تاريخ «الهشك بشك»: كيف صنع الاستعمار صورة الراقصة الشرقية؟
قد تصدمك الباحثة شذى يحيى في كتابها «الإمبريالية والهشك بشّك» الصادر عن دار «ابن رشد للنشر والتوزيع» بطرحها الأساسي، والذي يشير إلى أن الرقص الشرقي الذي نراه منذ بدايات القرن الماضي وحتى اليوم، ليس بالرقص الشرقي الذي عرفه المصريون قبل ذلك، بل هو فنٌ استعراضي آخر يعكس الصورة التي تصورها المستشرقون (في كتاباتهم ولوحاتهم التشكيلية) عن الرقص الشرقي.
الطرح صادم حقًا، وتبريرات المؤلفة التي ساقتها في دراستها المهمة حول تاريخ الرقص الشرقي لها وجهاتها ومنطقيتها، مستخدمة الطرح العلمي والتاريخي الدقيق غير المعتمد على استنتاجات لا سند لها ولا منطق، مستفيدة في ذلك بكثير من الدراسات الاستشراقية التي تناولت الحياة في مصر خلال فترة الحملة الفرنسية وما تلاها، وكتب أخرى لا تقل أهمية عن تلك الدراسات، ومن بينها الكتاب الأهم في هذا الأمر لإدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية»، ترجمة كمال أبوديب.
تفنيد الطرح، رغم أنه جاء بشكل أكاديمي، لأن الباحثة تنتمي نسبيًا لأهل الدراسات والأبحاث، فإنه لا يخلو من متعة مبعثها أمران: الأول هو طرافة الحديث عن الرقص بشكل عام، والثاني هو المفاجآت التي توردها شذى في ثنايا الكتاب الذي يُضاف للعديد من الكتب التي تناولت التاريخ الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط، تحديدًا في نقاط التماس بين الثقافة العربية الأصلية، والثقافة الوافدة مع المستشرقين الغربيين، عبر جسر المستعمِر.
ولع حملة نابليون.. والتهجين الاستعماري
الضيق والألم الذي يتحدث به كثيرون عن الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801) باعتبارها استعمارًا، يقابله امتنان حول مآثر الحملة وفوائدها على الثقافة المصرية الحديثة لدى فريق آخر، وسيظل هذا الخلاف المحتدم بين هذا الفريق والآخر إلى ما لا نهاية، وسينجو فقط الباحثون والدارسون الذين يحتفظون بألمهم في صدورهم جراء فكرة الاستعمار في حد ذاته، ولكنهم يفتحون عقولهم لما أحدثه هذا الاستعمار من تغيير في الثقافة، والتغيير هنا لا خلاف في تعريفه بـ«تحول الشيء إلى شيء آخر»، من دون التطرق إلى أن هذا التحول كان تطورًا أم انحدارًا. وهذا بالضبط ما التقطته شذى يحيى، فهي لم تشغل بالها بالخلاف المتجذر إياه، ولكنها حاولت التعرف على تأثير الاستعمار في التغيير الذي ضرب فنًا مرتبطًا بالشرق في الأساس، وعن الكيفية التي حدث خلالها التغيير.
لذا كان لا بد لها أولاً أن تضبط مصطلح الرقص الشرقي أو «الهشك بشك» كما تورده على غلاف كتابها، وتاريخه، فمنذ حملة نابليون والرقص يشكل هوسًا وولعًا للرحَّالة والكتَّاب الذين رافقوا الحملة، وغيرهم ممن يهوون الشرق، وقد عرفه بعضهم بكثير من التعريفات نستطيع أن نجملها في أنه نوع من الأداء الراقص منتشر في مصر وشمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، قائم على حركات تعبيرية بالخاصرة والأذرع والسيقان، وله زي خاص مميز به، وهو عادة يُمارس في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات، ويرجعه بعض باحثي الأنثروبولوجيا إلى الرقصات الطقسية، التي كانت تقام في معابد الآلهات الإناث قديمًا، وخصوصًا «حتحور وعشتار إنانا».
جملة التعريفات تلك لم تكن كافية للباحثة- ولنا أيضًا- لتأكيد التحول والتغيير الذي طرأ على هذا الفن، فاستعانت بتعريف أشمل وأحدث صكه الباحثان الأمريكيان أنتوني شاي وباربرا سيللر يونج، في دراستهما الحديثة «الرقص الشرقي.. الاستشراق والتحول وخيال الحريم» وهو أن الرقص الشرقي عبارة عن منظومة من الرقصات يعود منشؤها في الأساس لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ولها جذور في وسط آسيا، وتم تهجينها وتطويرها في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم، وأصبحت جزءًا من الأداءات الراقصة العامة والخاصة في القرى والمدن والحواضر والمجتمعات المدينية والملاهي والمسارح على مستوى العالم».
إذن، هي اعتبرت هذا الفن- بالشكل الذي نراه اليوم- هجيناً لتفاعل ثقافات عدة، وهو يختلف تماماً عن الرقص الذي رقصته الغوازي والعوالم في شوارع ومنازل القاهرة حتى منتصف العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وربما منذ عهد الفراعنة أيضاً!
«الهشك بشك»
منذ عقود، أطلق المصريون التركيب اللغوي «الهشك بشك» على ما تقوم به الراقصات من رقص مرتبط بالسلوك الإغوائي السيئ القائم على الابتذال والسوقية. ويقولون في الأدبيات الشعبية «بتوع الهشك بشك» وهن الراقصات المبتذلات أنفسهن، ولكن الغريب أن هذا التركيب المصري الشعبي الخالص له أصل لغوي فصيح، فـ«الناقة البشكى» في «مختار الصحاح» هي الناقة الخفيفة المشي والروح، وفي «لسان العرب» لابن منظور، فإن «البشك» هو السير بسرعة وبخفة، ويرتبط اللفظ أيضًا في تلك المعاجم بالكذب والرداءة.
أما النصف الأول من التركيب «هشك» فهو عامي صرف قد يعود إلى لغة مصرية قديمة، ويعني الفعل «هز» من «الاهتزاز» والحركة. وبجمع الدلالات- العامية والفصيحة- فإن الرقص هو «الهز السريع الخفيف سيئ السمعة»، وهي النظرة التي وُصمت بها الراقصة في مجتمعها الشرقي، وهي لم تختلف كثيرًا عن نفس النظرة التي وصمها بها المستعمر الأبيض، ووصفها في أدبياته بـ«راقصة هز البطن» أو بالفرنسية «DANSE DU VENTRE».
وهذا هو مربط الفرس، فالوصمة أو الصورة التي رآها الغرب للمرأة الشرقية لا تخرج عن كونها المرأة التي صورتها حكايات «ألف ليلة وليلة»، تلك المرأة القابعة في حرملك القصر، وكل مهتمها أن ترقص نصف عارية لسيدها، لعلها تقتنص نظرة أو ليلة من الأخريات، وهي نظرة مرتبطة بأسطورة أخرى بأن الرقص الشرقي بدأ مع بدايات ظهور الحريم في الدول المتعاقبة، لا قبل ذلك.
وهذه الصورة تم بناؤها للراقصة الشرقية في الثقافة الاستشراقية رويدًا رويدًا مع تطور علاقة الغرب بالشرق، في حين أن مفكرًا موسوعيًا مصريًا كسلامة موسى، سار على نفس النهج، واعتبر الرقص الشرقي كنزًا للمفاسد، أو إرضاء للسيد وإثارة شهوته، وهذا ما رفضه الكثيرون الذين حاولوا تصحيح هذه الصورة المغلوطة، أو بمعنى أدق التي تكونت بفعل الاستعمار، إلى الصورة الصحيحة.
تحية كاريوكا وسامية جمال.. وبينهما سلامة موسى
كان سلامة موسى (1887 – 1958) أحد الذين تأثروا بالنظرة الغربية المستشرقة للرقص الشرقي، وكان واحدًا من الجلادين لهذا الفن في مصر، لدرجة أنه سأل السؤال الاعتيادي الذي ربما نتداوله حتى الآن: «هل ترضى لابنتك أو أختك أن تؤدي حركات الرقص المصرية؟». ربما وقع موسى تحت تأثير كتابات الغرب، ورأى أن الرقص الشرقي هو رقص شهواني في الأساس ويثير الغرائز، ودليله على ذلك أن الراقصة الشرقية (التي تنتمي إلى الشرق) حينما تؤدي حركاتها فإنها تنظر إلى أسفل، أو إلى الجزء الحسي الجنسي السفلي.
واستثنى موسى من كل الراقصات المصريات كلهن، تحية كاريوكا، فمن وجهة نظره، كانت الست تحية لا تنظر إلى أسفل، بل إنها لم تكن تنظر إلى أحد في الأساس، أي أنها في وجهة نظره لم تكن تستجدي الاشتهاء، وهي نظرة قالت مؤلفة الكتاب إنها تتوافق مع رؤية الباحثة جليلة لوريس شماس، التي آمنت بأن نظرة بعض المثقفين العرب للرقص الشرقي رؤية استشراقية سوقتها الإمبريالية للشرق، وليس العكس.
من بين الذين خاضوا معركة تصحيح تلك الصورة، الراقصة سامية جمال، واستغربت من اتهامات سلامة موسى، وانحيازه للرقص في الغرب (البعيد عن الشهوانية في وجهة نظره) على حساب الشرق، فهي لم تر نفسها مهتمة بإثارة الغرائز عند تأديتها للرقصات، كما أنها رقصت في أوروبا كلها، ولم يتهمها الغرب بهذا الأمر، قائلة: «إن الرقص الشرقي هو تعبير صادق عن المشاعر».
وبعيدًا عن جدال سامية جمال وسلامة موسى، فإن استثناء تحية كاريوكا من كل هذا الخلاف أمر لافت للغاية، فتحية نالت وصفًا آخر من إدوارد سعيد حيث كونها «تصنع قواعد وأصولًا لممارسة مهنتها كعالِمة (على أساس العلم وليس دلالة الغازية راقصة الشوارع). رشاقتها وأناقتها توحيان بما هو كلاسيكي ومهيب يستند إلى خبرة واسعة في مجال الرقص. إن الرقص شأنه شأن مصارعة الثيران، يتركز جماله ليس في كثرة حركات الرقص بل في قلتها»، وكانت تحية تجيد ذلك تمامًا، وذلك بغض النظر عن وصف سعيد لها في أشياء أخرى.
أشياء ودلالات مدهشة
تضعنا مؤلفة الكتاب أمام دلالات مدهشة لبعض الكلمات الخاصة بالمهنة، أولها مثلاً أن هناك فارقًا بين «الغوازي» و«العوالم»، فالأولى كما عرفها إدوارد لين في كتابه «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم» هن النسوة المنتميات لقبيلة تحمل نفس الاسم، فالرجل منهم يسمى غازي، والمرأة غازية، وهن لا يتزوجن، ولهن قاموس لغوي خاص، ويتحركن ويسكن بشكل جماعي مع أفراد من أهلهن، ويرى كلوت بك في كتابه «لمحة عامة إلى مصر» أن تاريخهم قد يرجع إلى ما قبل «البرامكة» بقليل.
أما اللفظة الثانية ومفردها «عالمة» فهي المرأة التي من المفترض أن تكون عالمة بفنون الرقص والموسيقى والغناء وإنشاء الشعر وإلقائه، وهي لا ترتبط بجماعة عرقية، وتسكن في الشوارع بشكل عادي، والفارق بين الاثنين أن «العالمة» في منتصف القرن الـ19 وحتى آخره كانت ترقص أمام النساء فقط، بينما «الغازية» فترقص أمام الجميع، ويرتبط عملها قليلاً بالدعارة التي كانت مرخصة في مصر آنذاك.
من الأشياء المدهشة في الكتاب كذلك أن فكرة استقطاب مصر للراقصات الأجانب لا ترجع لزمن صوفينار وجوهرة، ولا أيضًا لزمن كيتي اليونانية وهدى شمس الدين الأرمينية، بل تعود إلى عصر محمد علي باشا، بسبب اتخاذ الدولة حينها موقفًا ضد الرقص، إذ أصدر الوالي محمد علي في 1834 فرمانًا بمنع الدعارة ورقص الفتيات العامة، وعقوبة من تخالف ذلك خمسين جلدة وحبس لمدة عام، المدهش أن الراقصات هجرن إلى صعيد مصر، فامتلأ جنوب البلاد ببؤر البغاء والرقص، ونشأت في القاهرة ظاهرة رقص الرجال والتي تحول معها كثير منهم إلى «شواذ»، ما أدى إلى التراجع عن القرار في عهد الخديوي عباس، فعادت النساء لممارسة الرقص في العاصمة من جديد.
تشير شذى كذلك في كتابها إلى أن الطريقة التي رقصت بها السيدات قديمًا ربما لا تكون معروفة في عصرنا الحالي، ولكنها قريبة الشبه برقص الريفيات في الأفراح، من حيث عدد الخطوات القليلة، وتحريك اليدين والكتفين والخصر، بشكل غير الذي نرى به الراقصات الآن، كذلك لبسهن، إذ كانت الراقصة قديما تتعرى تمامًا في الأماكن المغلقة والحانات وغيرها، وترتدي ملابس شبه كاملة في الشوارع، أما الملابس الحالية فهي من ابتكار الغرب، وأحد أهم الإسهامات في هذا المجال يعود إلى المصمم ليون باكست اليهودي من روسيا البيضاء، والذي أرسى ما يشبه بالعلامة التجارية لزي الراقصة، من حيث التصميم والألوان، واستخدم هذا الزي في باليه شهرزاد سنة 1910، واستوحى فيه موتيفات العالم العربي والقوقاز وتركيا ووسط آسيا.
في الكتاب معلومات أكثر دهشة، وتفاصيل غنية جدًا، وفصول أخرى عن تصوير الراقصات في لوحات المستشرقين، وكذلك في فنونهم البصرية «صورة فوتوغرافية وسينمائية»، والتي تؤكد في معظمها النمطية الشديدة في وصف الراقصات بأنهن لعوبات ومثيرات وخرّابات للبيوت، وهي الصورة التي ربما أراد الغرب فيها إذلال الشرق عن طريق المرأة.