«بيت النوبة»: شاهد على مجد العباسيين حتى النهاية
في عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله، أسس مقرًا جديدًا للخلافة في الجانب الشرق من بغداد اشتمل على عددٍ من القصور والدور الحكومية. في مرحلة لاحقة، سيُضيف الخليفة القائم بأمر الله إلى تلك الدور ما سيُعرف لاحقًا بـ«بيت النَّوبة»، ذلك المكان الذي سيُعتبر الممثل العمراني للخلافة العباسية والمعبِّر الرسمي عنها لقرنٍ من الزمان.
النّوبة لغةً هي الجماعة من الناس، وهي تسمية تعكس الغرض الرئيسي من إقامة هذه الدار الحكومية، التي كانت مخصصة لعقد الاجتماعات الحكومية الرسمية، ومنذ لحظة إنشائها شهد «بيت النَّوبة» العديد من الاجتماعات السياسية والدينية والثقافية الفاصلة في حياة الدولة العباسية.
على شطِّ دجلة
كشفت لنا عبارة عابرة أوردها عَرَضًا المؤرخ ابن الجوزي عن الموقع الجغرافي لبيت النوبة، بعدما تحدّث في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» عن أحد الأشخاص بأنه «ركب من شاطئ دجلة عند بيت النَّوبة»، وهي الإشارة المكانية التي عاد وكرّرها خلال حديثه عن فيضان دجلة عام 466هـ، وكيف أغرق بيت النوبة ومنه فاض الماء على دار الخلافة.
وفي الأغلب، فإن «بيت النوبة» كان قريبًا من «دار السلام»، وهي إحدى دور الخلافة المهمة التي يقع فيها مجلس الخليفة، فعند زيارة السُلطان طغرلبك لبغداد عام 449هـ، أُمر بنقل الإعلام من سطح «دار السلام» إلى روشن (شرفة) بيت النوبة حتى لا تخرج من الأبواب فتُنتكس.
تكريم الأمراء وكبار القوم
بدءًا من عام 334هـ عاش الخلفاء العباسيون مرحلة ضعف ضارية سيطر فيها البويهيون ومن خلفهم السلاجقة على مقاليد الحُكم في بغداد، وتحوّل الخليفة إلى مجرد موظفٍ يتقاضى راتبًا مقابل صلاحيات شرفية محدودة، وهو الأمر الذي كان «بيت النوبة» شاهدًا عليه بحُكم استضافته كل الاجتماعات التي ترأّسها الخلفاء خلال تلك المرحلة الحاسمة في تاريخ مُلك بني العباس.
اقتصر حضور تلك الاجتماعات على كبار رجال الدولة من الوزراء والقضاء والفقهاء والأشراف والأعيان، حيث كان أحد موظفي بلاط الخليفة يُسجّل حضورهم في دفترٍ مخصصٍ لذلك، كما كان للوزير مكان ثابت في الصدارة، لأنه كان يتراّس تلك الاجتماعات -حال عد حضور الخليفة- وحوله يجلس الحضور موزعين على شكل دائرة، وفقًا لبروتوكول دقيق يُرتّبهم وفقًا لمكانتهم الاجتماعية.
وخلال عهد القائم بأمر الله شهد ذلك البيت عشرات الاجتماعات المهمة، مثل ذلك الاجتماع الذي عقده الخليفة في رجب عام 429هـ وأوجَب فيها على أهل الذمة (المسيحيين واليهود) لِبس «الغيار»، وهي الملابس التي تُميّزهم عن المسلمين، وبحسب ما أورد ابن الجوزي فإن هذا القرار قُرئ على عددٍ كبير من رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود داخل بيت النوبة.
كذلك شهد البيت عددًا من قرارات تكريم كبار رجال الدولة عبر منح التشريفات والألقاب للملوك والأمراء والقضاة والأشراف الذين لمع نجمهم في الدولة، مثلما جرى مع الوزير ابن المُسلمة عام 443هـ حين استُدعي إلى بيت النّوبة حيث قُرئ على الحضور أمر الخليفة بتكريم الوزير وتلقيبه بـ«جمال الورى وشرف الوزراء»، وفي عام 454هـ شهد البيت مراسم تولية ابن جهير شؤون الوزارة في حضور الخليفة، ومن بعده ابنه عميد الدولة الذي جرى تكريمه أيضًا في ذات البيت عام 462هـ.
وفي تلك الدار أيضًا كان يجري تعيين نقباء على بيوت الأشراف، ففي 446هـ جرى تعيين عمر الزينبي نقيبًا على العباسيين ومُنح لقب «الرضا ذي الفخرين»، وفي رجب 453هـ تم تعيين طراد الزينبي في ذات المنصب بعدما لُقِّب بـ«الكامل ذي الشرفين».
كما كان يجري داخل «بيت النّوبة» تكريم كبار القادة العسكريين وتعيين أمراء القبائل العربية في الكوفة والموصل والحِلة.
وخلال فتنة البساسيري التي عصفت ببغداد، لعب «بيت النوبة» دورًا هامشيًا في تبيان حجم الرفض الذي كنّه المملوك التركي أرسلان البساسيري خلال ثورته العسكرية على الخليفة، إذ كشف ابن الجوزي أن «الخليفة راسله ولاطفه، فاستقرّ أنه سيحضر إلى بيت النوبة ويخلع عليه (أي يُكرّمه)»، ووفقًا لتلك الرواية فإن البساسيري حضر بالفعل إلى بيت النوبة لكنه رفض دخوله في اللحظات الأخيرة، إعلانًا عن رفضه للانصياع للحُكم العباسي واستمرار ثورته ضد الخليفة.
حفلات زفاف وانتصارات عسكرية
لفرط مكانة البيت، حرص كبار رجال الدولة على عقد زيجاتهم به، وفيه تزوّج الوزير محمد بن الحسن الشيرازي من ابنة كاتب الخليفة، كما استضاف عددًا آخر من زيجات «الصدور والأكابر».
أيضًا، عقب استيلاء السلاجقة على بغداد، وسيطرتهم على مقاليد الدولة بدلاً من البويهيين، شهد البيت اجتماعات عدة بين رُسًل السلاجقة والخليفة لبحث شؤون الحُكم في ظل الأوضاع الجديدة، وليتسلّموا الألقاب والتكريمات التي منحها الخليفة لقادة السلاجقة وعلى رأسهم السلطان طغرلبك.
وفي 448هـ شهد «بيت النوبة» عقد قران الخليفة القائم على أرسلان خاتون ابنة شقيق السلطان طغرلبك في حضور عددٍ من كبار رجال الدولة ووزرائها. ذات القاعة كانت شاهدة على خلافٍ جسيم وقع بين الخليفة وطغرلبك بسبب رفض القائم تزويج ابنته من الأمير السلجوقي، في إحدى تلك الجلسات هدّد طغرلبك الخليفة بمصادرة أملاكه لو لم يوافق على الزيجة، فأذعن القائم في نهاية الأمر، وتمّت مراسم الزواج في صفر عام 455هـ.
وفي عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان، تحسّنت العلاقة بين الطرفين قليلاً، إذ أمر بإعادة ابنة الخليفة (التي تزوجها طغرلبك قسرًا) إليه وأزاح عددًا من الموظفين الفاسدين الذين أمّرهم السلاجقة على بغداد، كما أرسل عدة رُسُل اجتمعوا مع الخليفة في بيت النوبة للتباحث في كيفية تحسين العلاقات بينهما.
وفي عام 456هـ حقّق السلاجقة انتصارات ساحقة على البيزنطيين، فعُقدت اجتماعات الفرحة في «بيت النوبة» للإعلان رسميًا عن هذه الانتصارات والاحتفال بها.
ومن فرط الأهمية الرمزية التي باتت يمثّلها «بيت النوبة» وصفها الخليفة في رسالةٍ بعثها إلى وزيره ابن جهير بـ«الدار العزيزة».
وفي عام 462هـ أعلن أمير حلب محمود بن نصر تخلّيه عن طاعة الفاطميين وعودته إلى الحظيرة العباسية، وهو ما اعتبرته بغداد نصرًا مدويًّا على عدوها التاريخي الكامن في القاهرة، فأقام الخليفة احتفالاتٍ غنّاء في «بيت النوبة» ابتهاجًا بهذا الحدث الجسيم، وفي هذا الحفل تُليت رسالة الأمير بن نصر على أسماع كبار القوم، وكانت إيذانًا ببدء احتفالاتٍ كبيرة في كافة أنحاء بغداد.
وفي ذات القاعة استضاف الخليفة جلسات مطوّلة من العلماء والفقهاء التي اعتنت بدحض نسب الفاطميين ولعنهم باعتبارهم أعداء أصليين للخلافة العباسية وأنهم خلفاء «غير شرعيين» لا ينتسبون إلى السيدة فاطمة بنت النبي بأي شكلٍ كان.
دار للعزاء فسقوط
بطبيعة الحال عاش بيت النوبة عصره الذهبي تحت حُكم الخليفة القائم بأمر الله، الذي أمر بإنشائه، فخلال عهده تكرّرت الإشارة إليه في كُتب التاريخ حتى عام 466هـ/1074م، الذي شهد وفاة الخليفة.
برحيل القائم بأمر الله خفت دور «بيت النوبة» تدريجيًا، وخلال عهد الخليفة المقتدي بأمر الله اقتصر استعمال ذلك البيت على عقد اجتماعات محدودة لاستضافة مراسم تعيين كبار رجال الدولة، وحتى هذه المراسم خاصمت البيت بعدما تقرّر إقامتها في مقرٍّ جديد هو «بيت الحُجرة»، إحدى المنشآت الملحقة بدار الخلافة وصفها ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» بأنها «دار عظيمة الشأن، عجيبة البنيان».
ومنذ وفاة الخليفة القائم لم تستضف «بيت النوبة» اجتماعًا مهمًا إلا ذلك الذي عُقد في عام 491هـ لبحث كيفية مواجهة الحملة الصليبية على أنطاكية، وحضره السلطان السلجوقي بركيارق والوزير بن جهير وكبار أمراء العراق، واتفقوا على الاستعداد للقتال ومواجهة الصليبيين، لكن هذه الجهود باءت بالفشل ونجح الأوروبيون في احتلال المدينة.
بعدها، استمر دور بيت النوبة في التقلُّص وكاد يقتصر على استضافة مراسم عزاء أفراد الأسرة العباسية، ففيه أقيم عزاء والدة الخليفة القائم، وعزاء ابنته زوجة طغرلبك، كما أقيم العزاء لثلاثة من أبناء الخليفة المستظهر بالله. أيضًا استقبل البيت مراسم عزاء خلفاء عباسيين مثل الراشد بالله والمستنصر وآخرين، وكذلك السلاطين السلاجقة مثل السلطان مسعود.
وآخر إشارة ورد فيها ذِكره كانت عام 640هـ خلال إعلان نبأ وفاة الخليفة المستنصر بالله وتولي المستعصم بالله الخلافة.
عقب وفاة المستعصم، لم يتمكّن «بيت النوبة» من استضافة مراسم دفن الخليفة العباسي الأخير، الذي مات على أيدي المغول عقب اجتياحهم الدموي لبغداد، وهي اللحظة التي شكّلت نهاية ذِكر بيت التشريفات العباسي في كتب التاريخ إلى الأبد، وكأنه حُكم عليه أن يكون شاهدًا على مُلك العباسيين حتى آخر لحظة.