قصة حروب الجو: كيف تحول حلم الطيران إلى كابوس؟
منذ قرابة 110 أعوام قصفت الطائرات الحربية الإيطالية القوات العثمانية المتواجدة في شمال أفريقيا، يُخلد التاريخ تلك المعركة تحديدًا لأنها تُعتبر أول استخدام للطائرات الحربية في التاريخ. لم يُعتبر ذلك إنجازًا في بادئ الأمر بقدر ما اعتبره العالم انتهاكًا للأعراف والقواعد الدولية، ففي مؤتمر السلام في لاهاي اتفق المجتمعون على منع إسقاط القنابل من المناطيد الجوية أو ما يشابهها، وأن يقتصر استخدام الآلات الجوية على الاستطلاع فحسب، لكنّ الإيطاليين لم يلتزموا بذلك الاتفاق واستخدموا طائراتهم في الاستطلاع والقصف معًا.
جوليو دوهى، قائد كتيبة الطيران في الحرب الإيطالية العثمانية من 1911 إلى 1912، صار أول قائد لوحدة قاذفات جوية في العالم. ولم يبخل جوليو على العالم بخبرته فنشر كتابًا بعنوان «قواعد استخدام الطائرات في الحروب». ولم يقتصر القصف الجوي عبر الطائرات فحسب، بل استخدم الإيطاليون المناطيد أيضًا، كما زامنوا بين الهجوم الجوي والبري ما أربك العثمانيين، ولم يستطيعوا الرد على هجماتهم الجوية ولا البرية.
ظل استخدام الطائرات أمرًا مستهجنًا، لكنه يتم على نطاق ضيق في كل حال، حتى أتت الحرب العالمية الأولى. فبدأت الطائرات تغزو الأجواء في محاولات دائمة لاستطلاع قوات العدو، فكانت بمثابة عين القادة في الجو. لكن بالطبع ظهرت الحاجة إلى منع قادة الخصم من الاستطلاع ومعرفة أماكن تمركز وأعداد الجيش الآخر، فتحول الاستطلاع الجوي إلى تصادم بين الطائرات المختلفة، ثم صار التصادم قتالًا جويًا يطمح فيه كل فريق إلى السيطرة على الجو.
هنالك، في الفترة ما بين 1914 و1918، تنبّه الإنسان إلى مفهوم الحرب الجوية، وأن بإمكانه القيام بتكتيكات وعمليات عسكرية بواسطة الطائرات ضد طائرات أخرى، أو ضد أهداف موجودة على الأرض، أو موجودة على الماء ولا تستطيع القوات البحرية الوصول إليها، سواء كانت أهداف البر والبحر متحركة أو ساكنة، تمثل تهديدًا الآن، أو قد تمثل لاحقًا، فتبلور مفهوم الحرب الجوية كما نعرفه اليوم، وأدرك العسكريون أيضًا الإمكانية الهائلة التي توفرها الطائرات، استطلاع ثم في نفس الوقت ضربات استباقية لأي مصدر تهديد محتمل.
تدمير الحياة للفوز بالحرب
في البدء كانت الطائرات، التي صُنعت خصيصًا لتكون حربية، مزودة برشاشات ثابتة من الأمام وبإمكان الطيار توجيهها إلى العدو بتوجيه جسد الطائرة بالكامل إلى النقطة المطلوبة. المفاجأة أن مدى تلك الرشاشات كان لا يتعدى 180 مترًا، ما يعني أن أول معركة جوية قد حدثت على مدى قريب وقصير جدًا.
في عام 1915 أدرك القادة أن القتال الجوي بالرشاشات يبدو عديم الفائدة، لذا عمدوا إلى استخدام الطائرات كقاذفات قنابل على الجيوش البرية، فإسقاط القنابل أسهم في تراجع القوات البرية للعدو، أو على الأقل في جعل تحركه مزعجًا وترك الجنود في حالة هلع وترقب دائمين.
لكن مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى بدأ العسكريون في اعتبار الطائرات الحربية قوة مستقلة، فلم يعد اسمها كتيبة الطائرات أو توضع تحت قيادة قائد عسكري بجانب مهام أخرى، بل بات لها قائد مستقل وميزانية خاصة ومهندسو حرب يرسمون معاركها ويضعون لها فلسفات خاصة. نتج عن ذلك أن الطائرات الحربية لم يعد استخدامها محصورًا في ميدان المعركة فحسب، ولا حتى هجمات استباقية على الجنود والآليات الساكنة، بل تجاوزت كل ذلك إلى تدمير العناصر الأساسية التي تعطي العدو القدرة على خوض الحرب.
من تلك العناصر على سبيل المثال، المصانع وشبكات النقل ومراكز صنع القرار الحكومية ومحطات توليد الكهرباء وأماكن تخزين المواد الغذائية. وكان الألمان في هجومهم على لندن يعتمدون على تلك الاستراتيجية، وأثبتت تلك الطريقة التخريبيّة فاعليتها. وفي تلك الهجمات استخدم الألمان طائرات زِيبلن البدائية، ثم لاحقًا استخدموا قاذفات جوثا التي تستطيع الطيران ليلًا على ارتفاع 20 ألف قدم.
وفي ذلك الارتفاع يعتبر تنفس الأكسجين من الهواء أمرًا مستحيلًا، فوضع لهم الألمان الأكسيجن المضغوط في زجاجات يتنفسونه عن طريق الفم، لتدخل بذلك الحروب الجوية مرحلةً جديدةً لا تتوقف فيها الهجمات بسبب حلول الليل أو بسبب اضطراب الطيارين نتيجةً لنقص الأكسجين، وبالطبع شعر فيها الطيارون بأمان أكبر لارتفاعهم بعيدًا عن مدى النيران المضادة.
حلم الطيران
بإثبات الطائرات قدرتها التدميرية الفائقة تحول الحلم الإنساني بالطيران إلى كابوس دائم. فقد عبر ليوناردو دافنشي في العديد من لوحاته عن رغبته في الطيران، وكانت تلك الرغبة تداخل الإنسان كلما رأى الطائرات الورقية تحلق في الهواء. وأدى اكتشاف الهيدروجين إلى زيادة تلك الرغبة بتطور بالون الهيدروجين الذي بدأ في حمل البشر لارتفاعات عالية ولأميال طويلة.
تلك البالونات دخلت في المجال الحربي أيضًا، لكن للمراقبة فحسب. تسارعت قوانين الفيزياء وقوانين الميكانيكا، اكتشافات عدة أصبحت هى العمود الفقري للطائرة، فاخترعت الطائرات الشراعية، التي صارت هي الأساس للطائرات الحديثة. وفي 1906 أعلن ألبرتو سانتوس دومون عن إقلاع أول طائرة له. بعدها بعام واحد طور بول كورنو أول طائرة عمودية.
في عام 1914 وضع رولاند جاروس بندقية رشاشة على طرف طائرته، وكان رولاند أول من يفعل ذلك. وفي عام 1915 كان كيرت وينجز أول من يفوز بمعركة جوية بقتال عبر طائرة مزودة بمدفعيّن رشاشيّن مدمجين في جسد الطائرة. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وقدوم عام 1942 تم إطلاق أول قاذفة تعمل بالطاقة النفاثة، كذلك شهدت الطائرات العمودية، الهليكوبتر، تطورًا ملحوظًا في الحرب العالمية الثانية.
ففي الحرب العالمية الثانية بدأ العسكريون في التفريق بين الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل، فجعلوا الطائرات المقاتلة صغيرة الحجم وسريعة ويسهل المناورة بها. وكان الألمان هم أصحاب السبق في ذلك المضمار بمقاتلتهم مسرشميدت، ذات البدن الرفيع والمحركين النفاثيّن الموضوعين تحت جناحيها، ولم يكن في مقدرة طياري الحلفاء الهروب من انقضاضها، فكانوا بحاجة إلى مضاعفة سرعة طائراتهم وهو ما لم تحتمله طائراتهم.
بالتأكيد لـمسرشميدت عيوب كثيرة، لكنها في وقتها كانت سبقًا تاريخيًا للصناعة الألمانية، كما أنها من وضعت الأساس لضرورة صناعة مقاتلات أسرع من الصوت، فقد كانت سرعتها تقارب سرعة الصوت.
مهارة الطيّار أولًا
من جسد خشبي خفيف، ومعارك على ارتفاعات قريبة برشاشات بدائية، إلى مقاتلات ذات محركات مكبسيّة قوية بأجساد صلبة وتسليحات أقوى. وكان التعرف على الأعداء في المراحل الأولى يتم بصريًا عبر الطيّار أو مساعده، وكانت المهارة في تلك المرحلة هى مهارة الطيّار لا قوة الطائرة. فالفوز في المعركة يتحدد بقدرة الطيّار على المناورة وعلى القيام بالحركات البهلوانية الجوية من أجل تشتيت الخصم ثم الإجهاز عليه.
وبالطبع، ما دام تمييز الطائرات كان بالنظر فأصبح من الضروري وضع علامات مميزة على كل طائرة توضح انتماءها. فبدأ الطيّارون أول الأمر بدهن طائراتهم بألوان مختلفة عن طائرات العدو، ثم لاحقًا وضعوا علامات مميزة على بدن الطائرة.
كما أن الحرب العالمية الثانية شهدت كثافة مرعبة للطائرات المقاتلة، فعلى سبيل المثال وقعت معركة كورسيك بين السوفييت والألمان، 2000 طائرة حربية ألمانية ضد 2792 طائرة حربية سوفييتيّه، وكانت الغلبة في تلك المعركة للسوفييت. ومن قبلها معركة ألمانية بـ2000 طائرة ضد 675 طائرة بريطانية، وفاز البريطانيون أيضًا. وفي معركة لاحقة قامت 500 طائرة ألمانية بالاشتباك مع 1400 طائرة حربية فرنسية، وفاز الفرنسيون بتلك المعركة.
لكن في العصر الحديث اُستبدلت الكثافة بالمهارة، وأصبحت المقاتلة الواحدة تتكلف ملايين الدولارات لكنها تقوم بمهام أكثر من ألف طائرة قديمة. كما أن الوصول لمرحلة الطائرات دون طيار ودخولها المعارك قلب كفة المعارك تمامًا، فلم يعد هناك حاجة لشجاعة الطيار ولا مهاراته في الميدان، كما صارت الهجمات أشد وأكثر دقة.
ومع كل تطورت في ميدان الحروب الجوية تظل كلمة رومل، القائد الألماني، كل من يواجه القتال، حتى مع أكثر الأسلحة تطورًا، ضد عدو يتمتع بالتفوق الجوي، يشبه من يقاتل على طريقة الوحشيين ضد قوة نظامية، حتى بوجود نفس العوائق ونفس فرص النجاح.