حرب المستضعفين: كيف خاض الشيشانيون حروبهم ضد روسيا؟
امتد الصراع الشيشاني الروسي منذ ما يزيد على أربعة قرون. ولقد كانت ملحمة الشعب الشيشاني في الحربين الأخيرتين ضد روسيا من ضمن المعارك الاستثنائية والمذهلة في حروب التحرير الوطنية المعاصرة، والتي للأسف غفل عنها الكثير، ونادرًا ما وُثقت هذه التجربة، أو كُتب عنها من منظور تكتيكي عسكري، وهو أهم ما يميزها، حيث قام شعب صغير ومحاصر بمحاربة عدو ضخم، وأبدى قدرة على الدخول في صراع غير متكافئ مع أحد أكبر الجيوش في العالم، والذي لا يتفوق عليهم أضعافًا في كل شيء فقط، بل حتى المقارنة تنعدم تمامًا، ومع ذلك استطاعت ثُلَّةٌ قليلة من الشيشانيين ابتكار لوجستيات وتكتيكات جديدة في حربهم ضد الروس، وانتصروا عليهم في معركة تلو الأخرى، وكبدوهم خسائر فادحة، فضلًا عن الهزيمة العسكرية المذلة التي تعرضت لها القوات الروسية في العام 1996.
وأحد الكتب القليلة التي تحدثت عن الملحمة الشيشانية من منظور تكتيكي واستراتيجي، هو كتاب: Fangs of the Lone Wolf: Chechen Tactics in the Russian Chechen Wars 1994-2009. أنياب الذئب الوحيد: التكتيكات الشيشانية في الحروب الشيشانية الروسية 1994-2009. للمؤلف: Dodge Billingsley – دودج بيلينغسلي.
لعل هذا الكتاب هو أفضل دراسة تناولت الصراع الشيشاني الروسي من زاوية تكتيكية وعسكرية. فهذا الأمر حفزني على أن أتناول الكتاب بالشرح والتلخيص، وإلقاء الضوء على أهم ما جاء بين طياته، عسى أن يكون هاديًا للمهتمين بملف الصراع الشيشاني الروسي.
يسرد المؤلف دودج بيلينغسلي بشكل مفصل التكتيكات والاستراتيجية والمعدات العسكرية المستخدمة من قبل الجانبين: الروسي والشيشاني، لكن الأهم في الكتاب، هو في فهم حرب الشيشان من الداخل، وكيف كان تصور القيادة الشيشانية للأحداث؟ كيف وضع الشيشانيون الاستراتيجيات والمناورات التكتيكية لحروبهم؟ وما هي الصعوبات التي واجهتها المقاومة الشيشانية؟ يجيب المؤلف عن كل ذلك من خلال سرده لحوالي ثلاثين معركة، إضافة إلى رسمها وتوضيحها من أجل إعطاء القارئ صورة رائعة عن كيفية حدوث كل معركة. كما ينقل لنا المؤلف من خلف الكواليس، أحداث المعارك التي شهدتها مدينة غروزني، وأرجون، وباموت، وسرجين يورت، مع سرده للعديد من المقابلات التي أجراها مع المجاهدين الشيشان، والذين يحكون قصص نجاحهم وهزائمهم. أيضًا يغطي المؤلف الكيفية التي أدارت بها القوات الروسية الحربين الأولى والثانية.
إلى حد ما، الكتاب به صورة كاملة عن الصراع من الناحية العسكرية، ويتميز بأشياء كثيرة، من أهمها: الخرائط التي وضعها المؤلف، وإن كان يعيبها أنها من دون تضاريس طوبولوجية(1)، لكن هناك بعض الملاحظات على الكتاب، فكما كان المؤلف متزنًا جدًّا في السرد، وحافظ على أسلوبه المنهجي وبعده تمامًا عن المبالغة أو الانتصار لبطولات المقاومة الشيشانية، إلا أنه أخفق تمامًا في أجزاء عديدة من الكتاب، منها عدم فهم دوافع وأسباب الشيشانيين إلى خوض هذا الصراع، وأيضًا جهل المؤلف الشديد بالإسلام، حيث يُعد التزام المقاتلين الشيشان بحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية بسبب تأثير الوهابيين! في حين أن كل طوائف ومذاهب المسلمين بكل أشكالها تقوم بذلك(2)، ويبدو أن المؤلف لم يعتمد هنا على مصدر أصلي، أيضًا فصول الكتاب غير مرتبة، حيث يتناول المؤلف أحداث الحربين ذهابًا وإيابًا، وبالرغم من ذلك، فإن هذا لا يقلل من أهمية الكتاب بشكل عام.
عن المؤلف: دودج بيلينغسلي
ولد بيلينغسلي(3) في العام 1962 بالولايات المتحدة الأمريكية، حصل على بكالوريوس في التاريخ من جامعة كولومبيا، ثم ماجستير في دراسات الحرب من King’s College بلندن عام 1995. عمل محررًا وكاتبًا في العديد من المجلات المتعلقة بالدفاع والأمن العسكري، مثل مجلة (OE Watch) التابعة للجيش الأمريكي، وهو أيضًا محاضر وزميل في مركز كينيدي للدراسات الدولية بجامعة «بريغهام يونغ»، وعضو هيئة التدريس في مركز العلاقات المدنية العسكرية التابع لكلية الدراسات العليا بالبحرية الأمريكية (ص٣).
وإضافة إلى محاضراته وأعماله المكتوبة، فإن بيلينغسلي أنتج وأخرج العديد من الأفلام الوثائقية المرتبطة بتجاربه الميدانية، كما قام بتأسيس Combat Films and Research، وهي مؤسسة مستقلة تقوم بإنتاج أفلام وثائقية عن الصراعات والتوترات المعاصرة في أنحاء العالم، وأنتجت العديد من الوثائقيات عن: الشيشان، وأفغانستان، ومالي، وزنجبار، والعراق، والهند، والصين، وكوريا الشمالية والجنوبية.
وفي منتصف التسعينيات ذهب بيلينغسلي إلى منطقة القوقاز كصحفي ومراسل حربي لتغطية الحرب فيها، وأمضى عدة سنوات في تغطية الحرب الشيشانية الأولى والثانية، كما أجرى عددًا من المقابلات في الكهوف مع المقاتلين الشيشان، ويزعم أنه ارتبط بعلاقة وثيقة مع «شامل باساييف» والمقاتلين الذين كانوا معه، وفعلًا له العديد من اللقاءات المصورة مع شامل. إضافة إلى أن بيلينغسلي أخرج وأنتج فيلمين وثائقيين عن الشيشان.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان بيلينغسلي من أوائل الصحفيين الذين ذهبوا إلى أفغانستان، وكان موجودًا وقت حصار القوات الأمريكية لـ «قلعة جانجي»، والقبض على الأمريكي «جون ووكر» في نوفمبر 2001، وقام بتوثيق – حسب منظوره – معركة جانجي في فيلمه (House of War)، وهو الفيلم الذي فاز بجائزة «روري بيك»، وجائزة أفضل فيلم من الجمعية الملكية للتلفزيون. كما ذهب بيلينغسلي مع القوات الأمريكية في منطقة «شاه كوت» بشرق أفغانستان، لتغطية العملية العسكرية المعروفة باسم: «أناكوندا» – معركة أمريكا الأولى في أفغانستان – وأنتج عنها فيلمًا وثائقيًّا مصاحبًا لكتابه عن عملية أناكوندا بعنوان Shah-i-Khot: Valley Redoubt.
أيضًا شارك بيلينغسلي في تغطية احتلال القوات الأمريكية للعراق في العام 2003، وأخرج عنها فيلمًا مهمًّا جدًّا بعنوان: (Virgin Soldiers). وما زال ينتج العديد من التقارير والأفلام الوثائقية عن تجاربه الميدانية، وحاليًّا يلقي محاضرات في العديد من الجامعات والمؤسسات العسكرية الأكاديمية.
أنياب الذئب الوحيد
صدر هذا الكتاب(4) في العام 2013 عن دار النشر Helion & Company في المملكة المتحدة(5)، وهي دار متخصصة في إصدار كتب عن التاريخ العسكري ودراسات الدفاع. وكما هو واضح من عنوان الكتاب، فإنه يهتم في المقام الأول بسرد التكتيكات العسكرية التي استخدمها المجاهدون الشيشان خلال آخر حربين لهما مع روسيا، الأولى: من عام 1994 إلى عام 1996 والثانية: من عام 1999 إلى عام 2009(6).
والهدف مِن تأليف الكتاب ليس التأريخ بقدر ما هو استكشاف للكيفية التي تمت بها العديد من المعارك الكبيرة والصغيرة التي سطرها الشيشانيون، إذ يرى المؤلف أنَّ التجربة الشيشانية غائبة وغير معروفة، فلم يتم تغطيتها في وسائل الإعلام، ولم تأخذ أي حيز ثقافي أو أكاديمي رغم أهميتها، إضافة إلى أن من قاموا بالتجربة نفسها، نادرًا ما قاموا بتوثيقها. وفي الصفحات الأولى، يوضح المؤلف صوت ونبرة الكتاب، فيقول:
يبلغ عدد صفحات الكتاب 209 صفحات من القطع الكبير، مقسمة إلى عشرة فصول وخاتمة بها استنتاجات. الفصل الأول اسمه: «موجز لتاريخ الصراع الشيشاني»، وفيه يقدِّم المؤلف ملخصًا ضعيفًا جدًّا في سبع صفحات، وافتقر إلى تقديم تفاصيل أساسية، لكنه يزود القارئ بجدول زمني وخلفية قصيرة موجزة عن الصراع بداية من انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبشكل عام، يُمكِن تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول عن «الدفاع»، وفيه يركز المؤلف على أشكال الدفاع العسكري التي قام بها الشيشانيون، ويشمل الفصول: 2 و 6 و 7. وأما الجزء الثاني فهو عن: «الهجوم» ويحتوي على تحول المقاومة الشيشانية من خانة الدفاع إلى الهجوم، وطريقة عمل حرب العصابات الحديثة في الشيشان، ويشمل الفصول: 4 و 9 و 10. وأما الجزء الثالث فهو عن: «التكتيك والاستراتيجية» وفيه يرصد المؤلف الإبداعات التكتيكية والعسكرية التي قام بها الشيشانيون من أجل التغلب على الروس، ويشمل الفصول: 3 و 5 و 8. وأما الفصل الحادي عشر فهو استنتاجات.
الصراع البارد: مسار المواجهة (1991-1994)
الشيشان بلد صغير جدًّا، تبلغ مساحته 15,800 كلم²، ويعيش وضعًا جغرافيًّا خانقًا، حيث يقع على الركن الجنوبي لروسيا، ومطوق من كل ناحية بالنفوذ الروسي. تُشكِّل الوديان والجبال جزءًا كبيرًا من مساحة الشيشان، نحو النصف من أراضيه، وخصوصًا الشمال الذي يتكون من السهول والجبال، وهو معزول عن بقية البلاد بواسطة «نهر تيريك». يعيش معظم السكان البالغ عددهم حوالي مليون ونصف مليون نسمة في السهول المتدحرجة، والتي تقع بين «نهر سونزا» والوجه الشمالي لجبال القوقاز. ويدين غالبية السكان بالإسلام، ويتبعون المذهب الشافعي.
وفي فضاء ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي سارعت الشيشان لانتزاع حريتها، وأعلنت استقلالها عن روسيا في العام 1991، وأعلن الجنرال في سلاح الجو السوفيتي سابقًا: «جوهر دودايف» قيام «جمهورية إشكيريا الشيشانية»، وأصدر أوامره بإيقاف عمل المؤسسات الروسية، ثم تبع ذلك بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الشيشان، إلى أن أعلن في 12 مارس 1992 الدستور الشيشاني الجديد. وعلى إثر ذلك، حاولت روسيا قلب الموازين، وإعادة الأوضاع إلى السابق، وبالفعل أرسلت قوات عسكرية روسية مع المعارضة التابعة لها، وحاولت 50 دبابة روسية الاستيلاء على القصر الجمهوري، وإقامة نظام دمية تابع لموسكو، عندها سمحت قوات دواديف الخاصة بقيادة شامل باساييف بدخول الرتل العسكري، ليطوقوه في حركة كماشة، وليتخلصوا منه بكل سهولة، وبالفعل استطاعت قوات باساييف إفشال العملية، وأسر عدد كبير من الروس.
بعدها قامت موسكو بفرض سياسة الحصار الاقتصادي على الشيشان، من أجل خنق نظام الرئيس الشيشاني جوهر دودايف اقتصاديًّا، كما دعمت موسكو عدة محاولات عسكرية للإطاحة بدودايف، وكان أشهرها دعم شخصيتين شكلوا متاعب كثيرة لنظام دودايف، هما: «بيسلان غانتيميروف» و«رسلان لابازانوف»، حيث دعمتهما موسكو بالسلاح وببعض كتائب من الجيش الروسي، وقام الاثنان خلال صيف وخريف عام 1994 بعدة محاولات مسلحة قوية للإطاحة بدودايف والاستيلاء على السلطة، لكن دودايف استطاع في نهاية المطاف وبعد جهد كبير، القضاء على المعارضة المدعومة من روسيا، وعلى كل المحاولات المتكررة للإطاحة العسكرية به، لتفشل بذلك ورقة روسيا في قلب الأوضاع داخليًّا، ومن ثم بدأت حربها الأولى على الشيشان في نهاية العام 1994.
الحصن الخالد
بدأ الهجوم الروسي أولًا بالضربات الجوية، ثم تبعه الهجوم البري من الأمام على المحور الشرقي والغربي، في البداية تحصن الشيشانيون في مواقعهم العسكرية في المدن، وخاضوا العديد من المعارك الدفاعية، وبالفعل أُجبِر الروس على التراجع وإعادة تجميع صفوفهم، لكن لم تتمكن المقاومة من الاستمرار في الدفاع بسبب نقص في إمدادات الغذاء والذخيرة بشكل مزمن، ومع ضغط سلاح الجو الروسي من ناحية أخرى، والذي أجبرهم على التغيير في تكتيكاتهم، حيث كانت المقاومة الشيشانية تترنح بشكل كبير، وفقدت العديد من المدن والبلدات الرئيسية. وبحلول مايو 1995 سقطت العاصمة غروزني، وأرغون، ومعظم القرى في السهول، وفي ذلك ستاريي أتاجي، ونوفيي أتاجي، وشالي.
بعد هذا السقوط بشهر واحد، تحديدًا في يونيو 1995، أمر الجنرال «أصلان مسخادوف» معظم الكتائب الشيشانية بالانسحاب من المواقع العسكرية في المدن والبلدات، والذهاب إلى التلال والجبال، والتي كانت تاريخيًّا حصن البقاء القومي للشيشانيين، ونقل مسخادوف مقر هيئة الأركان العامة الشيشانية إلى غابات سيرجين يورت. لكن الانسحاب من النقاط الموجودة في المدن لم يكن عشوائيًّا، بل كان على فترات متقطعة، مع وجود قوة خلفية تحمي المنسحبين. كانت المقاومة الشيشانية بحاجة إلى إبطاء التقدم الروسي من أجل أن تستطيع جمع صفوفها، وإعادة انتشارها بشكل شبه نظامي في الجبال، ولذلك كان الانسحاب بطيئًا.
وبعدها قامت الكتائب الشيشانية بالسيطرة أولًا على سلسلة من البلدات والقرى الموجودة على أطراف الجبال الممتدة من: باموت في الغرب، وتشيري يورت في الوسط، وسيرجين يورت في الشرق، كانت كل هذه المدن ذات أهمية استراتيجية، وإذا تمكنت القوات الروسية من السيطرة عليها، فسيتم عزل أفراد المقاومة عن سكان المدن الحضرية، وبالتالي تفقد المقاومة خطوط الدعم الأساسية. إضافة إلى أن اختراق «جبهة سيرجين يورت» سيمكن القوات الروسية من احتلال النصف الشرقي والغربي بكل سهولة، حيث يتواجد في النصف الشرقي الجنرال مسخادوف، وفي النصف الغربي يتواجد الرئيس الشيشاني جوهر دودايف.
حفرة الذئب
ظلت القوات الروسية مستمرةً في نهج السيطرة على المدن، وبدأ الشيشانيون جهادهم من التلال والجبال على شكل بناء تحصينات شبه دفاعية، حيث قاموا ببناء دفاعات متعددة وحفروا الخنادق لتجنب الاستهداف من قبل المدفعية الروسية، كما سيطروا على بعض خطوط النقل والاتصال الحيوية.
وفي الناحية الأخرى، بدأت القوات الروسية الجوية في ضرب المواقع الجديدة للمقاومة الشيشانية، ومن 8 : 10 مايو قصفت خمس طائرات من طراز Mi-24 جبهة سيرجين يورت، عندها طلب «شامل باساييف» – القائد الميداني المتحرك في كل الجبهات والمسئول الرئيسي عن جبهة سيرجين يورت – من مسخادوف كتائب إضافية للحفاظ على الجبهة، فأرسل الأخير له الكتيبة الإسلامية التي كانت تحت قيادة إسلام حليموف، وكتيبة الحرس الرئاسي المكونة من 30 مقاتلًا.
فشل الهجوم الجوي، وبدأت الوحدات المدفعية الروسية في الانسحاب من مناطق تجمعها في المدن استعدادًا لشن هجوم على المواقع الجديدة للمقاومة الشيشانية، وبدأ الهجوم بقصف مدفعي وجوي مكثف ضد الدفاعات الشيشانية في: سيرجين يورت، ودوبا يورت، وتشيري يورت، واستمر القصف الجوي والمدفعي لأيام. رغم ذلك استطاعت المقاومة الشيشانية الصمود بفضل التنسيق الرائع بين الكتائب المدافعة، والأهم هو استخدام المقاومة لـ «سلاح الحفر» أفضل صديق وحليف للشيشانيين، حيث حفروا عند مواقعهم الدفاعية سلسلة من الخنادق لحماية أنفسهم من القصف المدفعي والغارات الجوية، كما استخدموا التضاريس البيئية بشكل صحيح، وتحملوا الكثير من المثابرة التي تطلبتها هذه المهام، ويحكي المؤلف عن ذلك، فيقول:
وفي 17 مايو بدأ الجيش الروسي في الهجوم البري على مواقع المقاومة الشيشانية، بحسب المؤلف فإن جبهة دفاع سيرجين يورت كانت مقسمة إلى ثلاث كتائب بإجمالي 53 مقاتلًا. تقدم الجيش الروسي عبر مواقع الدفاع، ومن الخنادق التي حفرها الشيشانيون، انتظروا حتى وصل الروس إلى المدى، ومن ثم أطلقوا عليهم السلاح المضاد للدبابات، ولم تتمكن القوات الروسية من اختراق الجبهة، وبحسب ما ذكره المؤلف فإن معظم الأسلحة المضادة للدبابات، هي أسلحة صنعها الشيشانيون محليًّا، وأطلقوا عليها اسم «الشيطان»، ولذلك يقول المؤلف:
بعد أن فشل الهجوم البري الأول على دفاعات المقاومة الشيشانية بدأ هجوم بري ثانٍ في 24 مايو، ويبدو أن الروس لم يكن لديهم أي خيار سوى مهاجمة القوة الشيشانية وجهًا لوجه، بحسب المؤلف فإن أهم ما ميز الشيشانيين هو أنهم وضعوا خططهم بالأساس ليتمكنوا من مساعدة بعضهم البعض إذا بدأت أي مجموعة بالسقوط.
وفي الهجوم البري الثاني لاقت القوات الروسية مقاومة شديدة مرة أخرى، وينقل لنا المؤلف شهادة أحد الجنود الشيشان، حيث قال: «بسبب وجودنا في الغابة لم نتمكن من رؤية تحركات الروس (اختبئوا وراء غطاء الأشجار)، ولكننا تمكنا من تحديد أماكنهم لأنهم كانوا يطلقون النار على دفاعات محمد، وعندها واصلنا القصف بأسلحتنا المضادة للدبابات … وأرسلناهم إلى الجحيم» (ص٣٥).
لقد أجبرت المقاومة الشيشانية الجيش الروسي على الذهاب إليهم في مواقعهم الجديدة، ليستنزفوه بشكل رائع، ولذلك كان النجاح هنا مكون من: استغلال الوقت، والقراءة الممتازة للتضاريس، وفهم نقاط القوة والضعف لدى العدو، من أين سيأتي؟ وماذا سيفعل؟ وكيف سينتشر؟ لدرجة أن الشيشانيين كانوا يعتمدون على تأمين الإمدادات والأسلحة من مداهمتهم للروس، يقول المؤلف:
في نهاية المطاف تخلى الروس عن الهجوم البري الأمامي، وضربوا حصارًا حول مناطق دفاع المقاومة، مع استمرار القصف الجوي المكثف، وتغيرت استراتجية الروس في الهجوم، حيث قرروا ضرب دفاعات المقاومة من الخلف، واحتلوا بالفعل مدينة «فيدينو»، ولذلك غيَّر الشيشانيون تكتيكاتهم مرة أخرى، فتركوا السيطرة على بعض المواقع الدفاعية، وهذا بلا شك ميزة مهمة جدًّا، حيث إن الكتائب الشيشانية كانت تترك مواقعها الدفاعية لمجرد أنها تعتقد أن بالإمكان القيام بالمزيد ضد القوات الروسية من مكان آخر، ولذلك قاموا ببناء مواقع دافعية عديدة، وحيثما كان ذلك ممكنًا.
وبمجرد دخول الروس إلى المناطق التي انسحبت منها المقاومة، كان الشيشانيون يشقون طريقهم على أسلوب حرب العصابات: كتائب مخصصة للغارات السريعة (5-10 أشخاص) وكتائب أخرى للدفاع والهجوم الطويل، مما يدل مرة أخرى على قدرة الشيشانيين على سرعة التكيف والمرونة التكتيكية، يقول المؤلف:
بحسب المؤلف فإن وضع الشيشانيين بعد ذلك كان في تقهقر بسبب القصف الجوي المستمر في كل أنحاء الشيشان(7)، وأيضًا لا نغفل أن النظام اللوجستي الشيشاني كان قائمًا بالأساس على القرى والمدن المحلية التي توفر الدعم الطبي والإمدادات الأساسية، وبالتالي فإن نمط حرب العصابات والعيش في الجبال بعيدًا عن القرى والمدن أفقدهم هذه اللوجستيات. وكادت مدينة «باموت» – آخر معقل دفاعي – أن تسقط بيد الروس.
عند هذا الوضع الصعب، استطاع شامل باساييف إنقاذ الموقف، فخرج من الحصار في نزهة جريئة مع 150 من رفاقه الذين اختبئوا داخل الشاحنات، وتظاهر بأنه يقود قافلة روسية تحمل (قتلى روس) من الحرب في الشيشان، والمدهش تمكنه من اختراق نقاط التفتيش الروسية الواحدة تلوى الأخرى إلى أن وصل إلى مدينة «بوديونوفسك» بجنوب غرب روسيا، وخلال بضع ساعات، اجتاحوا قسم الشرطة والمباني الحكومية، واستطاعوا أسر 1,800 شخص، فيما تشير تقديرات سكان المدينة إلى أنه تم أسر 5000 شخص، وقادوهم إلى مستشفى المدينة، وزرعوا الألغام على كل مداخل المستشفى. أعتقد أن هذه واحدة من أكبر عمليات احتجاز الرهائن بالتاريخ.
كان المطلب الوحيد لباساييف هو وقف إطلاق النار في الشيشان، وبعد فشل محاولات عديدة لتحرير الرهائن، والتي استمرت لأسبوع، وافق الروس على وقف إطلاق النار، والعودة الآمنة لباساييف ورفاقه. وأطلق باساييف سراح جميع الرهائن عدا 150 منهم تطوعوا كدروع بشرية لمقاتليه، وعاد مع رفاقه إلى الشيشان. ادعى العديد من الشيشانيين أن هذا الحدث أنقذ المجهود الحربي للمقاومة الشيشانية، حيث سمح لهم بالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب قوتهم، ولذلك يقول المؤلف:
وبعد هدنة لم تدم طويلًا، استؤنفت الهجمات الروسية، لكن في الجهة الأخرى تمكن الشيشانيون من إعادة تنظيم صفوفهم، ولم يفكك دفاعهم بالكامل، لقد أجادوا الانتقال من موقع إلى آخر، ومن الخندق إلى الخندق، وخاضوا العديد من المعارك الرائعة والناجحة للحفاظ على مدينة باموت، صحيح أن باموت لم تستسلم للروس خلال الحرب الأولى ( 1994-1996) لكنها دمرت تمامًا.
بزوغ الفجر
نادرًا ما كان لدى المقاومة الشيشانية الذخيرة والإمدادات الكافية لشن هجمات كبيرة، حقيقة هذه أكبر مشكلة واجهتهم بشكل متكرر، وحتى لا تنفد اعتمدوا على أسلوب التربص، كالإنهاك والمراوغة، وزعزعة توازن العدو، وإحساسه بوجود فخ أينما ذهب، والاقتراب منه في مواطن لا يتوقعها، وذلك من أجل تدمير المراكز العصبية للعدو، والإدلاء ببيان بأنهم ما زالوا موجودين.
ولقد تطور وضع المقاومة الشيشانية في ساحة المعركة سريعًا، والأهم أنهم دائمًا ما استغلوا الوقت أفضل استغلال، وسرعان ما أعادوا تنظيم صفوفهم، واستعادوا قوتهم للهجوم الواسع. ومن ضمن التحركات العسكرية البارعة التي قاموا بها، هو هجوم مارس 1996، حيث استطاع الشيشانيون بقيادة شامل باساييف التسلل إلى العاصمة غروزني، وشن معركة من الداخل، وبالتالي حيدوا بشبه كامل سلاحي المدفعية والطيران، وحاصروا معظم المواقع الروسية في المدينة قبل أن ينسحبوا سريعًا، كان الهجوم مخططًا له بشكل ممتاز، وأظهر أن الشيشانيين ما زالوا قادرين على ضرب القوات الروسية عبر جبهة واسعة، يقول المؤلف:
بدأت المقاومة الشيشانية في الانتقال إلى مرحلة الهجوم الواسع، وحصار وتطويق الحاميات الروسية. ثم في أغسطس 1996 هاجمت المقاومة العاصمة غروزني مرة أخرى، لكن هذه المرة قتلوا وأسروا وحاصروا جميع الوحدات الروسية في المدينة. كانت هذه هي المعركة الثالثة والأخيرة لغروزني في الحرب الأولى، واضطرت بعدها روسيا إلى الانسحاب من الشيشان في سبتمبر 1996 بعد عام ونصف من احتلالها للعاصمة، ووافق الرئيس الروسي «بوريس يلتسين» على استقلال الشيشان بحكم الأمر الواقع، وتم التوقيع على «اتفاقية خاسافيورت»، والتي اعتبرها العديد من قادة الجيش الروسي بمثابة «صك الاستسلام»، ولذلك لم تنتهِ الحرب بعد.
ورغم عدم انحياز المؤلف في سرد أحداث المعارك، إلا أنه يبدو عليه الإعجاب بما فعلته المقاومة الشيشانية، حيث يقول:
أيضًا يصف «أناتولي كوليكوف» قائد القوات الروسية في الشيشان إبان الحرب الأولى، والذي اعتبر أن اتفاق خاسافيورت خيانة عظمى للدولة والجيش، فيقول متحدثًا عن القادة الشيشان:
ومع انسحاب القوات الروسية من الشيشان، شرع الشيشانيون في إعادة بناء دولتهم الهشة والمدمرة، سيطر القادة العسكريون على السياسة، وظهرت الانقسامات حول العديد من القضايا، وبالأخص انقسام الطبقة السياسية والعسكرية، وانتشرت أعمال عنف وجرائم في جميع أنحاء البلد. ذكر معظم القادة الشيشان أن روسيا والشيشانيين الموالين لها هم الذين افتعلوا هذه الجرائم. وأضيف لذلك أن الحرب تركت عِبئًا مجتمعيًّا كبيرًا على الشيشان، واستنزفتهم وأرهقتهم من كل اتجاه، وخصوصًا عبء رعاية الآلاف من المدنيين الجرحى، مع شبه انعدام في البنية التحتية والمقومات والخدمات الأساسية للجمهورية الصغيرة، فهل انتصرت الشيشان وانهزمت داخليًّا؟!
الوهابيون في الشيشان
يزعم المؤلف أن المجاهدين العرب، أو ما أسماه بـ «الوهابيين»، كان لهم دور وتأثير أيديولوجي كبير في تحول الشيشانيين من وطنيين قطريين إلى خلافيين، أي يسعون لإقامة خلافة إسلامية، ويعد المؤلف قدوم المجاهدين العرب إلى الشيشان من أهم إحدى نقاط التحول في الملحمة الشيشانية، كما أنه يعتبر أن شامل باساييف هو أوضح مثال على هذا التحول، ويذكر المؤلف أن شامل قبل لقائه مع خطاب والمجاهدين العرب، كان يؤمن بكيان سياسي علماني، ولم تكن فكرة الوحدة الإسلامية موجودة لديه، ولذلك يقول:
وفي لقاء للمؤلف مع «شامل» عام 1997 سأله عن رأيه في دور الإسلام في الحياة اليومية للشعب الشيشاني، فأجابه شامل بالقول: «لا يمكن للإسلام أن يلعب دورًا ما في الحياة عندما تكون الحياة في حد ذاتها هي الإسلام» (ص٢٥).
يعتبر المؤلف أن جواب شامل مثَّل خروجًا على النظام الاجتماعي الديني الذي يعيشه معظم الشيشانيين، حيث يرى المؤلف أن دور الدين في المجتمع الشيشاني كان في حدود المسجد والتصوف الروحي(9). ويعتبر المؤلف أن الدين كان يُنظر له كأحد المكونات الأخلاقية، وليس نوعًا من الأساس السياسي الذي حاول الشيشانيون أن يقيموا عليه بعد ذلك. وفي أكثر من موضع في الكتاب، يحاول المؤلف أن يعطي تفسيرًا لتأثير «خطاب» الأيديولوجي، لأنه يعتبر أن التقاليد الصوفية، والبيئة الشيشانية لا يمكن أن تقبل بوهابي كخطاب، والذي كان يقوم بتدريس الوهابية بحسب المؤلف! ولذلك يقول:
وعن سر انجذاب شامل لخطاب والعكس، سألت المؤلف عن ذلك، فأجاب:
الفريسة المطاردة
بحسب المؤلف، فإن روسيا لم تكن لتترك الشيشان خارج نطاق السيطرة(10)، بسبب تدفقاتها البترولية، وأيضًا تأمين نقل مسارات النفط من بحر قزوين، والتي تمر عبر الشيشان. ويرى المؤلف أن روسيا قد درست جيدًا أسباب هزيمتها الأولى، وتعلمت منها الدروس التي اكتسبتها بشق الأنفس.
وكما هو شأن روسيا، فإن كل الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع الشيشان قد ألغيت من قبل طرف واحد. ففي أواخر أغسطس 1999 بدأت الحرب الثانية بقصف جوي لغروزني – المدينة الأكثر تدميرًا على وجه الأرض – ثم في 1 أكتوبر 1999 استولى الروس على المرتفعات الاستراتيجية في جنوب الشيشان، على النقيض تمامًا من الحرب الأولى، وتمكنت القوات الروسية من إغلاق طرق الهروب الجنوبية، وبدأت بشكل منهجي في السيطرة على المدينة تلو الأخرى من خلال القصف الروسي المتهور، والذي حول العديد من المدن إلى ركام، كما تم منع الصحفيين الروس والأجانب من دخول الشيشان، يقول المؤلف:
جلبت إخفاقات الحرب الأولى الرغبة في إعادة بناء وتدريب الجيش، والتكيف مع دروس الحرب الأولى … لقد كان الروس أكثر استعدادًا بكثير للحرب الروسية الشيشانية الثانية … ولقد قام الروس بإنشاء خط سكة حديد داعم في داغستان المجاورة، وتم تحسين وضع الإمداد والصيانة بشكل كبير، وتم تدريب القوات وتجهيزها بشكل أفضل … كما استخدم الروس كتائب صغيرة تقوم بدوريات برية في الجبال بواسطة القوات الجوية، واستطاعوا اعتراض خطوط الاتصال والإمداد للمقاومة … ومن الناحية الأخرى، كان وضع الشيشانيين أضعف، حيث خرجوا من الحرب الأولى بمشاكل كثيرة، وذخيرة قليلة، لقد كان لدى حكومة أصلان مسخادوف مشاكل أخرى تحول دون إعادة تشكيل الشرطة والقوات المسلحة.
ص١٩٦-١٩٧
لم يتعافَ الشيشانيون بعد من آثار الحرب الأولى التي دمرت وأنهكت كل شيء، ويبدو أنهم أرادوا حرب الروس بنفس طريقة الحرب الأولى: دفاع، ثم استنزاف، ثم هجوم، لكن يبدو أيضًا أن الروس أرادوا للشيشانيين أن يحاربوا بنفس الطريقة الأولى، ولذلك حين بدأ الشيشانيون الانسحاب من غروزني المحاصرة ليلة 31 يناير 2000، خرجوا منها بنفس طريقة الخروج الأولى، وتم حينها القضاء في حقل ألغام روسي على ما يصل إلى 600 مقاتل شيشاني و9 من القادة الرئيسيين، كما فقد شامل باساييف إحدى قدميه.
ورفض الروس القيام بأي مفاوضات مع المقاومة الشيشانية، لأنهم اعتقدوا أن الشيشانيين سيستخدمونها كذريعة لإعادة التجمع مثلما حدث في الحرب الأولى، ويبدو أن المقاومة الشيشانية اعتقدت أن الجيش الروسي سيخوض الحرب بنفس أسلوب الطريقة الأولى، ولذلك غابت الخطة الاستراتيجية التي من المفترض أن ترصد وتتجاوب مع المتغيرات الجديدة، وتُرك الموقف ليفرز نفسه، عكس الحرب الأولى تمامًا، وهو الخطأ الذي يعترف به خطاب نفسه، إضافة إلى ظهور الانقسامات بين قادة المقاومة، خصوصًا مع ظهور بوادر مشروع شيشاني موالٍ للروس.
وفي صيف عام 2000 تخلى الشيشانيون عن جميع المواقع الثابتة، وعادوا إلى حرب العصابات. استطاعوا شن هجمات ضد القوات الروسية، ولكنها لم تكن بمثل قوة الحرب الأولى، حيث افتقرت المقاومة إلى القوة البشرية والعتاد، والأهم من ذلك، أنه تم حرمانها من الحاضنة الشعبية التي كانت تمدهم بكل أشكال البقاء، وأصبح أفراد المقاومة يعيشون في أرض أجنبية، وكالفريسة المطاردة، حيث يطاردهم الروس من جهة، والشيشانيون الذين نصبهم الروس بالقوة لحكم الشيشان من جهة أخرى، وهذا بلا شك وضع الشيشانيين أنفسهم في مواجهة بعضهم البعض، مما زاد من تقويض دعم السكان للمقاومة، خصوصًا مع تمدد سياسة «الشيشنة Chechenization» – أداة استعمارية روسية كلاسيكية متمثلة في المشروع القديروفي – والذي شكل نقطة التحول الأهم في مسار الصراع.
وأيضًا لعبت تداعيات أحداث الحادي من سبتمبر 2001 دورًا في ميل كفة الصراع نحو روسيا، وحاول بوتين إظهار حربه على الشيشان في ضوء الحرب الأمريكية لمكافحة الإرهاب، وربط جهاديي الشيشان بجهاديي تنظيم القاعدة، مع أن أغلبهم ليست لهم صِلات حقيقية بالقاعدة، كما طبقت سياسة تجفيف المنابع الأمريكية التي استهدفت القضاء على مصادر تمويل «الإرهاب» حول العالم، دون تمييز بين ساحة وأخرى، وهو ما سيظهر أثره بالتدريج خلال الأعوام التالية من الحرب، ليشهد العام 2005 مزيدًا من التراجع، يقول المؤلف:
وبعد وفاة الرئيس الشيشاني المنتخب أصلان مسخادوف، ومن بعده شامل باساييف، لم تَظهَر إلى الآن أي قيادة مؤثرة وقوية، لكن لا يبدو أن هذا الصراع قد مات، ما زال العديد يحملون السلاح ومستعدين للموت من أجل معتقداتهم(11). ودائمًا ما نتذكر بأن الحقائق التاريخية والجغرافية أقدر على البقاء من الهيمنة العسكرية(12). صحيح أن روسيا تسيطر حاليًّا على الأوضاع بمبدأ الحديد والنار – حتى إن كانت تكتفي بدور حارس اللعبة – وهو المبدأ الأساسي الذي طبع غالب التاريخ العسكري الروسي(13)، لكن لا ننسى أن هناك أجيالًا دفعت تكاليف حريتها قتلًا وتشريدًا، وحملت في جنباتها ذاكرة تراكمية وإرثًا هائلًا من المظالم. يقول الرئيس الشيشاني الأسبق، زليم خان ياندربيف، والذي اغتالته روسيا في الدوحة 2004:
(1) في مقابلة لي مع المؤلف أكد أنه يعمل حاليًّا على نسخة جديدة من الكتاب، وسيضيف فيها المزيد من الصور والخرائط الطبوغرافية والتضاريس.
(2) أوضح لي المؤلف أن مقصده هو أن الصلاة خمس مرات في اليوم، والصيام، كانت تعد تهمة، ولذلك هذا التحول الكبير الذي جاء فجأة كان بسبب تأثير العديد من العرب، والذين يسميهم المؤلف «الوهابيين».
(3) اعتمدت في ترجمة المؤلف على مقابلة لي معه، إضافة إلى ترجمته القصيرة الموجودة بالكتاب.
(4) حدثني المؤلف أنه لاقَى العديد من الصعوبات أثناء كتابة هذا الكتاب، منها أنه حين أجرى بعض المقابلات مع بعض المقاتلين الشيشان المقيمين في فيينا، ثم بعد أن انتهى من إجراء المقابلة، قُتل الشيشانيون في الشارع على أيدي رجال قديروف.
(5) ذكر لي المؤلف أنه حين قرأ كتاب «ليستر غراو» عن تكتيكات المجاهدين أثناء الحرب الأفغانية السوفيتية؛ أثار كتاب غراو انتباهه لكتابة كتاب عن تكتيكات المقاومة الشيشانية، خصوصًا أنه كان مهتمًّا جدًّا كما رُوي لي بالشيشان، وتواصل المؤلف مع ليستر غراو؛ وهو مقدم سابق بالجيش الأمريكي، ولديه دكتوراه في التاريخ العسكري، وحاليًّا يشغل منصب منسق ومدير الأبحاث في مكتب الدراسات العسكرية الأجنبية في الجيش الأمريكي، وقد تواصل المؤلف معه كي يوصله بالأطراف المهمة التي يعرفها في الصراع الشيشاني الروسي، ويساعده على إتمام الكتاب، وحاول «ليستر غراو» إقناع المؤلف بنشر كتابه عبر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، لكنه كما أكد لي لم يكن يريد أن يربط اسمه وبحثه بالسي آي إيه، وفي البداية نشر قسم البحرية بالجيش الأمريكي النسخة الأولى من الكتاب، لكن المؤلف بعد ذلك نشر الكتاب في Hellion.
(6) يستخدم الجيش الأمريكي هذا الكتاب حاليًّا كدليل تعليمي حول التكتيكات الشيشانية، والقتال في المناطق الحضرية.
(7) أكد لي ذلك الصحفي أسعد طه، وقد ذهب ليغطي الحرب الشيشانية الأولى، فيقول: «مللتُ يومًا من إيقاع الحرب في البوسنة والهرسك، فقررت الذهاب إلى الشيشان في حربها الأولى … بقيت هناك ثلاثة أسابيع، وفيها عشت أيامًا من أصعب حياتي، حتى إني شعرت بالأمان والسعادة وأنا عائد إلى البوسنة بكل مآسيها الجارية؛ ذلك لأن ما كان يحدث في الشيشان أشد فداحة من الحاصل في البوسنة؛ لكن الناس لا يعلمون». كتاب «يحكى أن»، ص19.
(٨) حقيقة لم يذكر «شامل» أنه يسعى لإنشاء خلافة، ويبدو أن المؤلف أساء فهمه تمامًا، واعتبر كلام شامل عن وحدة شعوب القوقاز بمثابة الدعوة إلى الخلافة، وهذا نص كلام شامل مع المؤلف نفسه، والذي اعتمد عليه في مسألة سعي شامل لإنشاء خلافة: حيث قال: «من الممكن أن يتحد الجميع، في الواقع، هناك احتمال كبير لذلك، لأن جميع دول القوقاز دون استثناء تريد الحرية، تريد الاستقلال عن روسيا، لقد قاسوا جميعًا بسبب ما فعلته روسيا، الإمبراطورية الروسية لقرون كانت تشرب دماؤهم، وقتلت عائلاتهم وأقاربهم وأصدقائهم، واستولت على أراضيهم، وارتكبت إبادة جماعية بحقهم».
(٩) لا بد من ملاحظة أن الحركة الصوفية في الشيشان، كانت أحد العوامل التي ساعدت المسلمين على الصمود في وجه الهجمة الشرسة ضدهم، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ «الجهادية الصوفية»، ولذلك من قاد المقاومة تاريخيًّا ضد الروس، هم قادة الصوفية، وقد أورد «سيباستيان سميث» شرحًا لهذه الظاهرة في كتابه: «جبال الله: الصراع على الشيشان».
(١٠) كانت خطة احتلال الشيشان قد أُعدت مسبقًا في أروقة الكرملين في شهر آذار/ مارس عام 1999 باعتراف «سيرجي ستيباشين» وزير الداخلية ورئيس الوزراء الروسي الأسبق. وقد صدق «يلتسن» بنفسه مع مجلس الأمن على قرار شن الحرب، أي أن غزو الشيشان كان أصلًا معدًّا له قبل أحداث داغستان، وتفجيرات المباني السكنية. فضلًا عن أن النخبة السياسية والفكرية في روسيا، إضافة إلى الجيش وقوات الأمن أعربت عن عدم موافقتها على اتفاق خاسافيورت، واعتبروه «هزيمة» لروسيا وتهديدًا للبنية الفيدرالية، وأصلًا لم يعترف الروس بعد الحرب الأولى بحكومة مسخادوف المنتخبة، ولذلك عبرت الحرب الثانية على الشيشان بكل وضوح عن مدى الكراهية والانتقام التي كانت كامنة في نفوس الروس. وعلى الوجه الآخر، كان العديد من القادة الشيشان مقتنعين بأن روسيا عاجلًا أم آجلًا ستهاجم الشيشان مرة أخرى، ولذلك كانوا يدركون جيدًا أن روسيا تماطل معهم، ولن تمنح الشيشان استقلالها الحقيقي، لأن ذلك سيؤدي لفتح الأبواب لمطالبة شعوب القوقاز الأخرى بالاستقلال.
(١١) ذكر لي المؤلف أن العديد من المقاتلين الشيشان الذين قابلهم ما زالوا على قيد الحياة، وأن مئات الآلاف من الشيشانيين الذين يعيشون كلاجئين في عشرات البلدان يكرهون روسيا، ويتمنون أن تتاح لهم الفرصة من أجل محاربتها والعودة إلى وطنهم، وبالرغم من أن أوروبا وضعها أفضل بمراحل كثيرة من وضع الشيشان، لكن كما قال المؤلف؛ بالنسبة للعديد من الشيشانيين المقيمين بأوروبا، فإن الشيشان هي أرض أجدادهم ويفضلون أن يكونوا فيها، ولكن ليس في عهد قديروف وبوتين.
(١٢) على حد تعبير روبرت كابلان في كتابه المهم «انتقام الجغرافيا» (The Revenge of Geography) فإن من المفترض بعد سقوط وانهيار «سور برلين» أن يُحسن ذلك احترامنا للجغرافيا ولخريطة التضاريس … إلا أننا أصبحنا عميان تجاه الحواجز الجغرافية الحقيقية التي لا تزال تقسمنا، والتي لا تزال تنتظرنا. «انتقام الجغرافيا»، ص21.
(١٣) برأي المؤلف، وهو يتابع الحرب الأوكرانية حاليًّا، وقد سألته عن أثر الحرب على استقرار منطقة القوقاز؛ فأخبرني أن بوتين يحتاج في المقام الأول إلى الفوز في أوكرانيا من أجل الحفاظ على الوضع الراهن في الشيشان وكل منطقة القوقاز، والتي لطالما كانت شوكة في خاصرة موسكو.