كيف يمكن لمراهق أن يغضب التنين الصيني ويخرج منتصرًا؟
يقولون سواء أكنت تحيا داخل الصين أو خارجها، فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث لشخص هو أن تبحث عن اسمه بالإنترنت وأنت داخل الصين، فتجد أن جميع نتائج البحث قد تم حجبها، حينها يجب أن تفكر جيدًا. ماذا فعل هذا الرجل ليغضب التنين الأحمر لهذه الدرجة؟ ثم ماذا لو علمت أن هذا الشخص لا يتجاوز عمره السابعة عشرة، وليس بقرصان ولا مخترقٍ إلكترونيًا كالذين نسمع حكاياتهم بين الحين و الآخر، إنه ليس إلا تلميذًا رفع يومًا مظلة ملونة!
في مارس من العام 2012، دعا رئيس الحكومة في هونغ كونغ -لونغ يينغ- إلى مبادرة منه لمقابلة عدد من المواطنين. كل ما عليك هو أن يحظى منشورك على الفيسبوك عن الدعوة آلاف الإعجابات. كان وقتها جوشوا وونغ طالبًا لم يتعدّ الرابعة عشرة من عمره قد أبلغ أصدقاءه أنه يحتاج لهذه المقابلة، وقد كان. بعدها تم اللقاء بالفعل مع عدد من المواطنين وكان منهم الشاب الضئيل للغاية جوشوا الذي كان لديه سؤال واحد: لماذا تصرون على فرض مادة التربية الوطنية، لماذا تحاسبني إن لم أجب بالامتحان على ما تريده الصين؟ الصين، هونغ كونغ، مادة التربية الوطنية، عن ماذا نتحدث هنا؟
قبل العام 1997 كانت هونغ كونغ تحت إدارة الحكم البريطاني، حتى أتى العام وقد سلمت بريطانيا الصين كنوع مما أطلقوا عليه استردادًا لأرض هونغ كونغ. حينها لم يخفِ سكان هونغ كونغ مخاوفهم من فقدهم لحلم الحكم الذاتي كدولة مستقلة، ومن ثم كيف لنظام اقتصادهم الرأسمالي وحرياتهم المطلقة أن تتأقلم داخل نظام دولة شمولي شيوعي! ولكن الصين كانت مبادرة لدرء هذه المخاوف بتصريحها أنها لن تمس أيًا من الحريات المعيشية أو الاقتصادية لهونغ كونغ، مع وعد بإعطاء السكان حق انتخاب أصحاب السلطات التنفيدية الثلاثة في وقت لاحق.
حتى أتى العام 2012 حين أعلنت الصين خططًا لتدريس التربية الوطنية في المدارس. هذه الحركة أعادت إلى الأذهان وعودًا قديمة بمنح حكم مستقل، ولكن أين هذه الوعود وهناك مخاوف من غسل دماغ تلامذة المدارس حول الصين ومحاسباتهم إن لم يجيبوا في الامتحانات ما يقوله الأخ الأكبر حول الوطن؟. حينها أسس جوشوا صاحب الرابعة عشرة تنظيمًا طلابيًا أسماه «سكولاريزم Scholarism» يهدف إلى الضغط على الحكومة للتوقف عن فرض مادة التربية الوطنية في المدارس. وحين حدث وقابل رئيس الوزراء وفاتحه بالموضوع، ظهر من الرجل أنه لم يسمع أصلاً بهذه الحركة الطلابية من قبل، حينها أصر جوشوا أن يبلغه صوت الحركة بطريقته الخاصة.
قصة مادة التربية الوطنية ليست إلا تمهيدًا لملحمة أكبر، لذلك إن كنت ستشعر بالملل من سرد حكاية اعتراض مجموعة تلاميذ حول مادة مدرسية فلا تقلق، القصة ستتضخم أكثر من كل ذلك فيما بعد.
بدأ جوشوا إعلانه عن تنظيم اعتصام أمام مقر الحكومة بعد تنظيمه لعدد من المسيرات داخل قلب هونغ كونغ، الاعتصام جاء قبل أيام من بدء الدراسة للفصل الدراسي الجديد. لم يكن العدد يتجاوز 50 فردًا حين بدأ الطلاب في نصب خيم الاعتصام أمام الساحة العامة بمقابلة المبنى الحكومي الرئيسي بالبلاد. لم يُعنَ أحد لأمرهم في البدابة، و ما هو ثالث أيام الاعتصام حتى بدأ المطر –الذي يسقط في أي لحظة في هذه البلاد- و بدا الإعياء واضحًا على كل أفراد الاعتصام صغار السن، حتى انسحب معظمهم من الخيام المبللة، ولم يبقَ في الساحة سوى القلة التي أصرت على استكمال الاعتصام مهما كانت الظروف وضغط ولاة الأمور للعودة.
اليوم الرابع، الموافق لأول أيام الفصل الدراسي وبداية تطبيق مادة التربية الوطنية، والأعجوبة تحدث بالفعل، المئات ينسحبون من الفصول الدراسية متجهين للساحة العامة للانضمام لجوشوا ورفاقه، وما هي ساعات حتى صار العدد بالآلاف. ومع عناد الطلاب في الاستجابة لأهلهم بالعودة للمدرسة، انضم الكثير من الأهل أيضًا، وامتلأ الاعتصام في يومه العاشر حتى أغلق الساحة والمنتزهات المحيطة وممرات المشاه وأربعة طرق رئيسية، وصار الهتاف «احتلوا مقر الحكومة الرئيسية» يعلو فيصم آذان أعضاء الحكومة الذين انصدموا بالكامل من التحرك الطلابي غير المسبوق وفي وجه ليس الحكومة فقط، بل وجه الصين نفسها.
الأمر الذي دعا الصين في نهاية المطاف في سبتمبر من العام 2012 إلى الاستجابة وإلغاء المادة المثيرة للمشاكل والرجوع خطوة للوراء في تحديهم مع الطلاب. لكن هل انتهت القصة؟، ألم أخبرك أن هناك مظلة ملونة في الأمر!؟َ، إذن القصة لم تنتهِ بعد.
بالتأكيد صار جوشوا أيقونة في البلاد هو و رفاقه، لكن الكل كان يراهن أن القصة انتهت عند هذا الحد، حتى أتى مارس 2013، حين تولى شي جين بينغ رئاسة أكبر حزب في العالم؛ الحزب الشيوعي الصيني. المشكلة أن هذا الرجل معروف بمواقفه تجاه هونغ كونغ وشكوك كثيرين حول نواياه نزع كل العهود السابقة بتقرير شعب هونغ كونغ مصيره واختيار قائده وليس تعيينه من قبل الحزب الشيوعي الصيني كما كان يحدث.
لكن هذه المرة القصة لربما كانت أكبر من حركة طلابية لتصعيدها. فكان البروفيسور القانوني بيني تاي هو من حرك القصة مجددًا عبر مقال يدعو فيه لاتخاذ إجراءات قوية للضغط على الحكومة الصينية بمنح الشعب الوعود التي وعدها إياهم مسبقًا. ونظم بعدها عددًا من الوقفات الاحتجاجية مستلهمًا نجاح «سكولاريزم» السابق. وكانت الفكرة؛ هذه المرة سنحتل مكانًا أكثر حساسية، سنحتل المقاطعة الوسطى حيث البنوك ومراكز تداول الأوراق المالية والمراكز التجارية العالمية.
ببساطة، احتلال المنطقة الوسطى من مركز تجاري مالي عالمي كهونغ كونغ لا يعتبر ورقة ضغط محلية، بل عالمية إن أردت التعبير بدقة. على العالم كله أن يضغط على الصين للاستجابة لمطالبنا، وكان الشعار (Occupy Central احتلوا المقاطعة الوسطى).
لم تبدأ الحركة بالفعل إلا واحتشد حولها الآلاف، مما اضطر البرلمان الصيني إلى اللجوء لحيلة بسيطة. عبر منح الشعب حق اختيار قيادات السلطات التنفيدية الثلاثة بالانتخاب، ولكن الانتخاب يكون من ضمن مجموعة محددة يختارهم البرلمان الصيني نفسه؛ أي ببساطة يمكنكم الاقتراع ولكن من بين من نختارهم نحن.
قرر بيني تاي أن تبدأ الحركة فعليًا في أكتوبر من العام 2014، وحتى ذلك الوقت، على كل الحركات المجتمعية التحرك لتنظيم الأمر ليظهر بأقوى مظهر يمكن له. لا بد من التنظيم ليظهر الأمر بأقوى شكل ممكن.
كانت تحركات «سكولاريزم» أسرع مما تخيل البعض، فدعت إلى إضراب طلابي في المدراس، و حينها كانت لـجوشوا جملة شهيرة:
وبالفعل بدأت التجمعات تحتشد في المتنزهات العامة واحتشد المئات في أول يوم، مما زاد من رغبة سكولاريزم لإعادة احتلال الساحة المفتوحة أمام الحكومة كما حدث المرة السابقة، ولكن قوات الأمن كانت متأهبة للغاية هذه المرة، فحدثت الاشتباكات هذه المرة، ورغم أنها ساحة عامة مفتوحة للجمهور، إلا أن هذا اليوم انتهى باعتقال عدد كبير من الطلاب من بينهم جوشوا الذي اعتقل ليومين حتى اضطروا للإفراج عنه بسبب تجمهر المئات أمام قسم الشرطة.
التطور الحاصل في اعتقال جوشوا جعل من الأمور تتسارع بشكل غريب، فأُطلقت رسميًا حركة «احتلوا المنطقة الوسطى» والتي كان مخططًا لها أن تتم بعد شهور. وفي ليلة وضحاها كان الطريق السريع في هونغ كونغ والذي يمر بالمنطقة الوسطى مكتظًا عن آخره بالشعب. و لم تكن قوات الأمن لتتعلم أبدًأ من الدرس. فمنذ أول يوم كانت القنابل المسيلة للدموع تحاول تفرقة الجماهير، وما إن تهدأ قليلاً وينقشع الدخان حتى يكشف عن جموع أكثر و أعداد في تزايد. أيام وحتى ملت قوات الأمن من التعامل بعنف؛ لأنه يبدو أن العنف سيجلب مزيدًا من الأنصار.
مئات الآلاف في أول أسبوع فقط من إعلان الحركة يحتلون كل شبر في المقاطعة الوسطى بمعنى الكلمة في صورة جمالية فريدة. كان كل متضامن يحضر ومعه مظلة يحتمي بها من المطر الغزير والقنابل المسيلة للدموع ورشاشات الفلفل الحارق و خراطيم المياه. وحين كانت ترفع مرة واحدة كنت تشاهد لمحة جمالية مكونها الأساسي مظلات ملونة، ومن هنا جاءت التسمية؛ ثورة المظلات الملونة.
في هذين المقطعين القصيرين يمكنك أن تتبين لمحة من الأعداد الغفيرة التي احتلت المقاطعة الوسطى وأنواع أنشطتهم الاحتجاجية
ولكن مع اقتراب اليوم الثمانين من احتلال المنطقة الوسطى كان قد ظهر الاستسلام على أغلب حضور الاحتلال، مما دعا بيني تاي إلى إعلانه تسليم نفسه للسلطات الرسمية رغبة منه في إجبار الطلاب على الانسحاب هم أيضًا من المقاطعة وخوفًا منه عليهم لصمودهم كل هذه الأيام الطوال التي اقتربت من ثلاثة أشهر قضوها تحت المطر على أسفلت الشوارع. مما دعا جوشوا وعددًا من مرافقيه إلى الضغط بورقتهم الأخيره وهي الإضراب عن الطعام. ولكن جسد جوشوا هزيل للغاية وليس بقوة رأيه. فلم يحتمل خمسة أيام إلا وقد سقط في إعياء شديد كاد أن يودي بحياته بالفعل. فانتهى الإضراب وهو في المشفى، وانطوت صفحة ثورة المظلات الملونة التي أضرمها طلاب المدارس في واحدة من أكبر الاحتجاجات السلمية زمنًا و عددًا في التاريخ الحديث.
لكن من قال إن جوشوا أو «سكولاريزم» قد يستسلمون؟ جاءت الورقة التالية بعد شهور في إعلان إنهاء حركة «سكولاريزم» الطلابية بعد تصاعد المخاوف من الضغوط الصينية وخاصة بعد حادثة اختطاف مجموعة من الكتاب كانوا يتبعون دار نشر تتبنى الكتابات المناهضة للشيوعية. حينها علم الجميع أن الصين ستبدأ بتصفية الحسابات من اليوم، فأثمرت اللقاءات المطولة بين أعضاء الحركة الذين لم يبلغ أغلبهم الثامنة عشرة من العمر أن على التحرك القادم أن يسلك مسارًا مختلفًا. ببساطة، لا بد للحراك الثوري أن يتوقف، وأن نخوض مسارًا سياسيًا هذه المرة، فالمساران من النادر أن يجتمعا في آن واحد.
وبالفعل أسس نفس الطلاب حزبًا سياسيًا باسم «ديموزيستو Demosisto» وقرروا تجربة خوض الانتخابات التشريعية في البلاد. وهو ما تكلل بالنجاح بالفعل بفوز عضو الحزب «نايثن» والوحيد تقريبًا البالغ السن القانوني للانتخاب من بينهم، و يحصد مقعدًا في البرلمان في انتخابات صعبة للغاية انتهت في سبتمبر 2016. ويخطط «جوشوا» بالفعل لخوض انتخابات 2020 حين يبلغ السن القانوني لذلك. وفي تعليقات طريفة حول هذا الحزب، كان البعض يتعجب من كونه حزبًا تجد فيه ألعاب الكمبيوتر والبيتزا وأصوات الضحك بين أعضاء الحزب لا تخفت. ببساطة إنه حزب مراهقين بمعنى الكلمة.
لم تكن «سكولاريزم» إلا حلقة من تاريخ نسيناه بالفعل حين كانت الحركات الطلابية في المدارس والجامعات هي من تحرك المجتمعات وتقرر مصائر الشعوب، فهم أصحاب المستقبل ولهم الحق الأكبر في تقرير ملامحه. ولكنها أيام ولت وصاروا يقنعونك أنك لا زلت صغيرًا، تحتاج أن تكبر وتشارف على الموت حتى تقرر مستقبل من سيأتون بعدك!
وأنت عزيزي القارئ، ما أهم ملامح من القصة أعجبتك؟ ولو بيدك التغيير في مجتمعك أي القرارات ستتخذ في البداية؟