كيف يؤثر «كورونا» على الانتخابات الأمريكية القادمة؟
رئيس حالي عمره 73 عامًا، ومنافس انتخابي عمره 77، يحاصرهما فيروس أكثر الفئات عرضة للإصابة به هم كبار السن، خاصة إذا كانوا في مهنة تقتضي لقاء العديد من البشر. إذن، ففيروس كورونا يهدد حياة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومنافسه الحائز على دعم الكثيرين جو بايدن. لكن علاوة على تهديد حياتهما، فإنه يهدد الحياة السياسية للاثنين وللولايات المتحدة الأمريكية، والأخير هو موضوع نقاشنا.
تغييرات كثيرة فرضها الفيروس على واقع السياسة الأمريكية، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، منها ما هو إجرائي ومنها ما هو نظري. أما الإجرائي، فمع ضرورة التباعد الاجتماعي انتشر الحديث عن التصويت بالرسائل النصية أو البريد الإلكتروني أو حتى عبر رسائل موقع التواصل الاجتماعي «تويتر». مثلما فعلت واشنطن في المرحلة الأولية من التصويت حين اعتمدت بالكامل على التصويت البريدي التقليدي، التجربة نجحت إلى حدٍّ كبير رغم أن النتائج تحتاج لعدة أيام حتى تُحتَسب.
لكن ذلك يعني تكاليف إضافية على كاهل الدولة من أجل إيصال أوراق الاقتراع الرسمية لكل المواطنين حتى في المناطق التي يصعب الوصول إليها بسرعة كافية. كذلك مع منع التجمعات لم يعد هناك مفر من عقد المناقشات والمناظرات الرئاسية بدون جمهور. لكن بخلاف المناقشات فإن منع التجمعات سوف يؤثر على حملات جمع التبرعات، وتواصل المترشحين مع قواعدهم الشعبية. والمتوقع أن يُعاني بايدن من تلك الجزئية أكثر من ترامب، إذ إنه لم يتواصل مع العامة منذ فترة طويلة.
تلك المرونة الإجرائية التي تظهرها المؤسسات الأمريكية تخفي وراءها تغيُّرًا نظريًّا يخشاه الأمريكيون، تأجيل موعد الانتخابات. إذ ترتفع المخاوف في الأوساط الأمريكية من احتمالية تأجيل ترامب الانتخابات. غير أن الساسة الأمريكيين يُذكِّرون بأن الدولة استطاعت أن تُجري الانتخابات عام 1864، في فترة الحرب الأهلية، ونظرًا لتطور تكنولوجيا العصر وتوافر العديد من الوسائل البديلة للتصويت، فمن المستبعد أن يتم تأجيل الانتخابات المقرر إجراؤها في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020. لكن ماذا لو أصيب أحد المُرشحين مثلًا؟
الانتخابات في موعدها
ترامب صرَّح قائلًا إن الانتخابات حدث فريد، وقد يُضطر لتأجيلها إذا وجده نفسه مضطرًا لذلك. حجر العثرة في تأجيل موعد الانتخابات ليس رغبة ترامب فحسب، بل الإجراءات التي سوف يسلكها من أجل تحريك موعد الانتخابات يومًا واحدًا. ولايتا لويزانا وجورجيا أجَّلتا انتخاباتهما التمهيدية لوقت لاحق، لكن الانتخابات العامة ليست بالسهولة نفسها. موعد الانتخابات الأمريكية مُحدد بموجب القانون الاتحادي الصادر عام 1845، هذا يعني أن تغيير موعد الانتخابات سوف يحتاج إلى قانون يُقرُّه الكونجرس، ويوقع عليه الرئيس، ويُعرض على المحاكم المختصة للطعن فيه أو لإقراره.
مرحلة طويلة سوف يستغرقها الأمر، وإذا تم فلن يكون هناك ما يكفي من المرونة لتحديد الموعد البديل. خاصة أن الدستور ينص على وجوب أن تُؤدى اليمين الدستورية في 3 يناير/ كانون الثاني، وتبدأ الولاية الرئاسية في 20 يناير/ كانون الثاني. ولأن تلك التواريخ موجودة في الدستور فلا يمكن تغييرها بطريقة تغيير القوانين السابقة، وسوف تحتاج لأشهر لا أسابيع. وبعيدًا عن العقبات القانونية أو الإجرائية فإن الانقسام والتناحر الذي تشهده الساحة الأمريكية حاليًّا سوف يعرقل الأمر بالتأكيد، طرف يرى التأخير فائدة، وآخر يراه مُضرًّا، ما يعني أن الحزبين لن يتفقا، ولن تمر التشريعات من الكونجرس.
الإحباط يسيطر على المشهد الانتخابي، الأمريكيون يشعرون بسوء إدارة ترامب للأزمة، لكن سرعة تفشي الوباء لا تمنحهم رفاهية الوقت للحديث عن إحباطهم. ربما سوف يعاقبونه بالاقتراع مثلما عاقبوا جورج بوش الابن على رد فعله غير الكفؤ مع إعصار كاترينا، وعلى عدم استعداد إدارته لهذه الأزمة بصورة استباقية. لكن ترامب لم يعد الأمريكيين بأنه سيكون جيدًا في مواجهة أي أزمة، كما أنه حاليًّا لا يرى أنَّه قصَّر في التعامل مع الوباء، فتغريداته تدور حول الجهد الرائع الذي بذله ويبذله. ربما الآن يتذكر الأمريكيون كلمات هيلاري كلينتون التي استخدمتها كثيرًا لمهاجمة ترامب في سباقهما الانتخابي، بأنه لا يصلح أن يكون رئيسًا للولايات المتحدة في وقت أزمة.
طوال الشهور الماضية كان ترامب في أوج قوته بعد فشل السعي الديمقراطي لمحاكمته في الكونجرس الأمريكي. هذا الفشل زاد من حظوظ ترامب الانتخابية، إذ انضوى تحت لوائه عدد كبير من الناخبين المستقلين بجانب احتفاظه بقاعدته الجمهورية الأصلية. ومما زاد من حظوظه أن البطالة الأمريكية كانت في أدنى مستوياتها منذ عقود، وأسواق الأسهم كانت في أعلى مستوياتها بعد أخبار فشل محاكمته. حتى قال ترامب إن الولايات المتحدة تشهد أعظم فترة اقتصادية في تاريخها، لكن في لحظة تفشي كورونا تغيَّر كل شيء.
الشعب حائر في ترامب
من أبرز ما تغيَّر أن وزير الخزانة الأمريكي، ستيفن منوشين، حذر من أن البطالة قد ترتفع إلى 20%. المصانع آخذة في الإغلاق، والعمال يُسرَّحون. السهم الاقتصادي الصاعد توقف عن الصعود وبدأ في الانخفاض، ولا يتوقع له أكثر المتفائلين سوى مزيد من الانخفاض. مركز السياسة بجامعة فيرجينيا الأمريكية وضع كل تلك المعطيات في معادلة أدت لنتائج تبدو حاسمةً في أنه إذا استمر الوضع الحالي فذلك يعني القضاء على أمل ترامب في الفوز بفرصة ثانية. تقرير المركز يقول إن الركود الاقتصادي المستمر سوف يفتك بالقواعد الشعبية المؤيدة لترامب.
التقرير يلفت النظر إلى معضلتين قد يمنحان ترامب الرئاسة لفترة ثانية، أولهما أنه في اللحظة الراهنة تشهد الولايات المتحدة انقسامات حزبية داخل الحزب الديمقراطي لن تؤدي إلى وجود تكتل قوي خلف منافس ترامب. كما أن التشرذم سوف تنتقل عدواه إلى الناخب العادي، مما يزيد فرص ترامب. المعضلة الأخرى أن الناخبين قد لا يُحمِّلون ترامب مسئولية الركود الاقتصادي الناتج عن أمر خارج عن إرادته مثل الوباء.
لكن بالنظر إلى الشارع الأمريكي فإن الأمريكيون لا يُحمِّلون رئيسهم مسئولية الوباء، لكن يحملونه مسئولية رد الفعل الحكومي البطيء تجاه الوباء. يتضح ذلك في استطلاعات هيئة البث الأمريكية التي أظهرت تراجع ثقة الأمريكيين في الحكومة بعد أن أدركوا حجم المشكلة التي هوَّنها ترامب وإعلامه. 60% من الأمريكيين قالوا إنهم لا يثقون مطلقًا في أي شيء يقوله ترامب بخصوص كورونا. لكن 37% فقط هم من يثقون نوعًا ما في كلام الرئيس. وفي استطلاع آخر قال 49% من الأمريكيين إنهم لا يوافقون على طريقة تعاطي الرئيس مع الجائحة الوبائية، 44% فقط هم من يوافقون.
البساط يُسحب من تحت قدمي ترامب، لكن يبدو أن من يسحبونه ليسوا بالقوة الكافية، لذا بدأ الرئيس في تدارك نفسه. في أحاديثه منذ أسبوعين وصف ترامب نفسه بـ«رئيس وقت الحرب»، كما دعا الشعب الأمريكي جميعًا لتحمل الألم والإرهاق القادميين حتى تفوز دولتهم في المعركة مع الوباء. الخطاب الحماسي لاقى صدًى واسعًا في صفوف مؤيديه الثابتين، وكفَّ عنه بعض النقد من المستقلين.
الأمريكيون يكرهون التغيير
يبدو أن ترامب يراهن على حقيقية تاريخية هي أن الأمريكيين لا يحبون التغيير وقت الأزمة، أو على الأقل في منتصف الأزمة. أبراهام لينكولين فاز بولاية ثانية أثناء فترة الحرب الأهلية، فرانكلين روزفلت فاز بولايته الثالثة في عشية الحرب العالمية الثانية، وأخيرًا فاز جورج بوش بولايته الثانية بعد إرساله القوات الأمريكية للعراق. فما المانع إذن أن يُضاف اسم ترامب للقائمة، ويختاره الأمريكيون مهما كانت درجة رضاهم عنه، فقط ليُنهي ما بدأه.
أيضًا من الاستراتيجيات التي يتبعها ترامب ليُبقي البساط تحت قدمه لولاية ثانية، وصفه الفيروس بالصيني. بينما يكافح العلماء والنخبة المثقفة لإثبات خطأ المصطلح أو أن الفيروس ليس سلاحًا أطلقته الصين عن عمد، يستغل ترامب الانقسام الشعبي بين العامة والنخب ليتحدث بلهجة الرجل العادي. كما أن الإصرار على وصف الفيروس بالصيني يعني تضليل الرأي العام عن مسئولية ترامب أو لومه، وتوجيه دفة اللوم إلى جهة أخرى، الصين باعتبارها بلد المنشأ.
لكن محاولات ترامب للاحتفاظ بقاعدته الانتخابية يقابلها سطوع غير مسبوق لنجم بايدن. في 3 مارس/ آذار 2020 كان بايدن قد فاز بعشر ولايات أمريكية، ما يعني سيطرته على المنافسة الديمقراطية. لكن الجائحة الوبائية جاءت لتجبره على عقد حملات ونقاشات افتراضية يجد الرجل صعوبةً في مواكبتها، على عكس ترامب الذي يُعتبر ذلك ملعبه المفضل. كذلك يعاني بايدن من غياب الأضواء التي كانت تُسلط على السباق نحو البيت الأبيض، فغالبية الإعلام الأمريكي ينشغل بشكل رئيسي بمتابعة أخبار الجائحة الوبائية ورصد ضحايها الذين يزدادون يومًا بعد الآخر.
يتضح تأثير ذلك في استطلاع آخر أثبت ارتفاع نقاط تأييد ترامب شعبيًّا لأعلى مستوى لها منذ عام 2015 بسبب ظهوره الإعلامي المتكرر وتصريحاته المتتابعة. لكن الحقيقة الثابتة في الوضع الأمريكي حتى الآن أنَّه لا شيء واضح لأن الذي يتحكم في الأمر هو وباء غير معلوم التحركات ولا المصير. استطلاعات الرأي تخدم ترامب حينًا، ثم تميل لبايدن حينًا.
غير أن الأمريكيين معرفون بالتفافهم حول رئيس بلادهم وقت حدوث الأزمة، ثم يعاقبونه بعد انتهائها. مما يزيد من فرص ترامب، فاستمرار الجائحة الوبائية قد يعني استمراره، والقضاء عليها قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 قد يعني انتصارًا يتم تسويقه كإنجاز تاريخي لترامب ما يضمن استمراره أيضًا. أو قد يعني القضاء عليها تفرُّغ الأمريكيين لانتقاد ترامب ومعاقبته على تهاونه الأوليِّ، ما يعطي تذكرةً مجانية لبايدن نحو البيت الأبيض.
يحتار المواطن الأمريكي ومعه قيادته السياسية بين السيناريوهات الثلاثة، فالجميع حاليًّا في موقع المتفرج على ما يقوم به كورونا كونه اللاعب الرئيسي الوحيد القادر على تغيير دفة الأحداث.