كيف سمع البريطانيون كلمة «جووول» للمرة الأولى
تخيل أنك لم تستطع مشاهدة إحدى المباريات بسبب ظرف طارئ أو بسبب قيادة سيارتك خلال عودتك من العمل. الأمر مزعج جدًا إن كان فريقك المفضل يلعب ولم تتمكن من متابعة أحداث تلك المباراة. اليوم هو قمة الدوري المصري بين ناديي «الأهلي» و «الزمالك». لا يمكنك متابعة المباراة ولا يمكنك قراءة ما يحصل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب انشغالك بالقيادة، لكن هناك وسيلة أخرى يمكنها مساعدتك وهي الراديو أو إذاعة الشباب والرياضة.
عند سماعك للتعليق ووصف المذيع للأهداف بإمكانك الشعور بالفرحة ذاتها حتى لو كنت تشاهد اللقاء. وسيلة لم تعد تغري المتابعين الذين يهوون متابعة المباراة بسبب افتقادها للصورة التي أصبح لها الأثر الأكبر في العصر الحالي، لكن ما زال باستطاعتها إرضاء شغفك رغم ذلك. كيف تتخيل اللحظة الاولى التي اختبر فيها متابع كرة القدم سماع كلمة هدف أو « جووول » للمرة الأولى من منظور المستمع ومن وجهة نظر الناقل أو المعلق؟
في الـ22 من الشهر الحالي احتفلت شبكة قنوات «BBC» البريطانية الشهيرة بمرور 91 عامًا على بداية تغطية الأحداث الرياضية بشكل إذاعي عبر أثيرها. «بي بي سي» افتتحت باكورة أحداثها بنقل مباشر لمباراة المنتخب الإنجليزي ونظيره الويلزي في إحدى بطولات الرجبي. لكن كيف كان الحال للمستمعين والمهتمين بالنشاطات والفعاليات الرياضية في تلك الآونة؟ وكيف كانت التجربة التخيلية لمباراة أو لحدث فيه الكثير من التفاصيل الدقيقة مع كل لحظة جديدة، ويحتاج لإيصال الصورة كما هي لمتابع يتلقى المعلومة عبر السمع فقط؟
بداية الحكاية
نحن الآن في الأول من يناير/كانون الثاني من عام 1927، كان الراديو قد بدأ بالتأثير على المجتمع العالمي بشكل عام وفي المجتمع البريطاني على وجه الخصوص بعد 5 أعوام على إطلاق راديو «BBC». البث الإذاعي اللاسلكي تحول إلى ظاهرة اجتماعية وثقافية، ومن شأنه أن يزداد تأثيره زخمًا وقوة بعد صدور قرار خاص بالإذاعة في التاريخ ذاته.ميثاق ملكي نص على اعتماد «BBC» كهيئة رسمية للإذاعة البريطانية وتحويلها إلى مؤسسة عامة. قرار كهذا سيغير كثيرًا من تاريخ الراديو وتاريخ اللعبة في بريطانيا على حد سواء؛ لأن هذا الميثاق منح شبكة الراديو الحق في تغطية الأحداث الرياضية بشكل إذاعي عبر أثيرها.
في تلك الآونة، قام الصحفي «جورج أليسون» _والذي كان يغطي مباريات أرسنال من خلال تقاريره الصحفية_ بتطوير مشروع جديد في ناديه يقدم فيه برنامج المباراة من خلال كُتيب يوزع على الجماهير في المدرجات قبل انطلاق صافرة البداية. خلال هذا المشروع خطرت له فكرة من شأنها أن تغير وتعزز طريقة التفاعل بين كرة القدم والجماهير. اتصل «أليسون» بهيئة الإذاعة البريطانية وعرض فكرة تقديم بث إذاعي مباشر لإحدى المباريات عبر إذاعة «BBC»، وهذا ما لم يحدث مطلقًا في السابق. اتفق الطرفان على المضي قدمًا بالمغامرة وتم اختيار مباراة أرسنال ضد نادي شيفيلد يونايتد والتي ستقام في استاد هايبوري الخاص بنادي أرسنال اللندني.
كان لزامًا على الإذاعة البريطانية تدبر مسألة البث والتحضير لها خلال مدة قصيرة بعد صدور القرار الملكي، لذلك تم اختيار المذيعين على عجالة وبسرعة ولم يختبر بعضهم إلا لمرة واحدة. حيث تم إجراء اختبار صوت في البداية للتأكد من مناسبة الصوت للإذاعة ومدى تقبله من قبل المتلقي، ولاحقًا تم إخضاع المرشحين لمحاولة بث افتراضي في إحدى مباريات المدارس، وحتى أنه تم الاستعانة بشخص فاقد البصر لكي يعتاد المذيع على نقل المباراة بالشكل الأمثل والأدق.
يوم المباراة
نهار داخلي
في 22 يناير/كانون الثاني عام 1927 تجمهرت العائلات بصحبة الأصدقاء والأقارب داخل المنزل حول الصندوق الخشبي وهم ينتظرون بفارغ الصبر بداية اللعبة من أجل الاستماع إلى أول بث مباشر لمباراة في كرة القدم. سيختبر الجميع تجربة فريدة من نوعها ومن شأنها أن تقدم المتعة والترفيه للجميع. تجربة تتيح معرفة ما يحدث في المباراة بشكل مريح من المنزل، سواء كنت على فراشك أو أثناء تحضيرك لطعام الغداء، ناهيك عن الراحة من تكلف عناء السفر أو الذهاب إلى الملعب لمتابعتها.
تعد عملية الاستماع إلى المباراة بمثابة تجربة جديدة ومختلفة لجميع المشجعين البريطانيين وحتى المهتمين باللعبة ومتابعيها، فالعملية كما جرى بالاختبارات أشبه بشرح ما يحصل لشخص ضرير و يتوجب على الناقل إيصال الفكرة بالشكل الصحيح، فهي تحتاج لوصف دقيق لمجريات المباراة وتصوير المشهد بحذافيره للمستمع الذي بدوره سيتخيل ما يحصل في المباراة من خلال كلمات المعلق فقط.
ولتسهيل هذه التجربة الحديثة على المتابع وجعلها أكثر تفاعلية وواقعية، قامت «بي بي سي » قبل أيام من موعد المباراة بنشر إعلان ورسم بياني في صحيفة التايمز. هذا الإعلان الذي ابتكره المنتج «لانس سيفيكينج» يحتوي على مخطط توضيحي تم فيه تقسيم الملعب إلى 8 مناطق أو مربعات مختلفة، يصف فيه المعلق أماكن تواجد الكرة ومن خلاله سيتخيل المستمع و يدرك ماذا يجري بالفعل.
و يعتقد كثيرون أن أصل عبارة «العودة إلى المربع الأول» مستقى من البث الإذاعي للمباريات، حيث كان المعلقون يكررون هذه العبارة عند إعادة الكرة من لاعبي الوسط إلى لاعبي الدفاع في القسم رقم 1 من مخطط سيفيكينج، واستمرت كمصطلح شائع حتى أيامنا هذه.
العبارات التي استعملها المعلقون لوصف مجريات المباراة في بداية النقل الإذاعي.
نهاري خارجي
المعلق الإنجليزي تيدي واكيلام
من حجرة خشبية صغيرة على أطراف الملعب تشبه إلى حد ما أكواخ الغابة، نال «تيدي واكيلام» شرف التعليق على المباراة التي ستجمع أرسنال بضيفه شيفيلد يونايتد، واكيلام لم يكن صحفيًا أو معلقًا أو ذا صلة بالإنتاج الإذاعي، بل كان لاعب رجبي سابق، وحصل على الوظيفة قبل أسبوع واحد من مباراة أرسنال عندما علق على أول حدث رياضي تم إذاعته عبر «BBC» والذي جمع بين منتخبي إنجلترا وويلز للرجبي. في سيرته الذاتية،يصف واكيلام كيف أصبح مذيعًا في بي بي سي:
المباراة في هايبوري كانت مملة جدًا، لأن اللعبة تقام في لندن خلال شهر يناير الذي يتسم ببرده القارس في الشمال الغربي للقارة العجوز. العشب كان متجمدًا وزلقًا وكانت حركة اللاعبين بطيئة وحذرة خوفًا من الإصابات. والأمر ذاته لعملية البث والنقل الإذاعي، فلم تكن الظروف مثالية للنقل المباشر وواجه «واكيلام» تحديات كبيرة لتقييم المباراة بسبب سوء الأحوال الجوية وصعوبة الرؤية في بعض الأوقات.
ناهيك عن الظروف المناخية الرديئة، لك أن تتخيل أن الأندية في تلك الفترة لم تكن تملك الجودة الكافية لتقديم أداء مميز، لكن لحسن الحظ تمكن لاعب أرسنال «تشارلي بوشان» من تسجيل هدف في الدقيقة 80، و منح «بوشان» بهدفه الفرصة لواكيلام والمجتمع البريطاني لنطق وسماع كملة جووول للمرة الأولى عن طريق البث الإذاعي، قبل نهاية اللقاء استطاع شيفيلد تعديل النتيجة عن طريق قائده «بيلي جيليسبي» ولتنتهي اللعبة الإذاعية الأولى بنتيجة 1-1.
لن تبقى المباراة في ذاكرة كرة القدم لجودتها الكروية والفنية بكل تأكيد فهي لم تكن كذلك، لكنها ستمهد الطريق إلى وسيلة اتصال جديدة، و سوف تنتشر معها اللعبة من خلال الترانزستورات والموجات لتصل إلى المنازل، والأطفال الذين يستمعون سوف يحلمون ويتصورون لعقود كيف يكون شكل أحد اللاعبين الذي تكرر اسمه كثيرًا وأعجبوا به حتى ظهور التلفزيون لاحقًا.
ما بعد المباراة
لسوء الحظ، لا تملك الإذاعة البريطانية في أرشيفها تسجيلاً لهذه التجربة المميزة، والتي استجابت بسرعة وبدون تخطيط مسبق للقرار الملكي. وقد نقلت صحيفة التايمز في تلك الآونة بأن جهود «واكيلام» وقدراته كانت مثيرة للإعجاب وأشعرت المستمع بأنه يتابع المباراة بشكل حي، وقالت بأن هذا النوع من البث لاقى استحسان الجماهير وأن تاريخ الإعلام واللعبة قد تغير للأفضل وللأبد.
المثير للاهتمام أن الإدارات الرياضية من جهة والإعلام المكتوب من جهة أخرى قد عارضا الوسيلة الإذاعية الجديدة خوفًا من خسارة متعهدي المباريات وفقدان الصحف للقراء.
في هذا العصر من وسائل الإعلام الحديثة، من الطبيعي أن نتساءل ما يخبئه مستقبل التكنولوجيا لكرة القدم والراديو على حد سواء. فبإمكانك الآن معرفة ما يدور في أي مباراة حول العالم ومشاهدة الأهداف بعد دقيقة من تسجيلها على الهاتف المحمول، وقراءة الآراء الفورية على تويتر وفيسبوك.
يكاد يكون مستحيلًا مشاهدة لعبة كاملة في الوقت الحالي دون تشويش وتشتيت خارجي بسبب مسارعتك لقراءة الآراء المتنوعة عن الهدف في وسائل التواصل. في الماضي كان هناك تركيز كامل على الكلمات التي يسترسل بها المعلق، أما الآن فالجميع يفضل متابعة وسائل التواصل وصوت المعلق هو مجرد تنبيه للحظة دخول الهدف.