الجريمة المقدسة: كيف تحولت كنائس أمريكا إلى منصات للاحتيال؟
يصل إجمالي تمويل الكنائس عالميًا إلى 594 مليار دولار سنويًا. تخصص منها 32 مليار دولار للإنفاق على البعثات التبشيرية. لكن مبلغًا أضخم، يصل إلى 37 مليار دولار، يندرج تحت بند «الجريمة الكنسية» والتي تشمل حالات احتيال واختلاس متخذة من الكنائس واجهة لها.
معظم حالات الاختلاس تلك لا تصل المحاكم رغم معرفة أشخاص رجال الدين المختلسين؛ لأن الكنائس تفضل ضياع الأموال على تقديم سجلاتها المالية للسلطات.
بطل أمريكا القومي «حرامي»
في أبريل 2019، تحول الحاخام الأمريكي، يسرويل غولدشتاين، راعي كنيس في كاليفورنيا، إلى بطل قومي في الولايات المتحدة، بعدما تعرض كنيسه لهجوم مسلح، أسفر عن مقتل سيدة وإصابة آخرين، بينهم الحاخام الذي فقد أحد أصابعه في الحادث.
صنف الإعلام الأمريكي الحادث ضمن «معاداة السامية»، واستفاض الحاخام لفترة طويلة في توصيف قصة بطولته، والحديث عن «روح الله التي لم يرها في القاتل».
ظهر في خطابات عامة وسط تصفيق حاد، قائلًا: «لقد تغيرت حياتي إلى الأبد، لكنها تغيرت لأتمكن من إحداث التغيير. الآن يمكنني أن أساعد الآخرين على تعلم كيف أكون قويًا وعظيمًا ومرفوع الهامة. سألني كثيرون: إلى أين نذهب من هنا؟ كيف يمكننا منع هذا؟ والإجابة أننا بحاجة للعودة إلى الأساسيات. بحاجة لنعلم أطفالنا منذ سنواتهم المبكرة أن العالم لا يزال بخير، وأنهم ذوو قيمة، وأن هناك حسابًا وعقابًا، وأن كل إنسان مخلوق على صورة الله».
مضت الأيام، واختفى غولدشتاين من الأضواء حتى عاد إليها في يناير 2022، بعدما ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي «إف بي آي» القبض على الحاخام بتهمة فساد مالي ضخمة.
وفق القوانين الأمريكية، تخصم التبرعات المقدمة إلى دور العبادة والمنظمات الخيرية التابعة لها من الضرائب المستحقة على المتبرعين، وهو ما استغله غولدشتاين في «ملء جيوبه» عبر جمع ملايين الدولارات في شكل «تبرعات احتيالية»، بتوصيف أوراق القضية.
وبحسب وثائق المحكمة، تلقى الحاخام ما لا يقل عن 6.2 مليون دولار من التبرعات المزيفة لحساب الكنيس الذي يديره، والجمعيات الخيرية التابعة له، ثم رد ما يصل إلى 90%من التبرعات سرًا إلى «المتبرعين»، مقابل أن يحتفظ لحسابه الخاص بالـ10% المتبقية.
في المقابل، استخدم المتبرعون المزيفون إيصالات التبرعات المزيفة للمطالبة بتخفيضات ضريبية ضخمة على أرباحهم التجارية؛ ليتحول الكنيس إلى منصة لتحويل الأموال والاحتيال عن طريق تسهيل خطط موظفي الشركات لتقديم فواتير تبرع وهمية أهلتهم للحصول على أموال الطوارئ والقروض الخاصة.
واعترف الحاخام غولدشتاين بأنه استغل الشركات التي تتبرع بضعف تبرعات موظفيها، عبر منح الموظفين إيصال تبرعات وهمية لتقديمها للشركات، ثم الحصول منها على أضعاف مبلغ التبرع. كما اعترف بالتعاون مع آخرين لتجنيد متبرعين جدد، فيما يشبه «التسويق الشبكي».
واعترف الحاخام غولدشتاين كذلك بأنه ساعد أيضًا شقيقه على إخفاء ما يقرب من 700,000 دولار من دخله من خلال السماح له باستخدام حسابات الكنيس لإيداع دخله الحقيقي، وبالتالي إخفائه عن مصلحة الضرائب، مقابل حصول الحاخام نفسه على أكثر من 70 ألف دولار.
وبلغت الخطة ذروتها عبر تزوير الحاخام لفواتير وسجلات أخرى، للنصب على الحكومة الأمريكية، ممثلة في الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ (FEMA) ، ومكتب حاكم ولاية كاليفورنيا لخدمات الطوارئ (Cal OES)، للحصول على أموال طوارئ ومنح وتبرعات وقروض خاصة وصلت قيمتها إلى 860,000 دولار.
ووفقًا لاتفاق الإقرار بالذنب، وصلت خسائر مصلحة الضرائب الأمريكية من مخطط الحاخام إلى أكثر من 1.5 مليون دولار.
المفاجأة أن جهات الادعاء أوصت بسجن الحاخام في منزله؛ بسبب «تضحياته السابقة» في إشارة للهجوم على الكنيس في 2019. لكن القاضية أمرت بحسبه 14 شهرًا!
جرت المصلين إلى الدرك الأسفل
خلال النطق بالحكم، اتهمت القاضية الحاخام بـ «جر كثير من المصلين إلى الدرك الأسفل». لكن، وفي حين أن غولدشتاين قد يكون فريدًا من نوعه فيما يخص تفاصيل قصته الأقرب إلى الخيال بعد تكشفها، فإن الجرائم التي ارتكبها ليست جديدة، وكذلك الوسائل التي استخدمها في تنفيذ خطته: استغلال الإعفاءات الضريبية الخاصة التي تتمتع بها دور العبادة.
في عام 2007 ، أُلقي القبض على قس في ولاية كونيتيكت استولى على 1.3 مليون دولار من أموال كنيسته، استخدمها للتسوق في المتاجر الفاخرة وشراء مجوهرات كارتييه وقيادة سيارة جاكوار. وفي عام 2018 ، اختلست راهبتان في كاليفورنيا 500 ألف دولار من الرسوم الدراسية للمدارس الكاثوليكية وأموال أخرى لتمويل رحلة قمار إلى لاس فيجاس.
كذلك، تحول التمويل الحكومي الطارئ إلى هدف سهل لرجال الدين المحتالين، في الآونة الأخيرة: في 2021، استخدم قس في واشنطن العاصمة ملايين الدولارات التي حصل عليها من تمويل الطوارئ بشكل غير مشروع لشراء سيارات تسلا الكهربائية الفاخرة جدًا. وخلال الأيام القليلة الماضية،حكمت محكمة أمريكية على قس في كارولاينا الشمالية بالسجن؛ لاستخدامه معلومات احتيالية للحصول على قرض إغاثة مخصص للتعامل مع تبعات جائحة كورونا.
الكنيسة لا تفضل التحقيق الرسمي
كل هذه التقارير ليست سوى غيض من فيض عن تلك الظاهرة الغريبة التي تُتّخذ فيها الكنائس واجهةً للسرقة والاحتيال. في 2007، وجدت دراسة أجرتها جامعة فيلانوفا أن 85% من الأبرشيات الكاثوليكية وقعت ضحية اختلاس. وبعد عقد من الزمان، وجد استطلاع «لايف واي ريسيرش» الذي شمل أكثر من 1,000 كنيسة أن واحدة من كل 10 كنائس بروتستانتية أبلغت عن تعرضها للاختلاس.
المفاجأة أن كل هذه الحالات على ضخامة نسبتها لا تتجاوز 5% من إجمالي حالات الاختلاس؛ فجرائم الاحتيال في دور العبادة لا تصل إلى المحاكم غالبًا؛ إذ تفضل الكنائس خسارة الأموال على كسر جدار السرية حول تفاصيل شؤونها المالية؛ لذلك تضغط على المبلغين للبقاء صامتين، وهو ما يشي بأن حجم الجرائم في تلك الزاوية تحديدًا يفوق التصوّر.
معهد جوردون كونويل اللاهوتي في ماساتشوستس أجرى بحثًا حول جميع جوانب التمويل المتعلقة بالكنائس المسيحية في جميع أنحاء العالم. ليقول مديره تود جونسون، إن بند «الجريمة الكنسية» يصل إلى 37 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، أو ما يقرب من 6% من إجمالي 594 مليار دولار تُمنح للكنائس سنويًا.
لتدرك مدى ضخامة هذا المبلغ، قارنه بـ32 مليار دولار مخصصة للإنفاق على البعثات التبشيرية عالميًا! أي أن الأموال المسروقة تفوق المخصصة لنشر المسيحية حول العالم!
وبحسب جونسون، فإن الجانب الآخر من إحجام المبلغين عن تقديم بلاغات للسلطات، هم أتباع الكنيسة أنفسهم، الذين يفضلون غض الظرف عن الجوانب المظلمة في القساوسة، مستشهدًا باقتباس من أحد أتباع الكنيسة الذي كان على علم باختلاس تبرعاته: «أعلم أنه سرق أموالي لكنني ما زلت أعتقد أنه شخص رائع».
ولا تخضع الكنائس ودور العبادة في أمريكا لأي رقابة فعلية على مواردها المالية، ولا تكون ملزمة بتقديم إقرارات مالية، ولا حتى إبلاغ تفاصيل شؤونها المالية للجمهور، بينما تتمتع بمزايا ضريبية ضخمة، وهو ما جعلها بابًا مفتوحًا وسهلاً للفساد المالي.
الثقوب السوداء
في عام 2013، كتب محامي الضرائب جون مونتاج في The Cardozo Law Review، إن الكنائس مرشحة بشدة لتكون ثقوبًا سوداء للتبرعات الخيرية وقِبلة للمُحتالين؛ بسبب غموضها، والطبيعة الفريدة للسلطة الدينية ، بما يمنحها الغطاء لتعزز المخالفات وتؤويها».
وبينما تختار بعض دور العبادة تنفيذ تدابير المساءلة العامة، يستغل البعض الآخر رغبة الحكومة في غض الطرف، غالبًا بالاعتماد على «الشخصيات الجذابة التي تتحكم في سلاسل الأموال وتمارس نفوذًا هائلًا على المصلين».
وبحسب المقال، يسهم الدين سنويًا بنحو 1.2 تريليون دولار من القيمة الاجتماعية والاقتصادية للاقتصاد الأمريكي – ومع المعدل المتوقع لسوء الإدارة والاختلاس في الكنائس اليوم، يفترض أن ملايين الدولارات من الأموال الخيرية تختفي كل عام.
ومنذ قانون الإصلاح الضريبي لعام 1969، والذي أعفى الكنائس من الاضطرار إلى تقديم إقرارات معلومات عامة «في ضوء الفصل التقليدي بين الكنيسة والدولة»، جرت محاولات مختلفة لتشريع المساءلة، مدفوعة بفضائح متفجرة من الانتهاكات المالية. لكن الإجراءات الرامية إلى الحد من هذه الانتهاكات كانت تتوقف دائمًا، ليظل الإعفاء على حاله؛ لأن أعضاء الكونجرس لم يرغبوا في المخاطرة السياسية بدعم أي شيء يمكن أن يُنظر إليه على أنه مناهض للدين.
بل بالعكس، في عام 1986، أضاف الكونجرس مواد جديدة إلى قانون الضرائب، أضافت عدة شروط أخرى على مصلحة الضرائب تلبيتها قبل المطالبة بتدقيق ملفات دور العبادة، بما أدى إلى إدامة هذا الغموض.