كيف صورت السينما المنزل كمصدر رعب للنساء؟
في عام 1977 طلبت شركة «توهو» اليابانية من المخرج نوبويوكو أوباياشي صناعة فيلم يضاهي فيلم «الفك المفترس» Jaws) 1975) الذي يعتبر أول فيلم يوصف بمحطم شباك التذاكر ومقدم لفكرة الأفلام الصيفية الضخمة، ردًا على ذلك صنع أوباياشي فيلم رعب تجريبيًا لا يمكن توقع كيف سيبدو بين كل دقيقة والأخرى، طليعي وفوضوي، غير واقعي أو مخيف بالشكل التقليدي، استوحى أوباياشي فكرة الفيلم من عدة مصادر منها تأثير الحرب العالمية الثانية خصوصًا القنابل الأمريكية الملقاة على بلده، المصدر الآخر هو ابنته ذات العشر سنوات، خرج من تلك المقدمات فيلم «منزل» (hausu) ، فيلم يتابع ستة مراهقات على عتبة النضوج في طريقهن إلى اجازة في منزل قريبة إحداهن، منزل شاسع ومهجور، يقع على أطراف المدينة، المنازل المهجورة ليست تيمة جديدة على الرعب لكن “منزل” يجعل المنزل نفسه هو مصدر الرعب وليس الأرواح أو الأشباح، المنزل يلتهم فتاة بعد الأخرى ومع كل مشهد جديد يجرب أوباياشي تجربة بصرية جديدة.
على الرغم من بساطة فرضية الفيلم الرئيسية والتركيز على العوامل التقنية والبصرية فإنه تم تفسيره وتحليله بالعديد من الطرق، أحد أشهر التأويلات التي صاحبت الفيلم هو اعتباره مجازًا لتخطي الصبا إلى الأنوثة، من تلك الفرضية يمكن قراءته باعتباره فيلمًا عن النضوج، ومثل كثير من أفلام الرعب فإن البلوغ خصوصًا الجسدي يمثل تجربة مروعة، بعد وصول الفتيات للمنزل يبدأن في أعمال منزلية تقليدية لم يعتدنها من قبل، ينظفن أرجاء القصر الضخم، يحضرن الطعام ويغسلن الأطباق، وبدلًا من قضاء إجازة هادئة تتكون لديهن مسؤوليات جديدة، وعلى الرغم من انعدام إدراكهم بها فإن المنزل يصبح سجنًا ثم يصبح فكًا مفترسًا يلتهم واحدة بعد الأخرى في واجبات الأنوثة الأبدية.
من فيلم منزل Housu 1977
المنزل كمجاز نسوي
يمكن الانطلاق من مجاز المنزل للنظر إلى مفهوم البيت والأنوثة، خصوصًا في تمثيلات المنزل السينمائية، المنازل مساحات حميمة، مريحة، تنشأ في الأساس لتصبح ملاذ القادم من الخارج، لكن تلك الراحة يهيئها شخص ما عادة ما يكون ذلك الشخص هو ربة المنزل خصوصًا في سنوات أقدم من التي نعيشها، وعلى الرغم من التطور الظاهري للأدوار الجندرية فإنه لا يزال من الطبيعي أن تقوم النساء بواجبات منزلية غير مدفوعة، تبدو وكأنها تقام من تلقاء نفسها فالقادم إلى المنزل يجده نظيفًا و يجد وجبة ساخنة تطفئ جوعه وتعبه، الاعتناء بالمنازل يتطلب عمليات مضنية، مستمرة وتكرارية من العناية الدقيقة، يمثل المنزل للنساء عبئًا بجانب كونه مساحة حميمة وشخصية، وتمثل كل امراة دورًا معينًا حسب عمرها، فهي ابنة في صغرها ثم زوجة ثم أم، في مرحلة المراهقة يمكن للمنزل أن يكون سجنًا حرفيًا ووسيلة للعقاب، وفي المراحل التالية يمثل المنزل مسئولية مضنية تلمع بها مساحة من الحميمية من حين لآخر.
استخدم المنزل كمجاز سينمائي للقمع البطريركي في كثير من الأمثلة السينمائية بعضها مباشر وواضح وبعضها أكثر غموضًا ومجازية، بخاصة في بعض الأفلام التي صدرت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، مثلث السبعينيات فترة من الازدهار الحقوقي والنشاط السياسي والنسوي وتغيرًا واضحًا في الأدوار النوعية مثلت تحديًا للأجيال الأقدم ولغير الراضين من الرجال عن تلك التحولات الجديدة، ظهر ذلك القلق في أفلام مثل زوجات ستيبفورد the stepford wives وطفل روزماري rosemary’s baby ومنزل housu وجان ديلمان Jeanne dielman, 23 quai du commerce, 1080 bruxelles، وتم استعادة المجاز ثانية في أفلام معاصرة مثل أم! Mother! أو استخدامه كوسيلة عقابية في العذراء تنتحر The virgin suicides في التسعينيات.
احتلال المنزل والجسد
تنطلق الكثير من أفلام الرعب من فرضية بسيطة ومتكررة، أصبحت مثارًا للسخرية مع مرور الزمن وتم التعديل عليها والتلاعب بها حسب السياق الاجتماعي لكل فترة، وهي انتقال عائلة إلى منزل جديد مثير للريبة، ذلك الإعداد البسيط لما يمكن أن يحدث داخل منزل ما ذي قبو مظلم أو تاريخ غامض أصبح مصاحبًا للنوع الفيلمي منذ بدايته، يفكك الرعب مفهوم المنزل كمكان يمثل الحميمية والدفء إلى مكان تحيا في أركانه المخاوف الدفينة لزائريه، انطلق الروائي الأمريكي إيرا ليفن من تلك الفرضية لخلق رعب نسائي يربط المنازل بالنساء وبالتالي يربط الرعب الكامن فيها بأدوارهن الاجتماعية المفروضة، ظهر ذلك في رواية زوجات ستيبفورد ورواية طفل روزماري، كلتا الروايتين تتخذ من الخوف من فقدان السيطرة على الجسد الأنثوي موضوعًا لها، ويرتبط ذلك الخوف من الاستباحة بكون النساء جزءًا من منازلهن فإذا تم اجتياح المنزل يؤدي ذلك إلى اجتياحهن، فتنقلب طبيعة الرعب الخارجي إلى رعب داخلي لا يتعلق بأشباح أو شياطين قابعة في ظلام المنازل والغرف، بل بطبيعة الأدوار الجندرية وصعوبة فصل النساء عن منازلهن.
مشهد من فيلم Rosemary’s Baby 1968
في عام 1968 اقتبس المخرج البولندي رومان بولانسكي رواية طفل روزماري، حولها إلى فيلم أصبح من أكثر أفلام الرعب أيقونية في تاريخ النوع، يعد ذلك إحدى سخريات القدر الكبرى نظرًا لسمعة بولانسكي المشوهة خصوصًا في ما يخص استباحة أجساد النساء، لكن بعيدًا عن حياته الشخصية، فإن فيلمه يقف بذاته إذا اعتمدنا نظريات موت المؤلف، فإن طفل روزماري أحد أكثر أفلام الرعب النسوية اتقانًا وتأثيرًا، يبدأ الفيلم بالإعداد النوعي الشهير بالانتقال إلى منزل جديد، زوج وزوجة سعيدان رجل وسيم (جون كاسفيتيس) وامراة رقيقة هشة كالملاك ذات جمال طفولي أكثر منه أنثوي (ميا فارو) ينتقلان إلى منزل في مبنى قوطي قديم، منزل كبير بأعمدة خشبية وخزانات قديمة وتاريخ غير مطمئن.
يكمن الرعب في شكله الرئيس والمبدئي في استباحة المنزل نفسه في البداية، مرة بعد مرة يجتاح جيران روزماري منزلها، تتطفل عليها جارتها دون تحفظ، تنظر إلى الداخل وتتعدى على خصوصيتها وخصوصية منزلها، يعد ذلك أول خطوة في الرعب الأكبر وهو استباحة أو احتلال الجسد الأنثوي نفسه بعد استباحة المنزل، يتعامل فيلم ورواية طفل روزماري مع المخاوف المتعلقة بالحمل، فالطفل في تعريفه البدائي هو كائن طفيلي يسكن جسدًا ليس له، يتغذى عليه ليكبر ويستنزف كل قواه عندما يأتي ميعاد خروجه، لكن في حالة روزماري فإن التطفل على الجسد يأخذ أبعادًا أكثر شيطانية ورعبًا، باتفاق ومؤامرة متشابكة بين زوجها الذي يفصلها عن العالم الخارجي ويبقيها في المنزل وجيرانها المتطفلين.
تفقد روزماري كل اتصال آدمي خارج منزلها، يصبح المنزل أشبه ببيت الدمية إذا استعرنا تعبير مسرحية هنريك إبسن الصادرة عام 1879 «منزل الدمى»، وتصبح روزماري فاقدة للتحكم في جسدها يحركها الآخرون مثل دمية في جسد امرأة ناضجة، ، ويسهم الفيلم في ترسيخ تلك الصورة أكثر بتصميم شخصية روزماري، فهي أشبه بدمية جميلة لديها ذوق يتماشى مع موضة الستينيات لكنه غير جنساني، ملابسها التي صممتها أنثيا سيلبرت أشبه بملابس الأطفال، ياقات كبيرة وأثواب فضفاضة تخفي ما تحتها، ومنزلها نفسه على الرغم من كونه قوطي وقاتم فإنها طوعته حسب ذوقها الرقيق، غرف يزينها الأصفر والوردي وذوق يجمع ما هو محافظ وجديد.
ميا فارو في فيلم rosemary’s baby 1968
طيلة أحداث الفيلم يتم التلاعب بأفكار روزماري المتعلقة باحتلال جسدها عنوة لخدمة الشيطان، يتم تنويمها وفصلها عن العالم واتهامها بالجنون، يتم استخدام أنوثة روزماري وطبيعة دورها الجندري لأهداف خاصة، ولكي يتم استدراجها إلى كل ذلك يصبح المنزل فخًا لها، ويتحول النعيم المنزلي المزعوم إلى كابوس من فقدان التحكم في الجسد والمصير، اتخذ إيرا ليفن من تيمة المنزل كفخ للنساء موضوعًا لروايته زوجات ستيبفورد التي اقتبست في فيلم عام 1975 من إخراج بريان فوربس بشكل أكثر وضوحًا.
المنزل كفخ للنساء
يبدأ زوجات ستيبفورد بفرضية مشابهة لكل أفلام الرعب ولطفل روزماري تحديدًا، فالأحداث تنطلق من الانتقال إلى منزل جديد، منزل يعد بالنعيم والدفء الأسري بعيد عن المدينة، لكنه يهدد بشكل مبطن بترسيخ دور نوعي على الزوجة، فعلى عكس روزماري بطلة زوجات ستيبفورد امرأة ذات طموح مهني، وأسلوب مختلف في مظهرها واختياراتها في الأزياء، تمثل روح السبعينيات بمجموعة ملابس تضم بناطيل واسعة وسترات ملونة، شعر طويل حر ومظهر ناضج، لكن عندما تنتقل جوانا (كاثرين روس) إلى منزلها الجديد يبدو وأن كل نساء القرية التي اختارها زوجها يعيشن في أوائل القرن العشرين، يرتدين الفساتين الطويلة ذات الطبقات ويعتمدن تسريحات شعر معقدة، لا تملك أي منهن طموحًا للعمل أو تجرؤًا على معارضة زوجها.
مشهد من فيلم the stepford wives 1975
يتخذ زوجات ستيبفورد منهجية أكثر مباشرة في إرساء مجازاته النسوية، فالرعب الكامن في الفخ المنزلي يهدف إلى غاية محددة وهي تحويل النساء إلى ربات منزل عنوة، ربات منزل من زمن آخر لا يملكن من أنفسهن شيئًا ولا تخطر في أفكارهن أي شيء غير الواجبات المنزلية اليومية، طهي الطعام والاعتناء بالنظافة وخدمة الرجال والأطفال، مثل روزماري فإن التيمة الرئيسية هي الخوف من احتلال الجسد واستباحته، وهنا يصبح ذلك أكثر حرفية وتستبدل الأجواء المتعلقة بالسحر الأسود وعبادة الشياطين بأجواء خيال علمي تجعل من احتلال الجسد عملية غير بيولوجية مثل الحمل بل عملية رقمية تستبدل أجساد الزوجات الحداثيات بأجساد أخرى آلية تشبه مظهرهن لكن تفتقد أرواحهن، مثل روزماري فإن البيوت التي يصورها زوجات ستيبفورد جميلة المظهر شاسعة المساحة ملونة مثل منازل الدمى، وتصبح النساء فيها دمى دون وعي، يترسخ ذلك ليس عن طريق تصميم الشخصية والحركة مثل فيلم روزماري بل بواسطة الحبكة الرئيسية نفسها، النساء بطبيعتهن الآدمية غير كافين لسكن تلك المنازل التي تستلزم دمى حية في المظهر والتصرفات، وعن طريق مؤامرة كبرى أخرى يحقق سكان القرية من الرجال تلك المثاليات العائلية التي يفتقدونها في العالم المتطور، العالم الذي يفصل النساء على منازلهن.
مشهد من فيلم mother! 2017
في عام 2017 قرر المخرج دارين أرنوفسكي صناعة فيلم رعب إلهامه الرئيسي هو طفل روزماري عنونه «أم!»، يحكي الفيلم قصة زوجين ينتقلان كذلك إلى منزل أو على الأحرى يعيدان بناء منزلهما السابق ويبدآن من جديد، تقوم الزوجة بكل واجباتها المنزلية ولا نراها ولا مرة خارج حدود العتبة الرئيسية للمنزل، بينما يعمل الزوج كشاعر ممتلئ بذاته ينتظر الإلهام، يصور الفيلم الشخصية النسائية في شكل فتاة تجمع بين الرقة الشديدة والجنسانية غير المقصودة فهي تمثل الأمومة والأنوثة وطهر الأرض غير المدنس، مع مرور الأحداث يتضح أن الفيلم بأكمله استعارة عن قصة الخلق وتمثل كل شخصية رمزًا ما، فيصبح من الصعب تحليله من ناحية الأدوار الجندرية، لكن يمكن تجاهل نوايا أرنوفسكي الواضحة في التعليق على حال الإنسان واستباحته للطبيعة الأم دون هوادة، والنظر إلى الفيلم باعتباره رعبًا منزليًا نسائيًا آخر.
يتعامل «أم!» مع خوف حقيقي وملموس من اجتياح الغرباء للمنزل واستباحته كليًا حتى يصبح حطامًا، يتضافر مع ذلك استباحة لربة ذلك المنزل التي تبدو وكأنها جزء منه، لا تملك تحكم في وجودها ولا تملك القوة على طرد المعتدين لأن ذلك سوف يغضب زوجها، يتحول الفيلم مع الوقت من الاعتداء على المنزل باعتباره رمزًا للأرض إلى الاعتداء على المرأة نفسها باعتبارها رمزًا للطبيعة المضحية ويتقاطع ذلك مع كونها زوجة وأمًا مضحية كذلك فهي تعطي كل شيء لزوجها ومنزلها ولا تأخذ في المقابل، تمضي وقتها في تأسيس منزلها، تعتني به، تطلي جدرانه وتهتم بما يصيبه، وفي المقابل يتم احتلاله واحتلالها، يصعب ضم فيلم «أم» للأفلام المبنية على روايات ليفن لأن شخصياته جزء لا يتجزأ من رغبة صانعه في التركيز على الإحالات الدينية والرمزية، حتى مع اختيار تمثيل الإله كذكر متعجرف والأرض كأنثى معطاءة، إلا أن ارتباطه بالرعب المنزلي النسائي يبقى ظاهريًا ولا يدلف للباطن.
المنزل كمساحة نسائية
في روايات ليفن والأفلام المقتبسة عنها يتم قلب الطبيعة الحميمة والدافئة للمنازل والأسر التي تسكنها إلى مصدر للرعب الجندري عن طريق سرديات تتراوح بين الخيال العلمي والشيطانية، وتفكك المفاهيم التي تربط النساء بشكل غير منفصل بالمنازل، حيث تصبح أعمالهن فيها غير طوعية وغير مرئية، لكن روايات ليفن على الرغم من تقدمها الفكري وحداثيتها ونقدها الحاد للأنظمة الابوية فإنها مكتوبة من وجهة نظره كرجل ومن اقتبسوها رجال كذلك، لا ينقص ذلك من كونها أعمالًا فنية ذكية ومتفهمة لمشكلات النساء لكن في الفترة الزمنية نفسها التي صدر فيها فيلم زوجات ستيبفورد في أمريكا، صدر فيلم آخر يركز على النساء والمنازل لكن من إخراج وكتابة امرأة تعي تمامًا ما يعنيه المنزل والدور النوعي المرتبط به، فيلم «جان ديلمان 23 كوميرس كواي، 1080 براسل» للمخرجة البلجيكية شانتال اكرمان صدر في عام 1975، لا يمكن تصنيفه كفيلم رعب بل لا يمكن تصنيفه من الأساس هو فيلم ينبذ الأنواع والتصنيفات بل والقيم السينمائية المتعلقة بالحدث والنتيجة.
مشهد من فيلم jeanne dielman, 23 quai du commerce, 1080 bruxelles
يتبنى الفيلم سردية نسائية نادرة تتخذ من الأماكن التي يقضي فيها النساء أوقاتهن بطلًا ويصبح الوقت الذي تمضيه امرأة في منزلها يوميًا دون أحداث كبرى هو مصدر راحة ورعب في الآن ذاته، بشكل أكثر دقة وتعقيدًا من روايات ليفن ومن دون مجازات تتعلق بالاستباحة، يتبع جان ديلمان بطلته (ديلفين سيريج) أثناء ممارستها للأعمال المنزلية اليومية- لاحظ أن عنوان الفيلم هو اسم البطلة وعنوان منزلها- دون تسريع للعملية فكل ما يمكن اعتباره هامشًا في الأفلام الأخرى هو متن في ذلك الفيلم، كل الأحداث المثيرة يتم استئصالها وتبقى الأحداث المخفية، الطعام الذي يأكله الابن هو الحدث، إعداد السرير هو الحدث، الروتين اليومي هو الحياة الحقيقية ما يتخلله هو الاستثناء، يمكن اعتبار اختيارات أكرمان السردية نبذًا لأوضاع الحكي الرجالية، فإذا كانت مشاهد الحركة سمة رجالية فلا مكان لها في الفيلم، التكرار سمة الحياة النسائية، وليس المفاجأة أو الأحداث الواقعة خارج المنازل.
جان ديلمان هو ما يحدث بينما تحدث الأحداث المثيرة التي نستمتع بها في الأفلام، يجعل ذلك التوجه من الفيلم عملية طويلة من المراقبة، من المواجهة الحية مع ما لا نواجهه في العادة وهو العمل غير المرئي للنساء، ويصبح المنزل هو محط الأحداث الرئيسي لكنه ليس منزلًا جديدًا مثل أفلام الرعب بل منزل أصبح جزءًا من هوية ساكنته الأرملة ذات الابن المراهق الذي لا يرى منها غير وجبة طعامه وسريره المعد، يتخلل ذلك الروتين المضني عمل خفي يعامله الفيلم كجزء هادئ من روتين جان ديلمان اليومي، كل يوم بعد تجهيزها لحذاء ابنها ووجبة إفطاره يزورها أحد الرجال، يدخلان غرفة ويخرجان ثم يحاسب مجهوداتها بالمال الذي تحتفظ به في إناء صيني مزخرف، ينهار نعيم جان المنزلي عندما يضطرب روتينها اليومي، وعندما تفيق لحجم ما تقدمه مقابل الفتات، يكمن الرعب هنا في التكرار المضني والدقة الشديدة في تنفيذ كل مهمة في وقت محدد، عندما تبدأ جان في مهامها متأخرًا أو مبكرًا يبدأ الاضطراب، فجزء من هويتها كامرأة ينهار عندما تجلس دقائق دون عمل منزلي تصنعه، فهي لا تعلم ما يمكن فعله غير ذلك ولا هوية لها خارج منزلها.
سوف يظل رعب المنازل جزءًا رئيسيًا من أفلام الرعب، فهي مساحات مغلقة معبقة ببقايا الماضي، ويرتبط وجودها بعبء اجتماعي يتعلق بأدوار النساء بها وطبيعة الحياة الأسرية اليومية، ولا يزال تأثير أفلام وروايات السبعينيات حاضرًا بقوة في الوعي الجمعي والتجارب السينمائية الجيدة مثل فيلم «لا تقلقي عزيزتي» Don’t Worry Darling، وربما لن يتوقف ذلك التأثير ما دامت المنازل مصدرًا للراحة للبعض وعبئًا لا فكاك من أنيابه للبعض الآخر.