تاريخ ما أهمله التاريخ في ثورة 1919
قبل أن تندلعَ الشرارة الأولى لثورة 1919، كان المصريون قد أعدوا لها العُددَ بطريقتهم الخاصة. منها عدة المقاومة والعمل المسلح بقيادة عبدالرحمن فهمي ورفاقه وتحت إشراف سعد باشا زغلول. وقد أشبع المؤرخون هذا الجانب بحثًا وكتابة. ومنها عدةٌ شرعية وسلمية تمامًا لم ينتبه إليها المؤرخون أبدًا، ولم ينقلوا عنها خبرًا ولا ذكرًا.
وقد أعد المصريون هذه العدة (السلمية الشرعية) لمقاومة الاحتلال والثورة عليه في صمت وصبر جميل، وبطولِ نفس. واستهدفوا منها ثلاثة أهداف: أولها، تفريغ سلطات الاحتلال من محتواها على الأرض، وتقويض مصادر قوة النفوذ الأجنبي في البلاد، وثانيها، حماية ممتلكاتهم من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية وتحصينها إذا ما جدت ساعة الجد؛ فالأرض والدور قوام حياتهم وحياة أبنائهم. وثالثها، وأسبقها وأبقاها في آن واحد، هو التقرب إلى الله بتسبيل بعض ممتلكاتهم في وجوه الخيراتِ والمنافع العامة والخاصة.
وقد وجد المصريون في الوقف الإسلامي خيرَ أداةٍ تحققُ لهم تلك الأهداف مجتمعةً. فتسابقوا في وقف نسبة كبيرة من ممتلكاتهم، ومما اشتروه آنذاك من أملاك الدائرة السنية التي باعتها الحكومة المصرية للوفاء بأقساط الديون الأجنبية، وبخاصة ما باعته في الفترة من سنة 1900 إلى سنة 1906. وظهر المصريون في تلك الفترة وكأنهم في سباق محموم لوقف أملاكهم والمصدر الرئيسي لرزقهم. وقد تمكَّنوا آنذاك من تجديد الأساس المادي لنظام الوقف الموروث برمته منذ الفتح الإسلامي لمصر في عام 21 هجرية، وتمكنوا أيضًا من تجديد مؤسسات الوقف الخدمية والتعليمية والصحية والعبادية والاجتماعية، وحتى الترفيهية فيما لا يتجاوز ثلاثة عقود من منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين.
فبحسب الإحصاءات الرسمية التي اطلعتُ عليها في هذا الموضوع تبين لي: أن إجماليَّ الأراضي الزراعية الموقوفة بلغ 300 ألف فدان في سنة 1900م، وزاد إلى 350 ألف فدان في سنة 1914م، ثم إلى 400 ألف فدان في سنة 1918م، ثم بلغ 611.23 ألف فدان في سنة 1927، وحدثت الطفرة الكبرى في أربع سنوات من 1918 إلى 1921 وهي سنوات غليان ثورة 1919 بالتمام والكمال، ثم بلغ الإجمالي إلى 640.398 ألف فدان في سنة 1935، ثم بلغ إلى 700 ألف فدان في سنة 1944م، ثم هبط بعد ذلك إلى حد التلاشي في نهاية ستينيات القرن الماضي في نهاية عهد عبدالناصر.
أما الذين شاركوا في تلك الطفرة الوقفية فكانوا ينتمون إلى مختلفِ الطبقات الاجتماعية، وفي مقدمتهم الحكام من أسرة محمد علي باشا، وكان أبرزُهم السلطان حسين كامل، ومن قبله الخديو عباس حلمي الثاني الذي وقف أرضًا بالإسكندرية وأقام عليها مسجدًا في سنة 1912، وأوعز لديوان عموم الأوقاف بالمساهمة في شراء ما طرحته الحكومة للبيع بالمزاد من أراضي الدائرة السنية لسداد الديون، ووقفها، فاشترى الديوان ما مساحته 8933 فدانًا ووقفها بنواحي: شباس والصافية (3417 فدانًا)، وأطيان قلين والبكاتوش (4000 فدان) وأطيان المنشاة الكبرى (664 فدانًا)، وأطيان الشناوية (854 فدانًا)، ووقفها الديوان جميعها في الفترة من 1892 إلى 1898م.
كما أوعزَ الخديو عباس حلمي أيضًا لديوان الأوقاف الخصوصية الملكيةِ بأن يشتري أملاكه الخاصة بتفتيشي القبة ومسطرد ويحولها لأوقاف، بعد أن طاردته سلطات الاحتلال وأقامت عليه دعوى قضائية اتهمته فيها بتمويل أعمال المقاومة قبل ثورة 1919 وأثنائها، ففعل الديوان ذلك، ووقف أملاك الخديو عباس التفتيشين المذكورين سنة 1921م بما في ذلك قصر القبة وما حوته السراي والجنينة من الأشجار وأسوار مقامة حول تلك السراي بالقاهرة.
وأسهم أعضاء الأسرة المالكة بكثيرٍ من الأوقاف في تلك الفترة التي مهدت لثورة 1919م أيضًا، وكذلك أسهم الوزراء، وكبار الملاك، ومتوسطوهم وصغارهم رجالًا ونساءً، وغطت وقفياتهم جميع المديريات بوجه بحري ووجه قبلي وفي الإسكندرية والقاهرة ومدن القناة، وحتى الواحات الداخلة ومنطقة حلايب وشلاتين. وأسهم في الوقف الجميع من المسلمين والأقباط.
وكان من أبرز وقفيات الأقباط دلالةً في ذلك الوقت على الإسهام الثوري للوقف في غمار ثورة 1919م وفي أعقابها، وقف الأستاذ عطية شنودة، من كبار ملاك الصعيد، بعض أملاكه في أسوان وأبو تيج، وقد خصص قطعةَ أرض وأقام عليها مسجدًا لإقامة شعائر المسلمين، واشترط أن يسمى على الدوام مسجد الأستاذ عطية شنودة، وخصص قطعة أرض أخرى وأقام عليها كنيسة لإقامة شعائر المسيحيين، واشترطَ في حجة الوقف أن تُسمى على الدوام كنيسة الأستاذ عطية شنودة للعذراء مريم. كما أنشأ ووقف مدرسة ومستوصفًا، ووقف عليهما بعض أملاكه بناحية الرديسية بحري بحوض القوزة الغربي.
ودليل آخر، وربما أكثر وضوحًا على انخراط نظام الوقف في التهيئة لثورة 1919 ومساندة المطالب الوطنية التي تمخضت عنها، نجدُه عند كبار زعماء ثورة 1919 بأشخاصهم، حيث كانوا ضمن الذين وقفوا أملاكهم قبل أو بعد الثورة بسنوات، وكان أولُهم علي باشا شعراوي الذي بادر في سنة 1913م بوقف قسم من أملاكه، ثم وقف في سنة 1918م أملاكه كلها من الأراضي الزراعية ومساحتها 7126 فدانًا بمديريتي المنيا وأسيوط بصعيد مصر. واشترطَ أن يُصرف ريع 1562 فدانًا منها سنويًا في عدد من وجوه البر والخيرات والمنافع العامة مثل بناء المساجد والمعاهد الدينية، ورعاية الأيتام، ومساعدة الفقراء.
وكان الثاني، هو سعد باشا زغلول، الذي قام بوقف منزله المشهور باسم بيت الأمة في القاهرة، كما وقف في سنة 1926م جميعَ الأراضي الزراعية التي كان يملكها ومساحتها 40 فدانًا وكسور من الفدان واقعة بمديرية الغربية بوسط الدلتا. واشترط أيضًا أن يصرف من الريع مساعدات للأيتام والفقراء، وأن يؤول الريعُ كله من بعدهم إلى مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية لتصرفه في شئون التعليم بمعرفتها.
أما الثالثُ فهو عبدالعزيز باشا فهمي، الذي وقفَ في سنة 1936 مساحة قدرها 36 فدانًا بمديرية المنوفية بدلتا مصر، واشترط أن يصرف من ريعها السنوي على بعض المساجد والعجزة والأرامل والأيتام من أبناء قريته والقرى المجاورة لها.
ووقفت هدى هانم شعراوي زعيمة النساء في ثورة 1919 جميع ممتلكاتها من الأراضي الزراعية في سنة 1932م، وقد بلغت مساحتُها 658 فدانًا و14 قيراطًا من فدان بموجب حجة وقف صادرة من محكمة عابدين الشرعية بتاريخ 25 شعبان 1351هـ 24 ديسمبر/ كانون الأول 1932م. وجعلت هدى شعراوي من ريع هذا الوقف ما يُصرف على الجمعية الخيرية الإسلامية ومدارسها، وأقامت الشيخ محمد مصطفى المراغي بصفته رئيسًا للجمعية ناظرًا على وقفها في سنة 1940م.
هذا الجانب الخاص بالتهيئة لثورة الشعب ضد المحتل الأجنبي في 1919 هو أحد الجوانب التي أهملها مؤرخو ثورة 1919 إهمالًا تامًا، رغم أهميته القصوى في تفسير اتساع نطاق الثورة وعمق تأثيرها في مسيرة الشعب المصري منذ اندلاعها وحتى اليوم. وقد يسأل سائل: وما علاقة قيام المصريين بوقف بعض ممتلكاتهم بثورة شعبية تطالب بالاستقلال والدستور، ما الذي يربط الوقف وهو عمل خيري يُبتغى به وجه الله، وعمل ثوري ينشد الحرية بالدستور، والاستقلال وطرد الاستعمار؟
مثل هذا السؤال مشروع، ولكنه لن يكون له موضع، ولن يبقى بلا جواب، بعد ما كشفتُه في هذا المقال من بيانات موثقة، وهو بعض مما تحفل به خزائن الوثائق والحجج الوقفية في مصر، بما تحتويه من حقائق ثابتة، وهي في جملتها توضح بجلاء: تزامنَ قوة موجة وقف الأراضي الزراعية والعقارات المبنية، ووصولها إلى ذروتها، مع نمو الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال البريطاني لمصر منذ وقوعه في 1882م، ووصولها إلى ذروتها في ثورة الشعب 1919م.
كما أن مثلَ هذا السؤال سيسقطُ من يد حامله عندما يطالع تأويل تلك الموجة الوقفية العارمة في غمار ممهدات الثورة الشعبية الواسعة، وفي ضوء ما تلاها من أحداث. ولكن قبل تقديم هذا التأويل، أجد أن القلة القليلة من المؤرخين الذين انتبهوا لقوة موجة الوقف التي أشرتُ إليها، من حقها أن أشير إلى أهم التأويلات التي ساقتها لتفسير قوة حركة الوقف في تلك الحقبة. ومن هؤلاء القلة محمد فهمي لهيطة في كتابه «تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة»، طبعة 1944، وراشد البراوي ومحمد حمزة عليش في كتابيهما «التطور الاقتصادي في مصر في العصر الحديث»، طبعة 1954، وعلي بركات في كتابه «تطور الملكية الزراعية في مصر 1813- 1914 وأثره على الحركة السياسية»، طبعة 1978، ومن المؤرخين الأجانب: آلان ريتشاردز في كتابه «التطور الزراعي في مصر 1800 – 1980»، طبعة القاهرة 1991، وجابريل باير، في كتابه «تاريخ الملكية الزراعية في مصر الحديثة 1800- ـ1950م»، طبعة 1962م.
هؤلاء في جملتهم ردوا تصاعد موجة الوقف التي تحدثنا عنها إما إلى أسباب قانونية تتعلق بتطور نظام الملكية الزراعية والعقارية بعامة في مصر خلال القرن التاسع عشر، وبخاصة الأمر العالي بتطبيق أحكام المواريث على الأراضي الخراجية الصادر سنة 1858م، وهو الأمر الذي مهد لكي تصبح الأراضي الخراجية قابلة للوقف ابتداءً من سنة 1891؛ مثلها مثل الأراضي العشورية. وإما أولوها بأسباب اجتماعية واقتصادية تتركزُ في كثرة النزاعات العائلية حول الميراث، ورغبة كبار الموظفين في تحصين ملكياتهم بالوقف ضد المصادرات إذا فقدوا مناصبهم، وحماية الملكية من خطر التجزئة والتفتيت بفعل أحكام المواريث؛ لكل هذا رأى أصحاب تلك التأويلات أن موجة وقف الأراضي والعقارات في مصر قد اشتدت في تلك الفترة.
وقد تفسر تلك التأويلات بعض جوانب الموجة الوقفية العالية آنذاك، ولكنها تظل قاصرة عن تقديم تأويل شامل لها، وتحول دون الفهم العميق بعمق الدوافع التي حركت المصريين لاجتراح كل مبادراتهم الوقفية آنذاك، وهي مبادرات خيرية تمكنوا بها ــ كما سلف القول، من تجديد البنية المادية لنظام الوقف، وتجديد بنيته المؤسسية أيضًا، وهي بنية واسعة الانتشار على كامل رقعة النسيج الاجتماعي.
أما التأويل الشامل الذي دلتني عليه البياناتُ التاريخة الموثقة للأوقاف المصرية منذ منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين عندما وضعتُها في سياقها السياسي العام، وفي سياق سياسة التغلب الحضاري الغربي على مجتمعاتنا الإسلامية، ومنها مصر؛ فمرداه هو: أن الممتلكاتِ الموقوفة من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية كانت دومًا عقبةً كأداء أمام سلطات الاحتلال الأجنبي الذي اجتاح بلدان العالم الإسلامي من طنجة غربًا إلى جاكرتا شرقًا على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن أسباب ذلك أن تلك السلطات كانت تحرص على عدم استثارة المشاعر الدينية للشعوب التي تستعمرها حتى لا تزيد شدة المقاومة التي نهضت لصد الاحتلال وتحرير البلاد.
وقد وجدت جماهير الأمة وخاصتها في نظام الوقف ملاذًا آمنًا لممتلكاتها من العدوان الأجنبي؛ حيث إن الطبيعة القانونية الخاصة لممتلكات الأوقاف وعدم خضوعها للقوانين العادية التي تنظم الملكية، كانت تنأى بتلك الممتلكات عن التصرفات العادية، ومن ثم عن احتمالات تسربها لأيدي الأجانب وبنوك الرهن العقاري الأجنبية التي نشطت في نزع ملكيات المدينين في تلك الفترة بقوة أحكام المحاكم المختلطة بصفة خاصة. وما كان أيسر على جماهير الأمة وخاصتها أن يكتشفوا مكمن القوة في نظام الوقف، ومن ثم نهضوا لتوظيفه في خدمة المقاومة ضد الاحتلال بطريقة شرعية وسلمية تمثلت في مقاطعة القوانين والمحاكم الأجنبية التي أنشأتها السلطة الاستعمارية؛ إذ كان إنشاء الوقف يعني في ذات اللحظة إدخال الأعيان الموقوفة في دائرة الأحكام والمحاكم الشرعية الموروثة المختصة بالنظر في مسائل الأوقاف وقضاياها، ومن ثم إخراجها من تحت طائلة القوانين والمحاكم الأجنبية الوافدة والقضاء المختلط الذي سيطر عليه القضاة الأجانب.
وعلى تلك الخلفية، وبدافعٍ قوي منها لا تخطئه العين؛ نهضَ المصريون بمختلف فئاتهم كما أوضحنا آنفًا للمشاركة في تلك الثورة الوقفية الصامتة لتحقيق الأهداف الثلاثة التي ورد ذكرها في مستهل هذا المقال، وفي مقدمتها تقويض سلطات الاحتلال وتفريغ النفوذ الأجنبي القانوني والقضائي من مضمونه، وتجلت تلك العبقرية في توظيف الوقف لخدمة قضية المقاومة والتحرر الوطني على ثلاثة مستويات هي:
المستوى الأول:
إخراج الممتلكات (من المباني والأراضي الزراعية) من نطاق المعاملات العادية، ومنع التصرف فيها بالبيع والشراء أو الرهن، وإدخالها تحت أحكام الوقف وقواعده، وإبعادها عن قواعد وأحكام القانون المدني الذي بدأ العمل به في مصر في سنة 1883م. وكانت معظمُ موادِه مستمدةً من القانون المدني الفرنسي. ومن ثم فإن إقبال المصريين على تحويل الممتلكات إلى أوقاف في تلك الظروف كان يتضمنُ معنى المقاطعة الفعلية للقانون الأجنبي الوافد فيما يخص تلك الأوقاف، ورفض التقاضي أمام المحاكم المختلطة، التي كانت تطبق ذلك القانون.
وثمة عديد من الشواهد التي تؤكد البعد الوطني في حركة الوقف آنذاك، وتوضح ارتباطه بظروف الاحتلال والتغلغل الأجنبي في البلاد، والرغبة في تحصين موارد الثروة من أن يلتهمها الأجانب والمرابون عبر بنوك الرهن العقاري. ومن ذلك أن الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى العقود الأولى من القرن العشرين كانت تشير في مجملها إلى أن مصادر الثروة الرئيسية؛ من أراض زراعية وعقارات مبنية، صارت عرضة للتسرب إلى أيدي الأجانب بطرق مختلفة.
وكان من أهم تلك الطرق: نزع الملكية وفاءً لديون الرهن العقاري، التي منحتها بنوكُ الائتمان والشركات الأجنبية والمرابون الأفراد على نطاق واسع لملاك الأراضي بصفة خاصة. وشهدت الفترة من سنة 1880م إلى سنة 1900م تأسيس عشر شركات أجنبية كبرى؛ كانت جميعها تعملُ في مجال الاستثمار العقاري، وفي تجارة الأراضي. واستطاعت تلك الشركات أن تنتزع ملكية 60.000 فدان خلال ثلاثة أعوام فقط من سنة 1888م إلى سنة 1890م، بواقع 20.000 فدان سنويًا، وذلك نتيجة للديون التي عجز ملاك تلك الأراضي عن سدادها.
وفي مطلع القرن العشرين زاد تدفقُ رؤوس الأموال الأجنبية لكي يتم استثمارها في بنوك الرهونات بمصر. وحفلت السنوات من 1904م إلى 1907 م بتأسيس الأجانب لمزيد من شركات الأراضي. وارتفع رأس المال الأجنبي المستثمر في هذا المجال من 3.637.000 مليون جنيه في سنة 1902م إلى 19.356.000 مليون جنيه في سنة 1907م، وكان حوالي نصف تلك الزيادة من نصيب شركاتِ الرهن الأجنبية.
والحاصلُ أن قروضَ الرهنِ العقاري كانت من أخطر آليات السيطرة الأجنبية على مصادر الثروة المصرية. ووصلَ خطرُها إلى أعماق الريف، واستمر ماثلًا إلى ما بعد ثورة 1919 وحتى إلغاء الامتيازات الأجنبية بمعاهدة مونترو سنة 1937م. وفي ذلك السياقِ حدثت طفرةٌ في إقبال المصريين على وقف الأراضي الزراعية كما مرَّ بنا. وبدا كما لو كانت هناك مواجهةٌ صامتةٌ بين اتساع رقعة الأراضي المتسربة لأيدي الأجانب، وبين اتساعِ رقعة الأراضي الداخلة في حرز الوقف. ووثائقُ أوقافِ تلك الفترة كشفت لي بنصوصٍ صريحة أن نظامَ الوقف انخرطَ في قلب عملية الجهاد الوطني ضد الاستغلال الأجنبي، وسأذكر بعضًا من الأمثلة الدالة بوضوح على ذلك.
المستوى الثاني:
حرمانُ الأجانبِ من الاستفادة من أعيان الوقف بأي وجه من وجوه الاستفادة، سواء بإجارتها، أو بالعمل فيها، أو الانتفاع بشيء من مؤسساتها. وبالرجوع إلى وثائق الأوقافِ في تلك الفترة، تبين لي أنها قد اشتملت ما سميتُه شروط الوقف للمقاطعة الشعبية للأجانب، وهي من إبداعات المصريين في توظيف نظام الوقف لدعم الجهاد الوطني ضد السيطرة الأجنبية. وقد تركزت هذه الشروطُ على مسألتين هما: منعُ تأجير الأعيان الموقوفة لشخص أجنبي، أو لشخص من ذوي الامتيازات أو الحمايات الأجنبية، ورفضُ اختصاصِ المحاكمِ المختلطة بالنظرِ في أي شأنٍ من شئون الوقف. ومعنى ذلك هو: توظيفُ القوة الإلزامية لشروط الوقف كوسيلة لمقاطعة الأجانب، وللتعبير عمليًا عن الرفضِ الشعبي لنظام الامتيازات الأجنبيةِ، وللمحاكم المختلطة في آن واحد.
وثمة عديدٌ من النماذج التي تعبرُ عن هذا التوجه الذي كان عامًا لدى معظم مؤسسي الأوقاف في مختلف أنحاء مصر في تلك الفترة، التي تغطي الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين تقريبًا. ومن ذلك ما وردَ مثلًا في حجة وقف حسن أفندي شرافي بن علي الذي أنشأه في سنة 1902م، بموجب حجة محررة بتاريخ 24 ذي الحجة 1320ه ـ(1902) أمام محكمة الفيوم الشرعية. وكان هذا الوقف عبارة عن مساحة قدرها 88 فدانًا بجهة الفيوم. واشترط على ناظر الوقف «ألا يؤجرَها إلى أحد من ذوي الحمايات الأجنبية»، وأن يوظفَ من شاء ليساعده في أعمال الوقف «بشرط ألا يكون من ذوي الحمايات الأجنبية».
ومن ذلك أيضًا ما وردَ في حجة وقف الحرمة عائشة بنت عمار عبد الرازق، التي وقفت بموجب حجة محررة أمام محكمة سمالوط الشرعية بتاريخ 27جمادى الأولى 1338ـ 17/2/1920، مساحةً قدرُها نصف فدان بجهة سمالوط محافظة المنيا، واشترطت في حجة الوقف «ألا يُؤجرَ لذي شوكةٍ، أو لأحدٍ من أهالي البلاد الأجنبية».
وفي حجة وقف أحمد باشا المنشاوي الذي أنشأه في سنة 1903م، بموجب حجة محررة بتاريخ 24 محرم 1321 ـ 22/4/1903 أمام محكمة مديرية الغربية بطنطا، وكانت مساحتُه 4600 فدان بمديرية الغربية بوسط الدلتا؛ وردت عدة شروط منها: «عدم تأجير الأطيان لذي شوكة، ولا لمتغلب، ولا لمن يعسر استخلاص الأجرةَ منه، ولا لمماطل، ولا لمفلس، ولا لأحد من الأوروباويين، ولا لمسلم، ولا لعيسوي، ولا لموسوي تحت الحماية الأجنبية». ومن الواضح هنا أن معيارَ الحرمان ليس هو الانتماء الديني وإنما هو الانتماء الوطنيُّ، والرغبةُ في إبعاد السيطرةِ الأجنبيةِ عن مصادر الثروة الوطنيةِ.
وثمةَ بعدٌ آخر من أبعاد المقاومة الوطنية التي ظهرت من خلال الوقف في تلك الفترة، وخاصة في مواجهة الامتيازات الأجنبية، وهو أن قضاةَ المحاكم الشرعية قد عمدوا إلى أخذ تعهدات رسمية من الرعايا الأجانب؛ إذا رغبوا في وقف أملاكهم بمصر، لإلزامهم بموجب تلك التعهدات بالخضوع لقوانين البلاد ومحاكمها أسوةً بغيرهم من أبناء البلد، ومن ثم تنازلهم فيما يخص أوقافهم عن أن ينطبق عليها شيء من امتيازاتهم الأجنبية. وكمثالٍ يوضح ذلك ما ورد في حجة وقف الخواجة يعقوب منشة، أحد اليهود من رعايا النمسا في مصر، وهو أن:
إسهامُ الأوقاف في شراء أراضي الدولةِ التي بيعت أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وفاءً لبعض أقساط الديون الأجنبية. وقصةُ الديون وما جلبته من تدخل أجنبي في مصر معروفة. وقد اضطرت الحكومةُ لبيع مساحاتٍ شاسعة من أراضي الأملاك الأميرية الحرة، وأراضي الدومين العام، وأراضي الدائرة السنية لمواجهة تلك الديون. وكان المتنافسون الرئيسيون على الشراء هم الأجانب من جهة، وكبارُ الملاك المصريين من جهة ثانية، وديوانُ عمومِ الأوقافِ المصرية من جهة ثالثة.
وتكشفُ وثائقُ الأوقافِ الخاصة بتلك الفترة المشار إليها آنفًا عن أن كبارَ الملاك قد قاموا في حالات كثيرة بتحويل ما اشتروه من أراضي الدولة إلى أوقاف أهلية وخيرية. ومن ذلك مثلًا: أن أحمد باشا المنشاوي اشترى بين سنتي 1898 و1900م حوالي أربعة آلاف فدان من أراضي الدومين بتفتيش الهياتم مديرية الغربية بوسط الدلتا، ووقفها كلها في سنة 1903م وقفًا خيريًا به حصة أهلية صغيرة.
وقد استمر الديوان في عمليات الشراء وإلحاق ما يشتريه بالأوقاف، وتضمنت عقود البيع عبارة تنص على أن:
إن ما سبق يفسر أيضًا لماذا تخلتْ سلطات الاحتلال عن سياسة عدم التدخل في الشؤون الدينية (الأزهر والأوقاف والمعاهد الدينية)، ويفسر أيضًا إصرارها على تحويل ديوان عموم الأوقاف باعتباره هيئة مستقلة إلى نظارة/ وزارة خاضعة لسياسات مجلس الوزراء، وهو ما تحقق بالفعل في سنة 1913م. وخشيت النخبةُ العُلمائية والسياسية الوطنية من تلك الخطوة. وكان سعد باشا زغلول مدركًا لخطورتها على قضية الاستقلال والتحرر من الاستعمار. وحاول محاصرة تلك الخطوة وتفريغها من مضمونها وقطع الطريق على تعيين مستشار إنجليزي في نظارة الأوقاف أسوة ببقية الوزارات، فكتب مقالًا في جريدة المقطم اقترح فيه أن يكون رأي الجمعية التشريعية التي كان يرأسها قطعيًا نافذًا فيما يعرض عليها من ميزانية نظارة الأوقاف، وما يوضع لها من اللوائح والنظام، وهو ما تحقق جزئيًا إلى أن نشبت ثورة 1919م.
تلك هي خلاصة تاريخ ما أهمله المؤرخون في ثورة 1919. وللموضوع بقية تتعلق بسياسة الاحتلال تجاه المؤسسة الرسمية للأوقاف التي كانت نظارة، فألغاها الإنجليز سنة 1884، أي بعد عامين فقط من احتلالهم مصر، وأعيد العمل بنظام ديوان عموم الأوقاف من 1884 إلى 1913، ثم تم إلغاء الديوان وتحويله لوزارة في سنة 1913م في محاولة من المعتمد البريطاني للسيطرة على تصرفات ديوان الأوقاف ومواقفه الداعمة للحركة الوطنية، والمشاركة بفعالية في شراء ووقف أراضي الدائرة السنية التي باعتها الحكومة لسداد أقساط الديون الأجنبية على ما سبقت الإشارة إليه.
وهذا جانب آخر يستحق مقالاً آخر لبيان بقية جوانب إسهام ثورة الوقف في ثورة 1919؛ حيث جمع المصريون في الوقف ببراعة، بين الرغبة في عمل الخير، والتقرب إلى الله، والاهتمام بالشأن العام في ذات الآن. وأثبتوا أن الجانب الوطني هو من بين الدوافع الخيرية، بل هو في جوهره واحد منها، ومصدر من مصادر تحصيل الثواب والقرب من الله أيضًا.
- مقتبس من سجلات وزارة الأوقاف ـ سجل رقم 4/ الإسكندرية ص203ـ 205.
- مقتبس من «إحصاء الأوقاف»، منشور بمجلة المنار ، العدد السادس، السنة الثانية، 5 من ذي الحجة 1316، 5 إبريل 1899، ص78.
- مقتبس من سجلات استبدال الأحكار المحفوظة بقسم الحجج والسجلات بوزارة الأوقاف، ومسجل فيها عمليات الشراء من أموال استبدال الأحكار الوقفية من سنة 1900إلى سنة 1910.