ساعات ما قبل الرحيل: كاميرا بداخل عقل ميسي
هل تساءلت يومًا ماذا يدور داخل عقل لاعبك المفضل؟ يبدو الأمر محيرًا رفقة ميسي تحديدًا حيث تبدو تعبيرات الوجه مبهمة والكلام قليلاً للغاية.
حسنًا، نحن هنا سنحاول الدخول داخل عقل ميسي لكننا لا نملك أن نفسر أو نحلل ما يحدث أبدًا. مجرد كاميرا ملقاة في عقل أعظم لاعبي العالم، كاميرا تتنقل لترصد مشاهد لا نختارها ولا تتبع منطقًا أو نمطًا محددًا. مجرد كاميرا.
تلك الحيلة التي لجأ لها الروائي «غوسبودينوف» في كتابه «فيزياء الحزن» هي كل ما نمتلك، إنها حيلة أن تقص التاريخ عن طريق الولوج إلى عقول الآخرين وذكرياتهم، أن ترى أشد الأحداث تعقيدًا بعيون أصحابها.
خذ نفسًا عميقًا وحاول أن تلتزم هدوءك ما استطعت، اخلع قميص انتمائك وألقٍ به بعيدًا. نحن هنا بلا رأي ولا نملك التعقيب بل على الأحرى نحن هنا بلا وجود من الأساس.
إذا كنت تبحث عن الحقائق فهنا ليس بمكانك المنشود فنحن سنقص لك الحدث كما يراه ميسي وكما يتذكر أحداثه. فالذاكرة كما يقول باومن لا تحتفظ بكامل الأحداث أبدًا بل إن ما تستعيده الذاكرة من قلب دهاليز النسيان لا تنتجه أبدًا في شكله الأصيل.
وحيدًا فوق سريره الخاص قبيل موعد نومه الذي لم يبدله لسنوات، يفتح ميسي عينيه قليلًا. ما زال ناعسًا لا يدري أين هو تحديدًا، في مكان ما في أرض العدم بين اليقظة والنوم.
يغيب عنه النعاس تدريجيًا ثم ينسحب انسحابًا كاملًا غير مدرك أننا داخل عقله نرى ذكرياته التي بدأ في استعادتها فجأة فارتسمت على وجهه علامات الحزن.
فليلتزم الجميع الصمت، لقد نجح الأمر أخيرًا، ها هي كاميرتنا الخاصة تلمح وجه رجل يعرفه تاريخ برشلونة جيدًا. إنه وجه «كارلوس ريكساش» حيث بدأ كل شيء.
فوق منديل أبيض كتبت البداية .. والنهاية
يظهر ميسي طفلًا في الثالثة عشر يقف بجوار أبيه السيد خورخي الذي يبدو على وجهه علامات الغضب بينما يقف أمامه السيد ريكساش غير مهتم بالحديث الدائر حوله، هو فقط ينظر إلى ميسي ولا يتوقف عن الابتسام.
يطلقون عليه «صبي بيدرالبيس»، الرجل الذي انضم إلى برشلونة في الثانية عشرة ولم يغادر أبدًا. قضى ريكساش نصف قرن كاملًا في خدمة برشلونة لكنه يقول إن الرابع عشر من ديسمبر عام 200 هو أهم أيام حياته على الإطلاق.
انتهى ميسي لتوه من حصة تدريبية تجريبية أمام أعين السيد ريكساش ومديري نادي برشلونة الآخرين. تشكك مديرا النادي في ميسي بسبب طوله، غضب السيد خورخي وهدد بأنه سيغادر حالًا لعرض ابنه على بعض الأندية الأخرى، وضح «هوراسيو جاجيولي» وكيل اللاعبين الذي أحضر العائلة لإسبانيا أن ريال مدريد يعد أبرز المهتمين.
أشار ريكساش للجميع بالصمت ثم التقط من داخل جيب قميصه منديلاً ورقيًا كان قد حصل عليه من نادل عقب الطعام وخط عليه صيغة عقد يربط ميسي ببرشلونة على مسئوليته الشخصية.
بقي هذا المنديل رفقة جاجيولي وقد عقد متحف برشلونة اتفاقًا سريًا مع جاجيولي يقتضي بحصول المتحف على هذا المنديل في حالة اعتزال ميسي أو مغادرة النادي.
في حالة اعتزالي أو مغادرة النادي. مغادرة النادي! هكذا نطق ميسي وهكذا سمعنا دون شك ولكننا لا نملك سوى أن نحزن في صمت.
بيب الكمال وبارتوميو النفوذ
سماع شخص يقرأ بصوت مرتفع شيء مختلف عن القراءة بصمت. عندما تقرأ أنت فبإمكانك أن تتوقف أو أن تحلق ببصرك سريعًا على بعض الجمل، لكن عندما يقرأ شخص آخر فمن الصعوبة أن يتطابق انتباهك مع نسق قراءته. فما بالك إذن برجل يستدعي ذكرياته؟
ها قد قفز ميسي كثيرًا في الزمن وها هي الكاميرا تتسع لتستوعب رجلين على النقيض، بيب جوارديولا من جهة وبارتوميو من الأخرى.
كان الأمر أشبه بأن يسوق لك القدر كل ما هو مثالي لكي تكون الأفضل. كان بيب هو الرجل الذي يمتلك خيوط اللعبة. وقف بيب في وجه ميسي وأخبره أنه سيغير نظامه الغذائي لأنه لن يمكن أن يكون أفضل لاعب في العالم إلا إذا فعل كل شيء بشكله الصحيح. ومن يومها كان ميسي يفعل كل شيء بشكله الصحيح.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يقابل فيها ميسي بيب ثم البقية كان التاريخ، لا زال يبدو بيب كرجل أخذ بيد ميسي نحو الكمال ثم رحل فقرر البقية أن هذا الكمال لابد وأن يكون من الماضي.
يصرخ بيب أن لبرشلونة هوية وتلك الهوية هي ميسي، المنتج الأفضل من بين منتجات الأندية كلها. رجل تشكل في كتالونيا وكبر بين جدران النادي حتى أصبح رمز برشلونة الأهم.
لقد جعل هذا الرجل من الروعة روتينًا للجماهير. لولا ميسي لكنت مدربًا للدرجة ب. هذا الرجل هو الذي أعطى الفرصة للابورتا أن يقول نحن نصنع البالون دور وغيرنا يشتريها.
لا مفر من الجانب السياسي والاجتماعي للأمر، كانت برشلونة طريقة للتعبير عن أنفسنا نحن الكتالونيين والانفصاليين والقوميين. حتى الأشخاص الذين لا يحبون كرة القدم اجتمعوا حول النادي.
يظهر بارتوميو ليطيح بيب من عقل ميسي عنوة بابتسامة تبدو من الجحيم. دعنا نتحدث بشيء من المنطق، أنت لست إسبانيًا حتى يقحمك البعض في قضايا لا تفقه عنها شيئًا. نحن من صنعناك ولم تلعب هنا بدون مقابل.
أنت اللاعب الأكثر حصولًا على الأموال في التاريخ. جعلتك لاعبًا ذا نفوذ لم يتحصل عليه أحد، إذا لمح أحد بسوء تجاهك أقصيته من النادي. جئت لك بمارتينو من الأرجنتين، تمسكت بفالفيردي وكأنه المختار فلم أعترض.
دعك من الهوية، إنه القدر الذي جاء بك صحبة تشافي وانيستا والآخرين، أنا لا أصنع القدر فلا تحدثني عن جودة لاعبين. أنافس بيريز كما كنت تنافس رونالدو، لذا صفقات مثل جريزمان وديمبلي وكوتينهو كانت ضرورية من أجل أن يبقى برشلونة الأكبر والأهم.
انا لا أسحر الناس بالكرة مثلك فلا تطالبني أن أبدو كأخرق أمام الجميع. فلتتحمل المسئولية بعض الشيء يا رجل، ثم حتى إذا لم تكن مسئولًا عن سنوات الخراب تلك، صدقني إنهم سيسامحونك إذا كنت في وضع المسئول.
أنت لا تريد الرحيل، أنت تريد الهروب يا ليو.
يمسك ميسي هاتفه ليرد بيب على الجانب الآخر فيخبره ميسي باقتضاب: «لقد انتهى الأمر أريد أن أرحل».
لقد رحل ميسي بالفعل
يتقدم «تياجو» بخطوات بطيئة ثم يبدأ في الحديث باكيًا: هل صحيح أننا سنغادر برشلونة؟ هل سترتدي قميصًا آخر لعدد من السنوات؟ أنا لا أريد أن أرحل عن برشلونة.
يتألم ميسي كلما طفت تلك الذكرى فوق حاضر عقله. أنا أيضًا لا أريد أن أغادر برشلونة، لكن إلى متى سيراني الناس وقد حطمت أحلامهم؟ لقد هزمت برشلونة بالثمانية وأصبح الإقصاء أوروبيًا في مباريات العودة عادة لكل فرق أوروبا أمامنا.
لا أحد يتمتع بحصانة أمام جماهير الكرة. لقد عشت هنا سنوات أنثر السعادة في قلوب الجميع وأعد الجماهير بالعودة وقت الانكسار لأنني أثق في تلك العودة. أنا لا أثق الآن في شيء. لا أثق أنني لا زلت بطل تلك الجماهير. أنا لا أريد نهاية مثل تلك بل أنا لا أستحق تلك النهاية أبدًا.
حسنًا لن أغادر برشلونة من بوابات القضاء كما أصروا أن يفعلوا معي لكنني حتمًا سأغادر. سأترك خلفي كل تلك السنوات التي كنت فيها رمزًا لبرشلونة وسيبقى أثري للأبد.
سأظل ميسي برشلونة حتى وإن رحلت دون عودة، رحل الكثيرون قبلي في ظروف مشابهة لكنني أدرك أن رحيلي هو الفقرة الأهم في نهاية القصة. لقد بذلت كل شيء من قلبي من أجل برشلونة وسيبقي قلبي في برشلونة لكنني حتمًا سأغادر.
توقفت كاميرتنا هنا تمامًا، لكن كاميرا أخرى رصدت ميسي في اليوم التالي. ظهر ميسي حزينًا كالعادة خلال خسارة جديدة في الدوري الإسباني خلال هذا الموسم. لقد رحل ميسي فعليًا العام الماضي، أما ما نراه الآن هو شبح رجل حزين يعرف أن نهاية القصة لن تخرج به سعيدًا أبدًا.