«كيف تفكر الأنثى» كتاب صدر بالإنجليزية وترجم مؤخرًا إلى العربية. بداية يتوجب التنويه أنني لم أقرأ الكتاب وإنما اطلعت على عرض لفرضيات التأسيسية قام به المؤلف نفسه عبر نافذة اليوتيوب. حيث يأمل المؤلف بواسطة هذه الفرضيات، في بناء عالم جديد خالٍ من العنف والتطرف والحروب من خلال التحكم في العمليات العصبية للدماغ لتنمية النصف الأيمن من المخ المسؤول عن الأنوثة.

يهدف الكتاب إلى تقديم مشروع لعالم جديد يقوم على النصف الأيمن من المخ المسؤول عن الحدس وبالتالي عن الأفعال الأنثوية. يقول المؤلف:

تحدثت عن الأنثى وليس عن المرأة، الأنثى الموجود في النصف الأيمن من المخ لدى كل من الذكر والأنثى، ولكن المرأة تستخدم النصف الأيمن من المخ أكثر من النصف الأيسر، ولذلك سمات النصف الأيمن من المخ ندعوها سمات أنثوية وهي الحدس والشعور، وهي طرق مختلفة من مقاربة المعرفة وكثير من القضايا.

ينطلق المؤلف من منظور physiology (فيزيولوجي) للحياة يختصر الجسد إلى بعد بيولوجي. فالأفعال الإنسانية تظهر هنا كانعكاس للعمليات العصبية التي تجري في الدماغ. ومن خلال هذا المنظور، فإن الهدف المعلن للكتاب كما جاء على لسان المؤلف هو: «إحداث ثورة في تنمية النصف الأيمن من المخ، القسم الذي ليس فيه أي من حالات التطرف»، إذ إن التطرف بحسب المؤلف: «ليس موقفًا أنثويًا هو موقف ذكوري على النصف الأيسر من المخ لأنه يعتمد المنطق والنصوص، بينما الإيمان وحب الله والألفة مع الآخرين ومع الوجود هو موقف أنثوي، والقتال موقف ذكوري، الحلم والاحتواء موقف أنثوي، ولكن العقوبة ذكورية».

بهذه الطريقة يقارب الكاتب الموضوعات: «يتحدث عن الهرومان وعن طريقة أدائها بالنسبة للأنثى وعن تشريح المخ، وعن نصف المخ الأيمن، كما يتحدث الكتاب عن العقد الحضارية عند الأنثى». ما يريده الكاتب هو تبيان كيف تفكر الأنثى كمشروع لعالم جديد يعمل بالأنثوي وبالحدس لا بالنصوص والمنطق.

ما يريده المؤلف هو توسيع من النصف الأيمن (الأنثوي) من المخ على حساب النصف الأيسر (الذكوري) ليحقق بذلك هيمنة الأنثوي على المخ ككل. وهي عملية ليست أكثر من خرافة تتلبس ثوبًا علميًا حيث تنعدم شروطها الفعلية التي تجعلها ممكنة. فلا يعقل علميًا بأن يتحكم جزء من الدماغ في الدماغ ككل، كمن يريد، وهذا ما يريده المؤلف فعليًا، أن يجعل من الحدس كعملية إدراكية أنثوية بحسب المؤلف، تتحكم في العلميات الإدراكية الأخرى التي تقوم بها الألياف العصبية في الدماغ كالأدراك والفهم والتفسير والشعور والنقد والرفض والتخيل. وهذا مستحيل عمليًا.

يبدو هذا الحكم بالاستحالة ما إذا نظرنا إليه من منظور علمي صحيحًا. لكن ليس هذا ما يريده المؤلف، أي تقديم نظرية علمية محايدة، بمعنى إن المؤلف يقدم النصف الأيمن من المخ، أي الأنثوي، ليس بوصفه نظرية علمية، بل، وهذا هو المسكوت عنه، كمتخيل سياسي جديد لمكافحة الذكورة الثائرة في العالم العربي. وهذا ما يسعى المقال لكشف أمره المخبوء.

بما أن كل كلام في المعرفة هو كلام في السياسة أيضًا، وعليه نرى بأن الكتاب جاء في خضم معارك الإرهاب ووسط المدن المحترقة في العالم العربي. جاء الكتاب، إذًا، في سياقه، أي في سياق المشروع الغربي الرأسمالي الرامي إلى مكافحة التطرف إثر انتشار الجماعات الإرهابية من داعش وأخواتها. وربما يأمل الكاتب أيضًا، وهو المسكوت عنه، إلى مكافحة التمرد والثورة في سورية خاصة أن المؤلف من جوقة النظام السوري المدافعين عن النظام ممن يلبسون ثياب العلماء والمحللين السياسيين. وبالتالي يقدم المؤلف خدماته للقابضين على جهاز السلطة العالمية وتوابعها المحلية.

تتكشف نظرية «كيف تفكر الأنثى» كمسار للتحكم البيو-سياسي في السكان حيث تظهر كتطبيق للضبط السلطوي البيروقراطي يسلكه الفكر المحلي المعتني بترميم السلطة المتهشمة إثر الثورات العربية

ونرى في مشروع المؤلف «كيف تفكر الأنثى» هو أقرب إلى التخيلية السياسية كلحظة نظرية لمرحلة بناء سورية الجديدة ما بعد الثورة (وهو وصفة سياسية أيضًا لهياكل السلطة العالمية والمحلية)، أي سورية كحقل فارغ من الذكور الثائرين الذي يتحكم بهم النصف الأيسر من المخ المسؤول عن التطرف والإرهاب كما يزعم المؤلف. وبالتالي تحويل سورية الذكورية الثائرة اليوم إلى سورية الأنثوية غدًا الذي يتحكم بها النصف الأيمن من المخ المسؤول عن الأنثوي أي الحب والوئام والانسجام والتآلف التي تعني الوجود بالسلطة في نهاية المطاف، أي الانسجام والتآلف مع نظام السلطة والسيادة.

كشفت تحليلات ميشيل فوكو أن مسارات بناء الدول القومية تكشف عن عمليات بيولوجية سياسية، ولهذا السبب إن عمليات تفكيك وبناء الاجتماعي ليسا خارج صنع سلطة بيولوجية تأسست منذ البداية على إدارة الحياة لمختلف الفئات والطبقات الاجتماعية وبالتالي التحكم في الموت والحياة.

والأنثى هنا ليست نظرية علمية طبيبة محايدة بقدر ما هو مشروع للهندسة الاجتماعية يهدف إلى فرض هيبة السلطة، وبوصفها أداة حكومية سلطوية لإدارة السكان تهدف إلى التهذيب الاجتماعي ومن أجل إعادة إنتاج الاجتماعي للامبالاة تجاه السلطة. وبالتالي تفريغ السكان من القدرة على التمرد والثورة بذريعة محاربة الإرهاب والتطرف والعنف، وإن تلبست بثوب العلمية والحياد. فالمعلن هو الحديث عن الأنثى، والمسكوت عنه هو إعلان الحرب على الذكورة الثائرة باسم مكافحة التمرد، ليمسي الحديث عن الأنثى هو حديث من أجل استعادة لمعان السلطة ووهجها وبأسها بتقنيات يزعم بأنها علمية فيزيولوجية ومعيارية. لذا فهي نظرية مدرجة في النزاعات والحروب على السلطة تنتصر لفئة على فئة أخرى وتعمل بمفردات السلطة من أجل تقويتها وتشفيف منظومة سيطرتها، وبالتالي في خدمة هياكل القهر.

وهكذا، تتكشف نظرية «كيف تفكر الأنثى» كمسار للتحكم البيو-سياسي في السكان حيث تظهر كتطبيق للضبط السلطوي البيروقراطي يسلكه الفكر المحلي المعتني بترميم السلطة المتهشمة إثر الثورات العربية، وكصدى لانهيار قدرتها على الرقابة على السكان.


تهافت علمية الأنثى

بالإضافة للبعد السياسي لنظرية «كيف تفكر الأنثى»، هناك بعد آخر فكري نظري ينطلق منه الكاتب. تنطلق النظرية من فكرة فصل الذهن عن الجسد ذلك التقليد المهيمن على الفلسفة الحديثة. ولكن المفارقة التي تجعل من نظرية «كيف تفكر المرأة» ارتكاسية أنه ومنذ ستينيات القرن الماضي، داخل الفكر الغربي مواجهة معرفية تهدف إلى الخروج من آفة مذهب الذهن- الجسد الثنائي التي ابتُلِي بها التقليد الفلسفي الحديث منذ اللحظة النظرية الديكارتية التي هي في حقيقة الأمر استكملت محاولات سابقة دؤوبة بدأها السالفون منذ طرح قضية الجزئيات والكليات التي أثيرت في منتصف القرن الثالث عشر، والتي مثلت لاحقًا الشروط النظريّة والماديّة لإمكانيّة الأبستمولوجيا كنسق نظري معرفي هيمن على الفلسفة الحديثة. أحدث هذا التقليد الذي يفصل ما هو ذهني عما هو جسدي فراغًا انطولوجيًا تم ملؤه في نهاية المطاف، وعبر مسار طويل، بواسطة مفردات من إنشاء السلطة الحديثة.

أحدث التقليد الذي يفصل ما هو ذهني عما هو جسدي فراغًا انطولوجيًا تم ملؤه في نهاية المطاف بواسطة مفردات من إنشاء السلطة الحديثة.

هنا تتبدى مفارقة الكاتب: ففي الوقت الذي بدأت المراجع الأكاديمية الشروع في نقد جذري لمذهب الذهن – الجسد، وباجتراح بدائل أخرى تتجاوز منطق الفصل إلى منطق الكلي، كان صاحب «كيف تفكر الأنثى» وفي القرن الواحد والعشرين، وفي زمن الخراب العربي المعمم، يستند إلى فكر الذهن- الجسد منتهية الصلاحية. وبدلًا من الإجابة على الأسئلة المترتبة على تجاوز ثنائية ذهن- جسد، والتي تشكل تطورًا معرفيًا له استباعته على الفكر والثقافة والأدب والسياسية، نجده يعيد إنتاج مآزق اجتماعية أنتجها مذهب الفصل الثنائي، فبات من الضروري تجاوزها. أصبح الرهان اليوم يتمثل في سؤال ماذا بعد؟ كيف تكون المعرفة؟ وما هي حقيقة العلاقة بين ما هو ذهني وما هو اجتماعي؟ إذ تبين للنقاد أن المذهب الثنائي قد وصل لنهايته بعدما تَراءَى لهم بأن الدماغ لا يعمل إلا ككل.

يعنى التقليد الثنائي الذي يفصل الذهن عن الجسد بوصف محتويات الذهن الإنساني (الفهم، الإدراك، النقد، التخيل، الشعور، الإحساس.. إلخ وصار لكل مفردة منها بابًا نظريًا يختص بها) وأصبح مفهوم العقل يفيد بأنه فضاء داخلي يعبر بواسطة الأفكار الواضحة أمام عين باطنية شفافة. وهكذا يصير للعقل حياة داخلية خاصة تحدث فيه عمليات الفكر فتنتج التصورات، كما تضع حدودًا ثابتةً بين المادي والعقلي، ويحدد المعرفة المقبولة والمعرفة غير الشرعية فيستبقي هذه حبيسة لا مرئية فلا يسمح لها بالخروج والتعبير عن نفسها في الفضاء العام المرئي.

هدفت هذه النظرية إلى اعتبار بأن الذهن منطقة بحث مستقلة يهيمن عما هو خارجه، وتقديم وصفة آلية للعمليات العقلية تؤمن أساسًا مزاعم المعرفة المؤسسة التي تشرعن لأنظمة أخرى، وبالتالي استخدامها في مركز الحكم على مناطق أخرى من الثقافة، كمعرفة مؤسسة تحتكر الحق لإثبات أو إبطال مزاعم معرفية تنتجها الأخلاق أو الفن أو الدين. وكمحاولة لإيجاد شروط لا تاريخية لأي تطور تاريخي ممكن بفضلها يتمكن العقل بأن ينشئ نظرية تمثيلية عامة يقينية.

من ناحية مجتمعة، حيث كان لمذهب الذهن- الجسد الثنائي انعكاساته الحقوقية والسياسية والاقتصادية، إذ أحدث فراغًا انطولوجيًا بعدما أجهز في تدمير الاجتماعي كما هو عليه، وبالتالي أدخل الدولة في السيطرة عليه لتملي الفراغ الناشئ ولردم الفجوة بين العقلي والجسدي، وبين الكلي والجزئي، وذلك عبر الكليات المفترضة التي أنجزت بواسطتها مدونات حقوق الإنسان والملكية الخاصة والدولة الحديثة.

ينطلق الكاتب من هذا الفصل الثنائي، فيرى الأنثى انعكاسًا للدماغ، أي حدوس عصبية محكومة للقسم الدماغي الأيمن المسؤول عن الأنثوي. لذا نجدها، كما يقول، تختلف عن الرجل في كل شيء، في رقصها وجسدها وحركاتها وشكلها وكلامها وأكلها وفي الجنس. لكن لماذا اختصر المرأة على هذه الأفعال دون سواها؟! فهل المرأة جسد عصبي فقط؟! السؤال الأهم هل النصف الأنثوي من الدماغ هو ما يسوغ أفعال المرأة وبالتالي يمثل كابحًا ثابتًا مفروضًا على ما يمكن أن يحسب أفعال وأقوال أنثوية؟ أليس بهذا يجعل الأنثى انعكاسًا لألياف عصبية؟ بمعنى هل أن التسويغ الأنثوي ظاهرة دماغية عصبية بمعزل عما هو اجتماعي، وهل الأنثوي ظاهرة معقودة بين الذات الأنثوية والواقع دون توسط؟

إذا ما تجازنا عملية الفصل بين الذهني والجسدي الذي يتكئ عليها المؤلف، والذي يقوم في نهاية المطاف على أسبقية الذهني على الواقع، أخذنا الذهن من إطاره العصبي الفيزيولوجي إلى إطاره الفعلي الاجتماعي، فهل بمقدور نظرية «كيف تفكر المرأة» الذهنية الفيزيولوجية بأن تفسر لنا مثلًا الطقس الهندوسي «ساتي» كما سأبين لاحقًا، وهل تحوز على صلاحية تفسر فعل الهِبة كأفعال بلا عوض عند كل من المرأة والرجل؟ وهي تفسر الطاعة والالتزام؟

تختصر هذه النظرية الإنسان في بعد سلوكي يفترض عدم وجود لشيء سوى الجسد البشري، وأن النوايا والمعتقدات والصور والحالات القصدية هو حديث عن حالات عصبية، وبالتالي أفعال الأنوثة والذكورة كلاهما وجود فيزيائي. فالمرأة/الأنثى تعمل بواسطة أداه ذهنية حدسية.

لذلك، وكما يقول، تنتقل من المقدمات إلى النتائج بدون خبرة، بل حتى بدون مقدمات. فمعارفها التي تشكلها عن نفسها وأفعالها التي تجترحها تقومان على الحدس. وعليه، فهل الحدس الذي يكمن في النصف الأيمن للمخ، وبالتالي الأنثوي، مقولة لا سلطوية مسؤولة عن الوئام والانسجام والإيمان والحب؟

سأتناول ههنا الحدس لا كمقولة إدراكية ذهنية بل في بعدها الاجتماعي والسياسي. فالحدس معرفة بدون خبرة، يقوم على المعطى المباشر، ويعمل بشكل آلي. خطورة الحدس بالمعنى الاجتماعي تتأتى من كونه معرفة بدون سابق وبلا ذاكرة. وعليه، إن الحدس ليس مقصورًا على المرأة فحسب، بل لا غرو أن مفردات حديثة مثل القانون والدولة والديمقراطية والملكية الخاصة، هي حدوس ذهنية انطلقت من أسبقية الذهني على الواقعي. ولهذا مثَّل الحدس بالمعنى الفكري والسياسي والاجتماعي أداة مهمة في انتقال الغرب من القديم إلى الجديد.

لذا قد جانب المؤلف الصواب عندما اختصر الدبلوماسية على الفعل الأنثوي وعدّ الحروب أفعالًا ذكورية في عملية فصل متعسفة. حيث يعتبر الدبلوماسية مدركًا حدسيًا لذا فهي فعل أنثوي ناعم، بينما الحرب كفعل ذكوري مدرك لا حدسي مسؤول عنه القسم الأيسر من الدماغ، أي لا أنثوي، جاعلًا أفعال الذكورة تظهر بمظهر العنف أو أثر للقوة المسلطة على شيء ما موضوعًا كان أو كائنًا. بينا نجد أفعال الأنثى تقوم على الحدوس الناعمة.

ما يغفله الكاتب هو إن الدولة الحديثة حدس أيضًا، أي كالأنثى بحسب نظريته بالطبع، وإن كان يجهل ذلك، يعني أفعالها أنثوية حسب نظرية المؤلف. ومع ذلك فالدولة تخوض الحروب وتحتكر أدوات العنف المادي وتتصرف بعنف أو تمارس نفسها كإيديولوجية، تارة تقمع، وأخرى تموه أو تخدع وتوهم، يعنى تكثف كلا الفعلين، أي أفعال القوة الرمزية الناعمة وأفعال القوة الخشنة، بالتالي فمنطق اشتغال الدولة لا يفصل قسم الدماغ الأيسر عن شقه الأيمن بل تعمل الدولة بكليهما معًا. وماذا عن القانون، الذي هو حدس، كغطاء على علاقات القوة بين الغالبين والمغلوبين؟! وماذا عن الملكية الخاصة، وهي حدس كذلك، أصل التوحش وبالتالي العنف؟! فهل كل هذه الحدوس الحديثة التي نراها توتر نظرية «كيف تفكر الأنثى» هي جنس ثالث مثلًا؟ لأنها كلها مفردات تأسست على الحدس، أي بدون سابق، أو خبرة تاريخية، بل على الآن وهنا وبنشاط دماغي ككل لا يقوم على الفصل بين شقي الدماغ.

بمعنى آخر، ووفقًا لنظرية الكاتب، فهذه المفردات كلها استخدمت النصف الأيمن من المخ المسؤول عن الحدس، أي الأنثوي، الذي يرى فيه المؤلف القسم الذي يريد تنميته لمكافحة الحرب والعنف والتطرف وبالتالي تحقيق الانسجام والوئام والحب. وبالتالي، وكنتيجة لكل ذلك، لن نبقى إلا أمام حقيقة واحدة: السلطة كمصدر أحادي للفعالية إذ يغدو الجميع عارٍ أمامها.


الأنثوي أنثروبولوجيًا

جانب المؤلف الصواب عندما اختصر الدبلوماسية على الفعل الأنثوي وعدّ الحروب أفعالًا ذكورية في عملية فصل متعسفة.

نأتي إلى ما هو أعظم، هذا الذي يجعل من نظرية صاحبنا هبَاءً مَّنثُورًا وغبارًا دون أثر. يتجلى ذلك عندما نأخذ نظرية الجسد – الذهن الثنائية التي يركن إليها صاحب «كيف تفكر الأنثى»، والتي تختصر المرأة إلى حدس ذهني ونتاج ألياف عصبية، إلى ما هو اجتماعي أو أنثروبولوجي إذ ينكشف تهافتها.

فإذا كانت المرأة بسبب إدراكها الحدسي، تختلف عن الرجل في كل شيء كما يقول المؤلف، كيف نفسر إذًا فعل طاعة الأنثى وطاعة الذكر للأب، وهي طاعة يشترك فيها الاثنان حيث لا فواصل ولا فروقات؟! وهذا لا يفسَّر بالحدس وإنما بالتربية (وهي تقاوم وتمنع الحدس سمة المرأة الأساسية عند المؤلف الذي يؤسس عليه مشروعة السلطوي المتلبس بالأنثوي) التي تنمي عند كليهما أفعال الطاعة مقابل سلطة تراعي الاستعدادات والميول عند الذكر والأنثى.

إن الذهن لا يعمل بشكل منفصل بمعزل عن الاجتماعي كما هو عليه، ولا يمكن فصل الدماغ عما هو اجتماعي وتطبعي.

من جهة أخرى، إذا كانت المرأة بالحدس كما يقول المؤلف، أي سلوك بدون خبرة، كيف نفسر الطقس الهندوسي «ساتي»، على سبيل المثال لا الحصر، حيث تقوم فيه المتوفى زوجها بحرق نفسها مع جثة زوجها المتوفي؟! وهو فعل تكراري يقوم على الخبرة والذاكرة وبالتالي ضد الحدس وضد المخ بالمعنى الذي يسقطه المؤلف. كيف نفسر حجاب المرأة المسلمة مثلًا؟ إذ هنا ليست ثمة ذات مرتدة على نفسها كما يفترص الحدس وكانعكاس للمخ بل جسد يتشكل بالذكر لا بالمخ وبالألياف العصبية.

هنا بالضبط الإجابة على السؤال السابق:

لماذا اختصر المؤلف المرأة على أفعال الجسد التي تقوم على الحدس، دون أفعال التطبع التي تقوم على التكرار والخبرة وتقاوم الحدس بمعناه الاجتماعي، وليست علاقة دماغ بمعطى حسي بل كتبرير لممارسات اجتماعية لغوية، اخلاقية، سياسية. لذلك فالأنثوي اجتماعي له أصل تاريخي ومحكومة بتوسطات اجتماعية وليس حدسًا متعاليًا. وعليه، فليست المعرفة بالأنثوي امتلاكًا لماهية بالذهن معزولة عن الممارسات الفعلية والدوافع المتشكلة بالاجتماعي كما هو كائن الذي يلتئم به الذهني والجسدي.

لنصل إلى النتيجة التالية: أن الذهن لا يعمل بشكل منفصل بمعزل عن الاجتماعي كما هو عليه، ولا يمكن فصل الدماغ عما هو اجتماعي وتطبعي، فالدوافع الاجتماعية ليست بعصبية بقدر ما هي نتاج استعدادات وتطبع تأتي بالخبرة وبالذاكرة وبالتربية.

أخيرًا، أمام خراب العمران في المنطقة إذ يتعرى بؤس الثقافة وهي تُعاينُ البؤس، وبؤس المثقف، اليوم، وهو لا يصنعُ شيئاً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.