخليفة الشرعي هو نزار، وأن من يستحق أن يرث الخلافة بعده هو ابنه الأكبر، لتكون أول مرة يُعلن فيها «شيعة فارس» انفصالهم لأول مرة عن التبعية المصرية.

يقول الدكتور أحمد الشامي في بحثه «تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى»، إن النزاريين خرجوا من مصر ولجؤوا إلى إيران، واتخذوا من قاعة آلموت في إيران عاصمةً لهم، وأسَّسوا واحدة من أخطر الجماعات الدينية في تاريخ الإسلام، وهي جماعة الحشاشين.

ويقول سيباستيان كوت بابون الباحث في دراسات الأديان، في أطروحته «الدعوة الفاطمية والمقاومة الإسماعيلية لحكم السلاجقة في إيران»، إن حسن الصباح عاين حالة الوهن التي عاشتها الخلافة المصرية وتحوّلها في مراحلها الأخيرة إلى ضعفٍ شديد لم يختلف كثيرًا عمَّا آلت إليه الخلافة العراقية، فباتت عاجزة عن دعم دعاتها بالأموال أو حمايتهم من هجمات السلاجقة الأتراك عليهم، فآثر حماية شعبه من تداعيات سقوطها وتقوقع بهم في شمال إيران.

أمر حسن بالاعتماد على الفارسية بدلاً من العربية، ويقول الأكاديمي الإيراني فرهاد دفتري في كتابه «تاريخ مختصر للإسماعيلية»، إن النزاريين استغلوا حالة الظلم الجماعي التي عاشها الإيرانيون على أيدي السلاجقة ليرسخوا دولتهم أكثر وأكثر في البنيان الاجتماعي الفارسي.

وبدأ الإسماعيليون النزاريون تكريس جهدهم لإنتاج قادة عسكريين يستطيعون حماية أرواح قومهم بدلاً من الاكتفاء بالجانب الدعوي والفكري، فبرعوا في علوم القتال الخاطف، وتحديدًا في تنفيذ الاغتيالات السياسية، التي وصلت إلى حدِّ قتل كبار الأمراء السلاجقة وتصفية خليفتين عباسيين، بل وقتل قادة من الجيش الفاطمي المصري مثلما حدث مع الوزير الأفضل في القاهرة.

يقول الدكتور بول والكر، الباحث في تاريخ الإسلام بالعصور الوسطى، لـ«إضاءات»، إنه على الرغم من أن أغلب إيران كانت سنية وقتها، استطاع الحشاشون اكتساب تعاطف السكان بسبب الإدارة السيئة للأتراك السلاجقة للبلاد.

وفي الوقت الذي انتهت به الخلافة الفاطمية ذاتها في مصر على أيدي صلاح الدين الأيوبي عام 567هـ/1171م (اتُّهم الحشاشون بتدبير عدة محاولات لاغتياله)، حافظت الإمارة (الإسماعيلية / الفاطمية) الأخيرة على بقائها في إيران فترة أطول من الزمن، وحقّقت تطويرًا فقهيًا كبيرًا على العقائد الشيعية الباطنية، وظلّت صامدة في وجه تقلبات الدهر.

فيما يضيف جون وودز أستاذ التاريخ الإيراني في جامعة شيكاغو الأمريكية لـ«إضاءات»، أسَّس النزاريون دولة متماسكة على أجزاء من إيران وسوريا، لم تتوقف عن خوض المعارك مع السلاجقة في إيران ومع الأيوبيين في سوريا، وفي النهاية انتهى الفرع النزاري في إيران على أيدي المغول الذين أقاموا المذابح بحقِّ سكان القلاع الإسماعيلية سنة 1256م، وهي الخطوة التي مثلت نهاية أبدية لتأثير الشيعة الفاطمية في إيران.

أما مَن بقي منهم فلقد فرَّ إلى آسيا الوسطى والهند، مثلما فعلت فلول الفاطميين الهاربين من مصر، ليُوحِّد الخوف من الموت بين الإخوة الأعداء، ولكن هذه المرة كانت على أرض المنفى.