قاتل أم ضحية: كيف يمكن للأرق أن يدمر حياة الإنسان؟
في مستهل فيلم Insomnia يلوح لنا الرائع آل باتشينو بشخصية المُحقِّق «دورمر» التي يبدو أنها تخفي سراً ما، ومع تصاعد وتيرة الأحداث تزداد أسرار الشخصية غموضاً، ويزداد معها شعوره بالذنب إلى الحد الذي يؤرقه ويحرم عينيه النوم، فيمر به اليوم الأول ثم الثاني فالثالث… إلخ دون أن يغمض له جفن، ليقرر بعدها أن يحلّ هذا الأمر حتى يخلد للنوم من جديد. ثم يتراءى أمامه أكثر من حل ولا يهمه أيهم سيختار، المهم فقط هو أن يعود إلى النوم من جديد.
منذ أن وعت عقولنا هذا العالم ونحن نسمع حكايات الجدّات عن الشخص الذي لا يستطيع النوم لأنه ارتكب أمراً سيئاً، وكأن يقظة الضمير تجد أول ما تجد طريقها إلى عينيّ الإنسان، فتحكم عليهما بالسُهد والسهر. وحين كبرنا وتثاقلت الضغوط وأصبح الأرق زائراً مُتردداً في عالم الكبار، بدا أمر الطفولة ذاك سخيفاً بعض الشيء، وصرنا نُشكّك في صحة الأمر، أحقاً يحرم الذنبُ الإنسان النوم؟ أم ينتج الأرق من أمور أخرى؟
الأرق قاتل أم ضحية؟
من أصعب التحديات التي تعرقل مسيرة الطب النفسي أن العلماء لا يتمكنون من التفريق بين المرض القائم بذاته وبين العرض الناتج عنه؛ حين تُصاب بالحُمّى فلن يكتفي طبيبك بوصف الأدوية الخافضة للحرارة فحسب، وإنما يسترسل في التشخيص للوصول إلى المرض الذي سبّب الحُمى، الأمر ليس كذلك في الأمراض النفسية، فحين تُصاب بالاكتئاب يصف لك طبيبك مضادات الاكتئاب لأن -على عكس الأمراض الجسدية- يحوم الكثير من الضباب حول الأمراض العقلية، أمّا بالنسبة للأرق فالأمر معقد أكثر وأكثر، فالأرق ليس مثل الاكتئاب يمكن تشخيصه في الحال وإنما يخفي في جُعبته الكثير.
وجد باحثون من جامعة ولاية واشنطن رابطاً قوياً بين الأرق والأمراض العقلية، وبخاصة الاكتئاب، فمن بين مليونيّ مريض عانوا الأرق ما بين عاميّ 1995 و1996، تم تشخيص ما يقارب 60% منهم باضطرابات غير مرتبطة بالنوم مثل الفصام، بينما أكثر من 30% منهم شُخِّصوا بالاكتئاب. لكن وبرغم تلك العلاقة الوطيدة بين الأرق والأمراض العقلية، إلا أنها لا تزداد وضوحاً عن أحجية البيضة والدجاجة أيهما جاء أولاً؟ هل سبّب الاكتئاب الأرق؟ أو قاد الأرق إلى الاكتئاب؟
لا نعلم!
القلق: المشتبه به الأول
يعتبر النوم خَلاصاً للإنسان من كل تفاصيل يومه غير الضرورية، الأمر أشبه بعملك على الحاسوب؛ تفتح الكثير من النوافذ ثم حين تريد أن ترتاح قليلاً تغلق الحاسوب بكل النوافذ وعلامات التبويب المفتوحة، ثم في بداية اليوم الجديد تفتح نوافذ غيرها… وهكذا.
إن النوم يمنحك هذا، أن تبدأ من جديد، لكن إذا زادت الضغوطات على الحاسوب ربما لا يستجيب لأمر الإغلاق. نفس الشيء يحدث مع استبدال الحاسوب بدماغك وعملية الغلق بالنوم. إن كثرة التوترات في الحياة اليومية قد تدفع دماغك للعمل حد الجنون لدرجة أنه يظل يعمل دون توقف حتى يتخلص من الأمر الشائك الذي يحرمه النوم، ويجعل حياته أشبه بيوم واحد متشابك ومتصل؛ يسمى هذا «قلق التشابك».
يزيد الأرق من هذا القلق فتزداد الضغوطات ويزداد الأرق بدوره، وندخل في نفس الدائرة المفرغة عن أيهما بدأ أولاً.
هناك نوع آخر من القلق يُسمى «قلق الذنب أو الندم»، وفي هذه الحالة أنت تقرر إغلاق حاسوبك وتغلق كل النوافذ ما عدا واحدة، شيء عليك فعله، مشكلة غير محلولة تقرر أنها ستظل موجودة في مكان ما في خلفية عقلك، وقد ظهر ذلك في فيلم Insomnia، في تلك اللقطات بدايةَ الفيلم التي حملت صوراً من ماضي «دورمر»، ثم ازدادت تلك اللقطات مع تفاقم قضية القتل التي يعمل عليها «دورمر»، فكل هذه مشاكل غير محلولة اختار دورمر بمحض إرادته أن يُفكِّر فيها، أن تظل تعمل هناك في مكان ما في عقله، يتذكرها ليتمنى لو كان تصرّف فيها بطريقة مختلفة كما في قضيته السابقة مع زميله، أو يتذكرها ليحاول حلّ المشكلة كما في قضية القتل الجديدة.
اضطراب التوتر الحاد
على الأغلب تظهر أعراض «اضطراب القلق العام» بعد ثلاثة أيام إلى شهر من حدوث صدمة ما، لكن هذا لا يمنع من ظهورها في الحال فور حدوث الصدمة. تشمل الأعراض شظايا ذكريات مُدمَّرة ومزعجة تتكرر داخل الأحلام، أو خلال تذكر المريض للماضي، أو في حالة اليقظة، إذ تتبدل للبيئة والأشخاص من حول المريض ليرى تلك الذكريات المزعجة. يبذل المريض جهوداً مضنية لمنع ظهور تلك الذكرى لكنه لا يفلح، مما يُساهم في تبدل حالته المزاجية وحدوث اضطرابات النوم لديه.
عانى المحقق «دورمر» في الفيلم من صدمة سابقة أثّرت على جودة نومه، ومع تقدم أحداث الفيلم تحدث صدمة أقوى لتمنعه نهائياً من النوم وتزداد حالة الهلاوس البصرية التي ظهرت في اللحظات الأولى لافتتاح الفيلم.
لا نعلم هل قصد المخرج «كريستوفر نولان» شيئاً بتلك الهلاوس أم لا، لكن الهلاوس البصرية بالذات تُنبئنا عن حالة يُعاني منها مرضى الأرق وهي (Microsleep – النوم القهري). ونظراً لحرمان الدماغ من النوم ليلاً، يلجأ إلى نوبات قصيرة جداً من الراحة كلما أمكن ذلك، لحظات من فقدان الانتباه؛ التحديق في الفراغ وإغلاق العين تسمى بالنوم القهري.
أشاد النُقّاد بالفيلم باعتباره ينقل المُشاهد داخل جسد شخص مُصاب بالأرق حقاً، كل تلك التفاصيل الصغيرة حتى وإن لم يقصدها نولان، فإنها جميعاً تُساهم في بناء لوحة مكتملة الأركان، صورة واضحة جداً لشخص عادي جداً يعيش بيننا مصاب بالأرق.
ذهان نتيجة الأرق؟
يستجيب الجسم بطرق غريبة حين يقرر أن يبقى يقظاً، إليك بعض منها.
في اليوم الأول:
يؤثر البقاء مستيقظاً على الجسم كما يؤثر التسمّم؛ حيث اقترحت دراسة أُجريت عام 2010 أن البقاء مستيقظاً لمدة ما بين 20 و25 ساعة تؤثر على التركيز والأداء كما يؤثر تركيز كحول 0.10% في الدم، مع العلم أن نسبة 0.08% كافية لاعتبار الشخص ثَملاً، ولا داعي طبعاً للتنبيه على تجنّب القيادة بعد قضاء يوم وليلة بلا نوم.
إذا بقيت مستيقظاً ليوم قد تلاحظ أشياء أخرى مثل:
- صعوبة في التركيز واتخاذ القرارات.
- رعشة.
- صعوبة في السمع والرؤية.
إذا زادت تلك المدة ليوم ونصف اليوم:
- يبدأ الجسم في الدخول في حالة من التوتر ينشُب عنها إفراز هرمون الكورتيزول الذي يسبب الإرهاق وصعوبة التحدث بوضوح.
بعد يومين:
- يضعف الجهاز المناعي وتبدأ نوبات النوم القهري.
بعد ثلاثة أيام:
- يبدأ وعيك بالتشوش إذ ترى الأشياء على غير طبيعتها أو تبدأ في تصديق معلومات غير صحيحة.
بعد أكثر من ثلاثة أيام:
- تتفاقم حدة الأعراض السابقة كلها وتدخل في مرحلة الذهان.
تُعرّف حالة الذهان على أنها حالة من حالات ذهاب العقل، يدرك فيها الدماغ البيئة من حوله بطريقة مختلفة عن بقية الناس الذين يعيشون نفس الموقف، ومن أعراض الذهان:
- الأوهام: يُصدِّق الشخص في أشياء غير حقيقية، كأن يصدق بأنه ملك من الملوك.
- الهلاوس: يبدأ الشخص في رؤية أو سماع أو شم أشياء لا وجود لها.
وغيرها من الأعراض، ربما لم يبرع في تمثيل الذهان المرتبط بالأرق أحدٌ بقدر ما برع الممثل «كريستيان بيل» في فيلم The Machinist، فإلى جانب تمثيله الرائع للأرق، الذي على إثره نَحِل جسمه، جسّد بيل أعراض الذهان حين رأى أشياءً وصدّق في مؤامرات لا وجود لها.
الأرق العائلي القاتل FFI
رغم أنّه ينتشر في 40 عائلة فقط حول العالم، ومُصاب به 100 فرد فقط، فإن أول حالة وُثّقت به كان رجلاً مصرياً -يا للحظ!- قد انتقل للعيش في هولندا قبل 19 عاماً، لكنها لم تكن الحالة الأولى التي يتم تشخيصها بهذا المرض، فقد لُوحظ المرض للمرة الأولى لدى رجل إيطالي عام 1765، إلا أن تعريف المرض وتشخيصه سريرياً لم يتم قبل عام 1986، فما هو هذا المرض؟
يُعرَف الأرق العائلي القاتل بأنّه مرض وراثي بالغ الندرة، الأرق أولى علاماته، يظهر فجأة ثم ما يلبث أن يتطور تدريجياً مع ظهور بقية العلامات كالهلاوس ونوبات الذعر، ثمّ يفقد المريض وزنه نتاج ذلك.
نتيجة لطفرة في جين PRPN المتحكم في تخليق بروتين PrP، ينشأ البروتين بأشكال غير صحيحة في منطقة المهاد، ويتراكم بها على مدار حياة الإنسان مدمراً إياها. وتعتبر منطقة المهاد المسؤولة عن تنظيم الأكل والنوم ودرجة الحرارة في جسم الإنسان، لذا فإن هذا التدمير يطال كل تلك العمليات.
ورغم أنّ الأعراض التالية للأرق جميعاً من فقدان التحكم في الحركة وفقدان القدرة على البلع وفقدان التركيز التي تنتهي بحدوث غيبوبة ثم الموت، قد تكون نتيجة لانعدام النوم، فإنها قد تكون أيضاً نتيجة للتدمير الحادث في منطقة المهاد. وحتى الآن لا يوجد دواء لمرضى الأرق العائلي القاتل، ويقتصر العلاج على السيطرة على الأعراض التي تستمر ما بين ستة أشهر إلى ستة وثلاثين شهراً، قبل أن يُفارق المريض الحياة.
هل يمكن للأرق أن يقتل الإنسان؟
في واحدة من أغرب التجارب التي أُجريت عام 1894، أي منذ ما يُقارب ال 130 عاماً، قامت الطبيبة الروسية «ماريا ماناسينا»، التي تُعتبر من أوائل طبيبات الإمبراطورية الروسية في التاريخ، بتجربة لمعرفة ما إذا كان النوم أكثر أهمية من الطعام، ولاختبار ذلك أرغمت ماريا أربعة كلاب صغيرة على الاستيقاظ من خلال الاستمرار بالمشي وتحريكهم.
مات الجرو الأول بعد 96 ساعة، بينما هلك البقية بعده بوقت قصير. ومن أجل التأكد من نتائجها، أعادت ماريا التجربة على ستة جراءٍ آخرين، الذين هلكوا هم الآخرون، لتخرج ماناسينا بنظريتها موضع الشكوك، وتقول «إن النوم أكثر أهمية للبقاء الفوري من الطعام».
لم تخبرنا تجربة ماريا عن إجابة لسؤالنا بعد، لكن بعد عام من قيامها بقتل الجرِاء، أعادت «جامعة لوا» تجربة الحرمان من النوم لكن على الإنسان؛ إذ قام العالم القائم على البحث بمراقبة ثلاثة رجال ظلوا مستيقظين لتسعين ساعة متواصلة، وبعدها خلدوا إلى النوم دون أي مشاكل وناموا بعمق حتى أن الصدمات الكهربائية التي تعرّضوا لها آنذاك لم تقدر على إيقاظهم.
تلا ذلك عدة تجارب، منها مذيع الراديو «بيتر تريب» الذي ظل مستيقظاً لـ 201 ساعة عام 1959، وقال عنه أهله بعدها إنه لم يعد كما كان أبداً. كذلك «راندي جاردنر» صاحب أطول وآخر رقم قياسي للبقاء مستيقظاً -قبل أن توقف موسوعة غينيس هذا الأمر لما له من مخاطر- إذ بقي راندي مستيقظاً لمدة 11 يوماً و24 دقيقة.
هل يمكن للأرق أن يقتل الإنسان؟
لا نعلم.
هل الإنسان مثل باقي الحيوانات سيموت عند حرمانه من النوم؟
لم نحصل على إجابات مُرضية عن هذا السؤال أيضاً.
حسناً هل يعد مرض الأرق العائلي المميت دليلاً أن الأرق يقتل الإنسان؟
أيضاً هذا ليس دليلاً كافياً.
يزيد الأرق مثلاً من حدوث أمراض القلب المميتة لكنه لا يقتل الإنسان بشكل مباشر. نحن الآن في قاعة المحكمة نقف أمام المتهم الوحيد الذي وُجد في ساحة الجريمة، غير أننا ليس لدينا ما يكفي من الأدلة لإدانته.
قد يُسبِّب الحرمان من النوم الموت بشكل مباشر، قد يُحرّض أجهزة الجسم على ذلك بشكل غير مباشر، وقد يكون بريئاً ليس له ذنب سوى أنه ظهر نتيجة أمراض متخفية هي سبب الموت وقد دفعت به ليظهر هو في الأمام، بينما الأرق بريءٌ من كل ذلك.