كيف تدخلت دولٌ عربية لإنهاء مسيرة العودة الكبرى؟
منذ انطلاق جذوتها في الثلاثين من مارس/ آذار الماضي؛ أربكت مسيرات العودة على طول السياج الحدودي مع فلسطين المحتلة عام 48، الترسانة العسكرية والأمنية لما يُسمى بـإسرائيل حتى أنها بدأت في الآونة الأخيرة تستجدي شركاءها من العرب لإيقافها وإخماد جذوتها التي أشعلها حوالي ربع مليون فلسطيني في الجمعة الأولى ولم يتناقصوا كثيرًا حتى الآن، إذ يُشاركون يوميًا في اعتصامات مفتوحة فيما تبلغ ذروة تجمعهم يوم الجمعة من كل أسبوع.
هذا الاستجداء بدا واضحًا في تصريحات مسئولين إسرائيليين سواء على الصعيد الرسمي أو الإعلامي، فالوزير الإسرائيلي السابق عمير بيرتس أشار في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر إلى أن «مصر والدول الخليجية وحدهم من يملكون القدرة على إنقاذ إسرائيل من ورطة مسيرات العودة مقترحًا فتح معبر رفح البري وتحسين الأوضاع الاقتصادية بغزة».
ولم يقتصر الأمر على ذلك إذ كشف يوسي ميلمان محلل الشئون الأمنية في صحيفة معاريف الإسرائيلية أن بعضًا من الدول العربية وبخاصة مصر والسعودية تمارس ضغوطًا على حركة حماس في قطاع غزة لوقف مسيرات العودة مقابل فتح معبر رفح البري في كلا الاتجاهين.
ويبدو أن تلك الاستجداءات لم تذهب عبثًا، فالجانب المصري أعلن الأربعاء 11 أبريل/ نيسان الجاري فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين لمرور العالقين ولمدة ثلاثة أيام متتالية، ومن ثمَّ دعا حماس لزيارتها لبحث أوضاع غزة، غير أن الأخيرة لم ترد بالقبول أو الرفض، واكتفت بالدعوة إلى اتخاذ خطوات عملية على الأرض قبل زيارة القاهرة، الأمر الذي أظهرها حامية ومنخرطة مع المتظاهرين في مسيرات العودة أكثر من سعيها لإجهاض ثورتهم وكبح جماحهم لتحقيق مكاسب سياسية، ما حمل مصر ظهر أول السبت 14 أبريل/ نيسان على إرسال مسؤول الملف الفلسطيني في المخابرات العامة المصرية اللواء سامح نبيل إلى القطاع للقاء قادة حماس وبحث ملف المصالحة وما يجري على الأرض من احتجاجات واسعة على السياج الحدودي.
تشي هذه التداولات بأن مسيرة العودة التي خرجت بجهد شعبي خالص ومن ثمَّ دعمتها والتفت حولها الفصائل الفلسطينية على اختلاف أطيافها، أحدثت أزمة في تل أبيب وأربكت حسابات الحكومة حتى بدأت تُحرض حلفاءها الإقليميين على ضرورة إنهاء الحراك بالضغط حينًا والمساومة بتخفيف الحصار وإحداث تحول على الواقع الاقتصادي والإنساني حينًا آخر. فهل سينتهي أم سيستمر حتى يُحدث تحولًا حقيقيًا في التعامل الإسرائيلي والإقليمي مع قضية اللاجئين الفلسطينيين والقضية الفلسطينية برمتها؟
كيف أربكت مسيرات العودة حسابات الاحتلال الإسرائيلي؟
ثمّة مؤشرات تشي بأن الحالة الشعبية الخالصة التي دعت ونظمت لمسيرات العودة الكبرى على طول الحدود الشرقية مع فلسطين المحتلة عام 48، كانت سببًا هامًا في إرباك حسابات الاحتلال، إذ مثلت صرخة إنسانية أمام الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني من الإسرائيليين، وبحسب المعاينة الميدانية لما جرى على الحدود طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية فإن الشباب الفلسطيني لم يخشَ رصاص الموت الموجه لصدره من قبل قناصة الاحتلال الإسرائيلي، ولم تُرهبه حسابات القوة ولا التحصينات العسكرية، فمنذ اللحظة الأولى بدا شجاعًا جريئًا صامدًا مُصرًا على الوصول إلى السياج الفاصل لأراضيه المحتلة منذ عام 48. هدفه أن يُعيد قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى ساحة الاهتمام العربي والدولي بعد أن ظن الاحتلال الإسرائيلي أنه أنهى القضية إلى الأبد وأنّه نجا بجريمته في اغتصاب الأراضي الفلسطينية عام 48 وتهجير وقتل أهلها تحت قاعدة «الكبار يموتون والصغار ينسون» .. الشباب الفلسطيني لم ينسَ وفاجأ المحتل.
اقرأ أيضًا: بعد سيطرتها على الأرض: كيف تخطط إسرائيل للقضاء على السكان؟
إلى ذلك فإن تخندق الأطراف الفلسطينية جلّها من فصائل وتنظيمات وأحزاب في المواجهة السلمية مع الاحتلال الإسرائيلي شكّل قلقًا من نوع آخر لدى الحكومة الإسرائيلية فأسرعت بالإيعاز لأطراف دولية وإقليمية بالتدخل لدى حماس وكافة التنظيمات المساندة والمشاركة في المسيرات لإجهاضها كونها أيقظت العالم من غفلته عن قضية اللاجئين الفلسطينيين وأعادت القضية الفلسطينية إلى جذرها الأول بعد أن ظنّوا كل الظن أنه تم إلغاء وتصفية قضية اللاجئين في السنوات الأخيرة -وفق ما قاله د. فايز أبو شمالة عضو المجلس الوطني الفلسطيني.
فيما مثلت حالة الرفض من قبل حماس للجهود العربية المبذولة لتخفيف حدة الالتحام الشعبي على السياج الحدودي ضربة قوية للاحتلال حتى أنه بدأ يؤلب الرأي العام العربي والعالمي ضدها، وفي هذا يقول محمد أبو علان دراغمة، صحافي ومترجم مهتم بالشأن الإسرائيلي، إن مصادر عسكرية وإعلامية إسرائيلية تدعي بشكل متكرر كل جمعة تقريبًا بأن نشطاء حركة حماس يقفون على رأس المظاهرات على حدود قطاع غزة، حيث يلاحظ –حسب ادعائهم- وجود عسكريين بين عامة الناس مسلحين بكمامات واقية من الغازات، بالإضافة إلى قيام وحدات من الحركة بتركيب خدمات الإنترنت اللاسلكية، ناهيك عن استخدامها الصلاة وخطب الجمعة لتحريض الفلسطينيين للوصول إلى الجدار والمواجهة مع الجنود المتمركزين في الشطر الآخر منه.
يؤكد دراغمة : «أن الهدف من تلك الادعاءات خلق مبرر لحجم الجرائم التي يرتكبها القناصة على حدود غزة ضد المتظاهرين السلميين»؛ ما يقودنا إلى التساؤل: هل تصل حالة التأليب تلك إلى إشعال فتيل الحرب باستهداف حماس وقادتها لإخماد مسيرة العودة؟ وهنا يُشير فايز أبو شمالة إلى أن أمر الحرب مستبعد خاصة وأن إسرائيل تخشى من ألا تتمكن من حسم الضربة العسكرية لصالحها وإعادة اعتبار جيشها الذي تلقى ضربات قاسية خلال الحروب السابقة في 2014، بالإضافة إلى أن الضربة العسكرية لحماس ستُنتج حالة من الفراغ الأمني والسياسي في القطاع خاصة في ظل تخلي الرئيس محمود عباس عنه وإخراجه من كافة حساباته السياسية – وفق تقديره.
الرئيس عباس وضغوط من نوع آخر
الرئيس الفلسطيني محمود عباس
تزامن لجوء الاحتلال لوسطاء وشركاء عرب وإقليميين لإجهاض مسيرات العودة مع عقوبات اتخذها الرئيس محمود عبّاس في إطار حرف بوصلة الحراك السلمي من الحدود الشرقية مع الاحتلال إلى الداخل الفلسطيني، وذلك عبر التخلي عن التزاماته المالية تجاه قطاع غزة عبر تقليص الموازنات المخصصة له وخفض رواتب الموظفين ثم وقفها تمامًا مع إحالة أعداد هائلة من الموظفين للتقاعد المبكر.
يقول أبو شمالة: «إن الرئيس عباس بذلك وكأنه يريد إشغال المواطن الفلسطيني بنفسه وبلقمة عيشه ويحمله على الانفجار في وجه حماس، بدلًا من التوجه إلى مسيرات العودة والالتحام السلمي مع الاحتلال والالتفاف حول التنظيمات والأحزاب التي تدعم الحراك معنويًا فقط دون أن تملك توجيهه، لافتًا أن خطر الإجراءات العقابية أكبر من خطر الضغوط العربية على مسيرات العودة».
لكنه يرى أن هذا الضغط لن يؤتي ثماره كون الانفجار الشعبي على السياج الحدودي مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 لم يكن موجهًا من أي تنظيم عسكري أو سياسي في القطاع وأن الشباب الفلسطيني الحالم بالعودة والحرية هو من يقول كلمته الأخيرة في هذا الحراك.
هل ينجح أي ضغط عربي في إنهاء مسيرات العودة؟
مثقفون وأكاديميون ونخب سياسية محلية أكدت لإضاءات في أحاديث منفصلة أن أيًا من الضغوط العربية التي لم تتكشف هويتها حقيقة حتى الآن، لن تنجح في إحداث حالة من الفتور لدى الشباب الفلسطيني الثائر في قطاع غزة، والذي يُطالب بحقه الأصيل في العودة إلى وطنه الذي أُرغم أجداده على هجرته أمام عنجهية الاحتلال وآلياته العسكرية.
أحمد أبو رتيمة، المتحدث باسم الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة، يؤكد أن المسيرات التي خرجت بقرار شعبي خالص لا يُمكن لأي قوة سياسية أو حزبية أن تؤثر في فتورها أو إخماد جذوتها، وأضاف: «أن الحشود الشعبية التي خرجت مطالبة بالحرية والكرامة وأعادت حق العودة إلى واجهة الأجندات السياسية بعدما مُسح وانزوى في غياهب المصالح الفئوية ترفض أي أسلوب من شأنه أن يلتف على تضحياتهم ويُنهي أملهم بإنجاز اختراق في حقوقهم الوطنية»، وقال: «إن فتح المعبر وتحسين واقع الحياة الإنسانية والاقتصادية في قطاع غزة يجب أن يتم دون شرط أو قيد سياسي».
ولم يختلف عنه رأي نهاد الشيخ خليل الذي شدد على ضرورة أن يتم فتح معبر رفح البري الذي يُشكل النافذة الوحيدة لقطاع غزة مع العالم الخارجي من باب الالتزام بمقتضى القانون الدولي وليس من باب المساومة على وقف النضال الشعبي، وتابع بالقول: «إن فتح معبر رفح يجب أن يكون دون مقابل لأن القانون الدولي يمنع إغلاق حدود على شعب يتعرض للأخطار»، وأشار أن حصر عملية الضغط على حماس يعني إلغاء الوجود الشعبي الذي هو أساس وجذوة اشتعال البركان على السياج الحدودي لافتًا إلى أن وجود حماس في المسيرة لم يكن وجودًا سياسيًا وليس من حقها أن توقف مسيرة العودة.
اقرأ أيضًا: عن وهم الرهان على الداخل الإسرئيلي.
يُريد الشيخ خليل أن يُدار نقاش التفاوض مع الحراك الشعبي في خيام العودة المتجذرة على الحدود وليس مع فئة وحزب بعينه لم يكن سوى داعم ومساند معنويًا للحق الأصيل للاجئين الفلسطينيين المُهجرين قسرًا من بلادهم وبلاد أجدادهم، ويُطالب حماس بتجنب أي دعوة عربية مصرية أو سعودية أو غيرها سواء بالرفض أو تخفيض مستوى الوفد وأن تبقى مُصرة على مطالب الثائرين على الحدود، كما دعا مصر إلى دعم ومساندة الكفاح الشعبي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وليس مشاركته في إهداره وتصغيره خاصة وأن الفلسطينيين لم يطلبوا مالًا أو سلاحًا منها فقط عدالة إنسانية بالسماح لهم بالعيش بكرامة سواء بفتح المعبر بشكل دائم والالتزام بالقانون الدولي أو بسحب اعتراضها على بناء ميناء ومطار للفلسطينيين في غزة أو بالسماح لأنصار الشعب الفلسطيني بالمرور عبر أراضيها إليه بدلًا من منعهم.
فيما اعتبر صالح النعامي، كاتب ومحلل سياسي مهتم بالشأن الإسرائيلي، أن التجاوب مع أي عرض إقليمي يهدف إلى إنهاء حراك مسيرات العودة جريمة وخيانة ليس فقط لدماء الشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال المواجهات وإنما أيضًا للتاريخ الذي سيذكرهم كمسئولين عن اغتيال الفرصة الأولى التي سمحت لهم بإعادة صياغة بيئة الصراع مع الاحتلال بشكل يُعزز القضية ومكانتها بالإضافة إلى أنه سيسهم في التمهيد لصفقة القرن، وقال إن الوسطاء الإقليميين الظاهرين والمستترين هم الذين تآمروا مع الاحتلال، تارةً يحاصرون غزة وأخرى يتربصون بالمقاومة فقط لنيل رضا ترامب ونتنياهو.
وفي موقف مخالف قليلًا بدا الكاتب الفلسطيني ساري عرابي مؤيدًا لوقف مسيرات العودة، لكنّه يشترط تحقيق اختراق حقيقي في الحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من أحد عشر عامًا، يرفض عرابي أن يتحمل القطاع وحده حالة الاستنزاف في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وقال في منشور له على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك : «أنا مع أن يقلع شوكه ويحلّ مشكلته طالما أن هذا هو واقعنا المزري».
وعلى الرغم من تأييده إلا أنه لم يُعول كثيرًا على الاقتراحات المُقدمة بتحسين واقع الحياة الإنسانية والاقتصادية في القطاع من قبل أطراف عربية سواء مصر أو السعودية، مؤكدًا أن الوعود العربية دائمًا لا تُقرن بالأفعال المُصدقة لها، وأشار أن غزة التي مثلت قاعدة مقاومة مثلى للمحتل سواء بالسلاح أو بالصمود وعدم الانحناء لعواصف المتخاذلين قادرة على أن تجنب الوعود المريبة الموسومة بالتسويف.
إسرائيل تُقر بنجاح المسيرات
نجحت المسيرات التي أنهت أسبوعها الثالث في إعادة قضية اللاجئين للاهتمام الدولي. وبحسب يوني بن مناحيم، الصحفي الإسرائيلي المختص بالشئون العربية، فإن مسيرات العودة استطاعت أن تُربك حسابات إسرائيل فيما يتعلق بقضية اللاجئين التي كادت أن تختفي مؤخرًا وتُطوى دفتي أجندات المفاوضات عليها دون أي إنجاز حقيقي للمهاجرين الفلسطينيين، وقال إن المسيرات أعادت القضية الفلسطينية وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم إلى الأجندة السياسية على المستوى الإقليمي والدولي.
وأكد أن حالة الإصرار على المواجهة السلمية في كل جمعة منذ بدء الاشتعال في 30 مارس/ آذار الماضي أحرجت إسرائيل في الساحة الدولية، خاصة بعد فضح المشاركين الفلسطينيين محاولات الجنود قنص الشباب الثائر والاستمتاع بقتله، مؤكدًا أن إصابة الجنود لأكثر من 1400 فلسطيني في يوم واحد أظهر إسرائيل وكأنها متعطشة للدم -وهي كذلك فعلًا- بالإضافة إلى تحويلها حدود غزة الشرقية والجنوبية والشمالية لمركز احتكاك بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال.
ويرى بن مناحيم أن أخطر ما نجحت به مسيرات العودة أنها أعادت طرح الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون مع الاحتلال على أنه صراع شعبي وهو ما كانت إسرائيل قد تجاوزته منذ مدة بفضل شيطنة حماس وإظهارها كقوة عسكرية وأمنية تُجابه الاحتلال للحصول على مكاسب تعمق وجودها السياسي على الساحة كمنافس للرئيس عباس، كما أنها أعادت طرح حصار غزة والأزمة الإنسانية فيه من جديد على صدارة الاهتمام العالمي، وهو ما تحقق في عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة والجامعة العربية وتغيير حالة التجاهل للقضية الفلسطينية في البيئة الإقليمية والدولية لحالة اهتمام مما قد ينعكس سلبًا على حالة التطبيع التي تسير باتجاهها عدد من الدول العربية وعلى رأسها السعودية – وفق تقديره.