كيف بات رأي الرياضيين في قضايا المجتمع بهذه الأهمية؟
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين 2023 وإلى اللحظة، نتابع عن كثب الحرب على غزة. يُدلي كل منا بدلوه تجاه الأحداث، محاولاً المشاركة ولو بكلمة في صراع تتشعب جذوره السياسية والدينية والثقافية، ويستدعي منا جميعًا المشاركة على الفضاء الرقمي.
كلمة قد ترى النور يوماً، وتستخدم لتخبر البعض أن هناك سردية أخرى للرواية، سردية غير التي تُعبّأ وتُغلف وتباع للعالم على أنها المنتج الوحيد.
يبدو الأمر منطقيًا عندما يُطلب من الساسة والمفكرين التعبيرعن آرائهم تجاه حرب كتلك، ولكن هل يُعتقد أن رأي ممثل أو رياضي في قضايا الحيز العام هذه مهم؟
الإجابة عنوانها بكل بساطة: «محمد صلاح»، الرجل الذي ظل الجميع ينتظر كلمته تجاه الحرب على غزة لأيام، أكثر حتى من رأي زعماء الدول. والسؤال الآن كيف أصبح رأي صلاح وغيره من الرياضيين تجاه القضايا العامة بهذه الأهمية؟
هذا العالم صوته من جيبه
في كتابه آفاق المعرفة في عصر العولمة، يرى المفكر المصري السيد ياسين أن عالم هذه الأيام انتقل من حقبة العولمة لما بعدها، حيث يسعى النظام العالمي لحماية المؤسسات الرأسمالية بكل ما أوتي من قوة.
كرة القدم والرياضة في العموم ليست بمعزل عن ذلك، مرت الرياضة بهذه النقلة هي الأخرى، وصارت صناعة لا تهدف سوى للربح، تحولت الأندية إلى مؤسسات، والأنكى أن اللاعبين أنفسهم صاروا سلعًا تخضع لقانون العرض والطلب، ولها قيم سوقية.
يعمل الرياضيون وما وراءهم من مؤسسات على الترويج لأنفسهم كعلامات تجارية، تحتاج لزيادة قيمتها السوقية وجاذبيتها التجارية، وأصبح كل ما يخص هؤلاء الرياضيين سواء داخل الملعب وخارجه يُسخر لخدمة هذه الفكرة، من طريقة ارتداء الملابس لقصات الشعر ونوعيات الطعام الذي يجب عليهم تناوله، وصولاً لما يجب عليهم التلفظ به أمام العامة من عدمة.
لم يعد غريبًا أن نرى خروج أحد الرياضيين لدعم قضية ما تتماس مع أفكار المؤسسات التي يتبع لها، والعكس تمامًا عندما يحبذ الصمت في قضية أخرى قد يتضاد فيها رأيه مع آراء هذه المؤسسات، وبالتبعية قد تضرر مصالحه معهم.
وحين أصبح رأي الرياضي سلعة هو الآخر كان لا بد من وجود آلية لتسويق هذه الآراء، فكيف حدث ذلك؟
لا مبالاة صلاح كمثال
في قضايا الحيز العام لم يُعتد لعقود سوى بآراء المفكرين والمثقفين والساسة، باعتبارهم أهل التخصص في مثل هكذا قضايا، وكذا باعتبارهم الأشخاص القادرة على بناء رؤية تحليلة على أسس لمناقشة قضية ما عامة.
لكن لما تغير شكل العالم، وتسارعت وتيرته، تغير كذلك ترتيب الأشخاص التي ينتظر الناس آراءها في القضايا العامة، فيرى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أن المؤسسات الرأسمالية المعولمة هي التي عملت جاهدةً على خلق مؤثرين جدد في الفضاء العام، تتناسب طريقة أفكارهم مع أفكار هذه المؤسسات، واستعاضت بهم عن المفكرين القدامى، وعملت كذلك على حفر أهمية آرائهم في الوعي الجمعي للعامة.
المتتبع لمسيرة النجم العالمي محمد صلاح يمكنه أن يرى بأم عينه مثالًا حيًا لكيفية صناعة هؤلاء المؤثرين الجدد.
شاب عربي مسلم يخرج للعب كرة لقدم في أوروبا، يأخذ خطوات تصاعدية، ثم في عشيةٍ وضحاها يصبح أهم لاعب في أكبر دوري كرة قدم في العالم، فجأة تحول صلاح من لاعب يخاطب مخيلة الشباب العربي، لرمز يخاطب العالم بأثره.
يتحدث إدوارد سعيد، أن ما سماهم المثقفين الجدد عملت الرأسمالية على تعديل مسار تشابكهم مع القضايا المجتمعية المهمة إلى القضايا الذاتية، وبالتالي ضمان تحول دفة أفكار محبيهم إلى المسار ذاته.
لم تخلُ يد صلاح في بداية مسيرته في أوروبا من المصحف الذي يحمله قبيل المباريات، لكنه الآن يشاركنا صوره ممسكًا أحد الكتب التي تدل على اتساع دائرة ثقافته، ويطلب من الجمهور المصري أن يعطي لاعبًا اتُهم بالتحرش فرصة ثانية، لكنه يتحدث في الإعلام الغربي عن قضايا مناصرة المرأة، وكذلك عن العقلية التي يمتلكها أهل أوروبا ولا يمتلكها الناس في مصر.
يمتلك صلاح عددًا مهولًا من المتابعين لا يمتلكه الساسة والمفكرون، وهو في وقتنا الحالي سبب كافٍ لأن يمتلك أحدهم زمام الأمر، وأن تصير كلمته مقدمة على الجميع.
يُعتبر صلاح نموذجًا مثاليًا لهؤلاء المؤثرين التي سعت الرأسمالية جاهدةً لصنعهم؛ لأنه في غالب الأحيان يحاول أن يمسك العصا من المنتصف، وهو على النقيض تمامًا مع المؤثرين القدامى التي كان تحتم عليهم أفكارهم أن ينحازوا لطرفٍ على حساب آخر.
لكن ماذا لو قرر أحد هؤلاء الرياضيين الانحياز لموقفٍ على غير هوى المؤسسات التابع لها؟
الصمت كسلعة
في عصر ما قبل رسملة الرياضة، لم يتوان رياضيو النخبة في التشابك مع القضايا الاجتماعية التي تخصهم وتخص شعوبهم، يُنظر إلى الستينيات والسبعينيات على نطاق واسع على أنها بداية المشاركة النشطة للرياضة في القضايا الاجتماعية والسياسية. في عام 1967، استخدم أسطورة الملاكمة محمد علي مكانته كنجم للتحدث علنًا ضد الفقر والعنصرية وحرب فيتنام.
أصبحت تحية القوة السوداء التي أداها العداءان الأمريكيان من أصل أفريقي «تومي سميث وجون كارلوس» لحظة مميزة في تاريخ الرياضة، فأثناء توزيع الميداليات في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1968 في المكسيك، رفع كلا الرياضيين قبضة سوداء كعلامة على الاحتجاج على العنصرية والفقر في الولايات المتحدة.
اتخذ الرياضيون على مر تاريخ الرياضة مثل هذه المواقف دون أن ينتظر أحدهم مكافأةً ما، أو يخشى من أن يغضب مؤسسةً ما.
لكن بالمضي قدمًا حتى نهاية القرن العشرين، أصبح الاهتمام الأساسي للرياضي هو تقديم أفضل ما لديه وإظهار الولاء للمانحين الماليين له بدلاً من الانخراط في قضايا الحيز العام.
انقلب الحال حتى أصبح صمت اللاعبين في بعض الأحيان سلعة يكافؤون عليها، ويعاقبون إذا ما قرروا التفريط فيها.
يعود التصريح أعلاه لعام 2018 حين خرج نجم كرة السلة الأمريكي ليبرون جيمس منتقدًا سياسات دونالد ترامب واصفًا إياها بالمخيفة والمضحكة، لتنهال عليه وسائل الإعلام بسيل من النقد كان أبرزه تعليق لورا إنجرام، التي طلبت منه الصمت والتركيز على المراوغة داخل الملعب.
يمكننا القول إن «اصمت وراوغ» هي السبيل المتبع آنيًا من قبل كل المؤسسات الرأسمالية حينما يتخذ الرياضيون مواقف ليست على أهوائهم، أو مضادة لسياساتهم، ولنا على سبيل المثال ما حدث مع اللاعب المغربي نصير مزراوي لاعب فريق بايرن ميونخ الألماني الذي أعرب عن تضامنه مع الفلسطنيين جراء الحرب الأخيرة، ليخرج فريقه على الفور معلنًا أنه سيستدعى اللاعب لمناقشته في ذلك فور عودته من التوقف الدولي، ومؤكدًا أنه يقف مع الطرف الآخر.
أمامك خيارين إما أن تصمت أو تأخذ صفنا، هذه هي الخيارات الوحيدة المطروحه الآن للرياضيين إذا ما قرروا المشاركة بآرائهم في القضايا العامة، وإذا ما قرر أحدهم كسر ذلك الصمت، فستحاول قدر الإمكان أن تكون على الحياد، حتى وإن كان هذا الحياد منافيًا لقيمك، وما ينبغي عليك قوله.
القضية كمنتج هي الأخرى
تسليع الرأي كان المرحلة التي سبقت تسويق القضايا كمنتج هي الأخرى، يرى أساتذة وباحثون أنه لضمان المؤسسات الرأسمالية أن يكون الرأي المؤيد لمصالحها الشخصية هو السائد؛ كان لا بد من تسويق قضايا الحيز العام كمنتج هي الأخرى، منتج يتم تسويقه عن طريق هؤلاء المؤثرين الجدد.
يمكننا أن نرى ذلك جليًا في الحرب الأخيرة على غزة، التي تراجع فيها أهمية رأي المفكرين والساسة أمام رأي الرياضيين والممثلين وغيرهم، والتي استخدم معظم مقاطع فيديوهاتهم كمنتج هدفه عدد المشاهدات فقط لا غير.
لكنه بالرغم من كل هذه الجهود المبذولة لتسطيح آراء المؤثرين، أو محاولة تسليع القضية، كانت هناك قلة اتخذت موقفًا صريحًا يدين قتل الأبرياء والعزل في غزة، قلة تدرك أن الكلمة سلاح، وأن الرواية يمكن أن تُروى للعالم بسردية حقيقية غير مزيفة، وأن الوقوف على الحياد عندما يتعلق الأمر بقتل الأبرياء عار سيوصم به الجبين طيلة الحياة.