في نهاية العام المنصرم (2020) انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي عبارة يقوم بنشرها معظم المستخدمون:

لقد كان عامًا مليئًا بـ…

واختلف ما ملأ به المستخدمون الفراغ، فمنهم من قال لقد كان عامًا مليئًا بالفقد أو بالحزن والجزع والمرض، والعمل من المنزل، والدراسة من المنزل أيضًا، وأمَّا منْ كان لا يزال يقبض على حسه الفكاهي وبعض منْ التفاؤل، فقال لقد كان عامًا مليئًا بـ «تم تجديد باقة الإنترنت»، وهناك منْ كان يرى أنه قد كان عامًا مليئًا بالحياة.

نعم الحياة… تلك كانت جملتي التي لم أكتبها قط، لكنني فقط شعرت بها، غمرتني من شعر رأسي حتى أخمص قدمي، لكني لم أجرؤ على قولها حين ذاك؛ كيف أصف لمنْ عانى المرض والفراق والفاقة وقلة الحيلة أن هذه الأشياء قد تكون شهادة ميلاده الجديدة، كيف أواجه من نهشه الاكتئاب والخوف من المجهول بأن كل ما شعر به ومر منْ خلاله ما هو إلا نفق الحرية من كل ما استعبدنا العمر بأكمله، وأن الثواب على قدر المشقة، فكلما هاجمنا الألم أكثر كانت النتيجة أعظم؟!

قبل أن يتهمني أحد بفقدان العقل أو ينعتني بأني متفائلة حمقاء، فقط تأمل معي عزيزي القارئ وحاول أن تتذكر كيف كان شعورك بالفرحة كطفل صغير حين كنت تخرج للشارع خلسة هاربًا من حبس المنزل، حتى ولو لتؤدي مهام قد كرهتها عمرًا؟ كيف كانت لهفتك حين تُحادِث أصدقاءك في الهاتف وأنت لا تستطيع رؤيتهم؟ بل كيف كان شوقك وفرحتك بهم حين قابلتهم بعد انقضاء فترة الحظر؟

أليس هؤلاء من نعتهم بأنهم لا يستطيعون فهمك أو تقديرك كما يبنغي، الآن أدركت قيمتهم وأنك لا تستطيع تخيل العيش من دونهم.

أيضًا أرجوك تذكر شعورك بالخوف على ذويك وأهلك. أتحداك إن كنت تعلم أنك تَكِن لهم كل هذا الحب الذي تحول إلى خوف ومسئولية تجاههم. مهلًا ألم تقل كثيرًا في السابق إن هؤلاء ليس إلا عبئًا ثقيلًا، وهم من يعيقون تقدمك؟ والآن تتمنى أن تفديهم بروحك على ألا يصيبهم مكروه. تذكر عملك الذي طال تذمرك منه، أما بعد وصول كورونا، فصارت أقصى أمنياتك أن تظل على قوته وأنه أفضل مائة مرة من الأعمال التي تخلت عن موظفيها.

لن أتحدث هنا عن بهجة ما بعد الحظر وفتح السينما والمطاعم والأماكن العامة، وأننا جميعًا لو كان بوسعنا لقضينا في الشارع الليل والنهار من فرط اندهاشنا بمدى جماله واحتوائه للجميع دون شرط أو قيد، هل تذكر كل تلك الأماكن التي كنت دائم القول إنها أصبحت تُصيِبك بالضجر وأنها كلها تشبه بعضها؟ الآن أدركت جمال كل شبر فيها وشعرت أنها متنفسك الذي كنت لا تراه.

كنَّا كمنْ أُصيب بالعمى المؤقت، أصبح لا  يرى أي شيء من فرط التعود، كل شيء متاح حتى ولو بقدر قليل، لا يوجد ما يُدهشنا؛ صبغنا حياتنا بلون رمادي واستغنينا عن كل الألوان المحيطة بنا، حوَّلتنا الحياة إلى روتين قاتل، كل يوم يشبه ما قبله، وبالتأكيد هو نسخة من اليوم الذي يليه، فقدنا قيمة الأشخاص والشعور بأهمية الأشياء؛ بل تناسينا أن لدينا مشاعر من الأساس، وإن كان هناك منْ لا يزال يحاول إيجاد معنى وهدف لحياته فهو يتوهم أنه يجب عليه الحفر في الصخر ليصير الأول بلا منافس، وإلا يسقط في هوة أنه هو نفسه بلا قيمة تمامًا ككل منْ حوله.

فيلم «Soul»

هذا تحديدًا ما يقدمه مؤلف فيلم Soul، والذي يأخذنا في رحلة مثيرة داخل أنفسنا ليُرينا أي مسخ أصبحنا عليه. يبدأ الفيلم بالبطل «جو» الذي لا يرى أي شيء سوى حلمه الذي يريد تحقيقه، يريد أن يتبع شغفه الذي ظن أنه هدف وجوده على هذه الأرض، لكنه لا يدري أن هذا الحلم وهذه الأفكار قد استعبدته وسخَّرته تمامًا وليس العكس. كان كثير الصراع مع والدته التي كانت تسعى جاهدة لتجعله يستفيق من هذا الحلم وإقناعه بأن لديه حياة ذات قيمة حقيقية تستحق أن يعيش فيها، وليس مجرد السراب الذي يريد الطيران نحوه، لكنه لم يسمع من كلامها سوى أنها لا تفهمه أبدًا وتُبخِس بقدر حلمه، إلى أن جاء اليوم الموعود؛ اليوم الذي سيتحقق فيه هذا الحلم وفي الطريق نحوه سقط.

سقط وأصبح بين الحياة والموت، وإن كان في عداد الأموات بالفعل، وجد نفسه في الطريق نحو النهاية لكنه لم يرضَ وقرر أن يحارب من أجل العودة إلى الحياة مرة أخرى بأي ثمن. هرب من الموت بأعجوبة وظل مُعلقًا في عالم الأرواح، ولجأ إلى حيلة حتى يعود للأرض ولعالم الأحياء، وهي أن يرشد روح لم تولد بعد لتجد ومضتها الخاصة التي ستضيء حياتها فيما بعد.

«22» هو اسم الروح الساخطة التي لا تريد أن تولد أو تجيء إلى الأرض، هي الروح العدمية التي لا ترى جدوى لأي شيء ولا تنظر إلا للجانب السلبي لكل ما يحدث، وليس لديها شعور سوى أنها لا تحب الأرض ومنْ عليها، ففضَّلت أن تختبئ في عالمها الخاص، لذلك كانت مهمة جو شبه مستحيلة، حاول «جو» إقناع الروح بشغفه هو، وأن الموسيقى هي الدافع والهدف.

وبينما هو في أول الطريق، شاهد حياته كما كان يحياها، حياة خاوية من الأشخاص والمعاني، حياة بلا قيمة، شعر وكأنه كان كالميت وهو لا يزال على قيد الحياة، لكنه لم يصدق ما رآه، واستمر في عزمه، وهو أن يعود للأرض بدل تلك الروح التي لا تريد المجيء إلى هذا العالم لكنها أرادت مساعدته.

وعن طريق مساعدة بعض الأرواح الطيبة، استطاع «جو» أن يعود إلى الأرض وإلى الحياة، وما إن فتح عينيه وجد روحه حبيسة في جسد قطة وجسده تسكنه روح «22»، جُنَّ جنونه، كيف سيصل إلى ما يريد وهو قطة و«22» تحتل جسده، لم تنتهِ المأساة هنا، بل عندما وجدت «22» نفسها عنوة في المكان الذي تكرهه، ومُحاطة بكل ما اعتقدت أنه سيؤذيها، وفي مواجهة كل ما كانت تخشاه، لكن مُجددًا قررت الروح مساعدة هذا الآدمي الذي بات يترجاها ليصل لهدفه.

وكما تغيرت الأشكال في الخارج؛ بدأ الوجدان في التغير، اكتشفت الروح أن الحياة على الرغم من مصاعبها فإن بها ما يستحق العيش، فراشة جميلة، ضحكة صافية، محبة خالصة، وبضعة أشخاص يحبوننا بصدق ولا علينا إلا أن نراهم، أصلحت الروح الساكنة جسد جو علاقته بوالدته، حثته على أن يتصل بالفتاة التي تحبه، قدمت أغلى هدية لصديقه وهي أن سمعته باهتمام.

أما «جو» المقيد بجسد قطة، فكان يعتقد أنه يفهم كل ما يدور حوله، وأنه أفضل نسخة منه، وأن كل الأمور تخضع لسيطرته، لكن بحضور الروح ودخولها حياته اكتشف زيف ما ادعى، كان يُفاجأ باحتفاء الروح بأبسط الأشياء كالسير بحرية مثلًا، أو حتى سماع الآخرين، وأن ذلك يكون هدفها ويكون سبب مجيئها للحياة، وعندما تركا الدنيا وعادا إلى عالم الأرواح، وجدا أن الروح قد وجدت ومضتها وإن كانا لا يستطيعان تحديد ماهيتها، وأنها جاهزة لتبدأ رحلتها الخاصة في الحياة.

لكن «جو» بما لديه من برمجة سابقة قال لها إن كل هذا ما أحبته وتعلَّقت به ليس إلا مجرد أحداث عادية وليست أهدافًا، ولا يرتقي لأن تكون سببًا لمجيئها، وأنها ليس لديها ما يستحق العيش، بذلك القول رمى بها في الدرك الأسفل وعصف برغبتها في المجيء للعالم، فاستغنت عن فرصتها الوحيدة لتحيا وأعطتها له، فعاد «جو» إلى جسده وحياته، ولكن داخله شيء ما مختلف.

وصلت اللحظة التي وهب عمره كله فداءً لها، ذهب لتحقيق حلمه ومع انتهاء اللحظة سأل: ماذا بعد؟! أهذا كل شيء؟ لم يشعر بكل ما اعتقد فيه حين يبلغ مأمله، أين النشوة؟ أين الشعور بالفخر ولذة الانتصار؟ لا شيء سوى سعادة مؤقتة زالت بانتهاء اللحظة، وعند انتهائها اكتشف أن ليس لديه شيء آخر ليفعله، وكل ما فات لم يكن سوى وهم مُختلَق، وفي سبيل تحقيق هذا الوهم أضاع حياته الحقيقية، وعَمِي عن كل قيمة، حتى ذهبت سنوات عمره سُدًى، فنسي أن يحيا.

تذكر الروح، وأنها منْ كانت على صواب في رحلتهما المشتركة القصيرة، وأدرك أن الأشياء البسيطة التي تُحيط حياته هي التي تُشكِّلها، وأنها أغلى ما لديه، لكنه فقط كان لا يراها ولا يشعر بوجودها، أو بالأحرى لا يشعر بأي شيء.

بين الفيلم وكورونا

تمامًا كحالنا حين حلَّت كورونا؛ وبطريق غير مباشر أزالت الغطاء عن أعيننا، لنكتشف كمًّا من النعم لدينا، لكننا نتهاون في حقها، ونسخف بها كما فعل «جو» بطل الفيلم طوال عمره. لم يأتِ فيروس كورونا ليقضي على الحياة على الكرة الأرضية، لكنه أتى ليُغيِّر شكل الحياة فيها.

هذا التغير لم يكن الأول في التاريخ، بل تغير شكل الحياة عدة مرات، فهناك أحداث كبيرة غيَّرت شكل ومفهوم الحياة عند كل من يحيا؛ اكتشاف الزراعة جاء ليُعلِّم الناس الاستقرار عوضًا عن الرحيل المستمر، وكذلك اكتشاف الكهرباء، ومن بعدها الثورة الصناعية. كل تلك الحوادث أثَّرت على أسلوب معيشة كل مَنْ على هذا الكوكب؛ كذلك فيروس كورونا.

جاءنا فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، لكنه استطاع هدم كل الثوابت في حياتنا. جاء ليُذكِّرنا بقيمة ما لدينا، وليواجهنا بضآلة حجمنا وجهلنا أمامه، فهزم الكبر الساكن فينا بأننا أسياد الأرض وليس عليها سوانا، وكل شيء يقع في قبضتنا المُحكمة، اكتشفنا أن لدينا مشاعر مختلفة ولا زالت صالحة للاستخدام.

اختبرنا القلق والخوف والفقد، ووُلد لدينا الشعور بالامتنان. كل ذلك لم نكن لنكتشفه لولا أن شعرنا أننا مُهدَّدون وأن الموت أصبح أقرب إلينا من النفَس الذي نتنفسه، لم نختبر الحياة حقًّا إلا عندما دنونا من نهايتها، فلا شيء يستطيع خلق الحياة سوى الموت، والدرس المستفاد من كل ما مررنا به هو ما قرَّره «جو» في نهاية الفيلم:

لا يعرف ما سيفعله في حياته؛ لكن أكيد من أنه سيعيش كل لحظة فيها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.