منذ أن قرر الإنسان الأول رفع سلاحه البدائي المرتجل من الهروات والعصي والرماح في وجه أخيه الإنسان، سواء للدفاع عن نفسه أو للاعتداء على الآخر لأي مطامع؛ تحولت صراعاته المسلحة إلى حروب، وتحولت الحروب إلى أنشطة غيرت وجه البشرية بالكامل، وبسبب تلك الصراعات المسلحة تطورت حاسة الابتكار لدى الإنسان بدافع البقاء أولاً، وبدافع التفوق على الخصوم، وربما كان الدافع في بعض الأوقات هو حاسة امتلاك القوة البحتة لترهيب الآخرين.

ومثلما يبدأ  كل إلهام لإنجاز؛ من خيال. انتابت أحدهم ذات يوم حالة من خيال شاطح رأى نفسها فيها يتجول بحرية تحت سطح البحر، من دون أن تعوقه محدودية الإنسان في حاجته إلى الهواء ليظل على قيد الحياة، وارتسم المشهد في ذهنه حياً، وطٌرح السؤال: ماذا لو كانت هناك وسيلة أو مركبة تمكن الإنسان من اختراق حاجز المستحيل البيولوجي، تغوص وتسبح وتستكشف الأعماق المحرمة على الإنسان لأكثر من عدة دقائق هي كل ما يستطيع من خلالها البشر أن يظلوا بلا هواء، مهما اتسعت قدراتهم على كتم أنفاسهم. وظل السؤال يتردد ويتحوّر في حالة الخيال، ماذا لو.. ارتاد الإنسان أعماق البحار والمحيطات؟ وكانت الإجابة وقوداً أشعل تلك الآلة المعقدة المسماة الإرادة البشرية على مر العصور التي حولت الحلم والخيال بالتدريج إلى حقيقة واقعة.

بين التاريخ والخيال: الإسكندر الأكبر وأسطورة الجرس الزجاجي

تذكر بعض مصادر التاريخ أن فكرة ولوج الإنسان إلى مركبة حصينة تمكنه من ارتياد قيعان البحار بلا أي عوائق؛ هي فكرة قديمة دخلت المنطقة ما بين الخرافة والوقائع المُثبته، فإحدى أقدم الروايات التي ذكرت فكرة الغواصات أتت من كتابات الفيلسوف والشاعر والرحالة المسلم الهندي «أمير خسرو) الملقب بأبي الحسن يمين الدين خسرو، الذي ذكر في القرن الثالث عشر الميلادي من بين قصص أسفاره قصة، كانت تتردد قديماً كأسطورة عن قوة وعظمة وتقدم جيش القائد الروماني الشهير «الإسكندر الأكبر» ومؤكداً صحتها، التي تتلخص في امتلاك الاسكندر الأكبر لمركبة زجاجية بالكامل على شكل جرس أقرب إلى البرميل،  تتسع لراكب واحد وأن الإسكندر الأكبر كان يحملها معه في سفينته الخاصة وكان يصعد إليها ويتدلى بها إلى قاع البحر ليستكشف ما فيه من مناظر ومخلوقات بحرية وأنه كان يصعد من تلك الرحلات منبهراً متلاحق الأنفاس من شدة عجب ما رأى تحت سطح البحر.

 

 كما أن الإسكندر استخدم هذا الجرس الزجاجي الغاطس في أثناء حملته البحرية على الدولة الأخمينية الفارسية، وتحديداً أثناء (حصار صُور) – صُور في جنوب لبنان حالياً-  الشهير عام 332 قبل الميلاد، بجوار وجود العديد من النُسخ المتحورة لهذه القصة من عدة مصادر في أوروبا القديمة، ولكن كما هو واضح أن القصة ذات طابع خيالي، وتبتعد عن التأصيل المطلوب لتتحول إلى واقعة تاريخية مُثبتة، ولكن روح القصة تشي بأن الفكرة ذاتها في ارتياد الإنسان قيعان البحار والمحيطات ليست وليدة نبوغ الإنسان الحديث؛ بل كانت أقدم من ذلك بكثير، ومرت بزمن طويل من التطوير والابتكار والمجهود قبل أن تتحول إلى حقيقة ممكنة أسهمت في دراسة عوالم البحار، ثم بشكل أو بآخر إلى سلاح يهدف إلى الترهيب وإظهار السطوة العسكرية.

 

أرض الواقع: المحاولات الأولى

رُصدت المحاولات الأولى لتصميم وصناعة أول غواصة بمعناها المعروف على يد الرياضياتي وضابط مدفعية البحرية الملكية البريطاني (ويليام بورن) William Bourne في نهايات القرن السادس عشر وتحديداً في 1578 عندما صمم غواصة بدائية عبارة عن مركبة تشبه قارب خشبي بمجدافين، مغلقة ومغطاة فتحاتها بالجلود. خبراته الرياضياتية جعلت هذا النموذج –لم ينفذ آنذاك واقتصر على التصميم فقط – يحمل نظرياً قدراً كبيراً من إمكانية النجاح في الغوص والإبحار وإن لم يحتوِ على أي فتحات زجاجية تسمح للملاح باستكشاف وجهته، ولم تحتو على أي تخطيطات لخزانات الهواء المتعارف عليها اليوم نظراً لكون فكرة الغواصات الاولى تعتمد على انبوب هواء ممتد يظل على البرّ ليزود الراكب بالهواء.

تصميم ويليام بورن الأولي للغواصات بعد تنفيذه بأدوات حديثة

أما المحاولة التي يذكرها التاريخ بوضوح لتصميم وصنع أول مركبة غواصة في التاريخ الحديث بشكل شبه ناجح كانت عام 1620 للمهندس والمخترع الهولندي (كورنيلس دربيل) Cornelis Drebbel والذي عمل لصالح الجيش الملكي البريطاني وتحت إمرة الملك (جيمس الأول) وكانت لا تختلف كثيراً في فكرتها وآلية عملها عن تصميم (ويليام بورن) الأوّلي، ولكن يُنسب النجاح لـ (دريبل) لأنه هو أول من صنع النموذج وقام بتجريبه في نهر (التيمز) وقد استطاع الغوص به عمق 15 قدمًا (أربعة ونصف أمتار)، ثم قام طوّر لاحقًا عدة نسخ من غواصته الأولى التي سميت باسمه، وبالطبع اعتبرت آنذاك إحدى المعجزات العلمية المتقدمة مقارنة بمستوى التكنولوجيا في بدايات القرن السابع عشر، وسجلت بعض المصادر أيضاً أن دريبل استخدم في نُسخه التالية، بجوار الآلية المتقدمة؛ جهاز يشبه البارومتر لقياس العمق باستخدام الزئبق، كما استخدم تقنية كيميائية لتنقية الهواء المُزوِد للغواصة باستخدام عنصر ملح نترات الصوديوم.

رسم قديم لغواصة دريبل

وبينما كان مؤشر الابتكار التكنولوجي يجتاح أوروبا في القرن السابع عشر، سرعان ما دوّن التاريخ محاولات أخرى مبتكرة لصنع الغواصات، كان أبرزها الغواصة ذات الشكل المربع –المكعب للدقة- على يد المخترع الفرنسي (دنيس بابين) Denis Papin والذي غير فكرة البناء الخشبي وصنع أول غواصة معدنية بالكامل، التي دُمرت بالخطأ لاحقاً في إحدى التجارب ولم يعد حتى لتصميمها وجود مسجل في التاريخ البحري.

الطموح العلمي يستسلم أمام نظيره العسكري

مع التطوير المستمر للعقول المبتكرة، وجموح الأفكار نفسها، شهد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر طفرات مهمة في تصميمات الغواصات، التي حفزتها النجاحات الأولى، بجوار السبب الأبرز في ابتكار الغواصة: الفضول العلمي لدراسة أعماق البحار والمحيطات؛ هذا العالم الذي حُرّم على الإنسان لآلاف السنين، للسبب البسيط والمُعقد في الوقت ذاته ألا وهو؛ الفارق بين الرئتين والخياشيم في عملية التنفس.

 ولكن بسبب انكماش عالم الدراسة العلمية والأكاديمية في الحياة العامة، وكَون العلم والدراسات الأكاديمية بشكل عام أمر (نخبوي) في هذه الفترات في أوروبا – مقارنة بغزو الثورة الصناعية لنمط حياة الإنسان الأوروبي – ينحصر على طبقات بعينها، تواجهها على الناحية الأخرى أنماط حياة اجتماعية متواضعة فقيرة فكرياً عانت من ويلات حروب إقليمية كثيرة بين الممالك والإمارات؛ استطاعت هذه الأنماط الاجتماعية المتواضعة  بالكاد أن تجعل أوروبا متماسكة في صورة قارة نامية تحاول النهوض، تحصد الثمار القلائل الوليدة لثوراتها الصناعية، ولذا قد كان لخبر وصول الإنسان إلى ابتكار لمركبة تستطيع الغوص بأحمالها البشرية إلى تحت أسطح البحار؛ أثر عظيم، أدهش الأوروبيين على نحو واسع، ولكن ذابت بين الأوساط العلمية كفكرة مركبة تُصنع لهدف علمي بحت نظراً لعدة معوقات كان أبرزها ارتفاع كلفة صناعة مركبة غواصة إلى حد كبير في تلك الفترات، فلم تجد الغواصات مجالاً خصباً لتمويلها؛ ولكن كان هناك آخرون يملكون المال لأهداف أخرى.

 كما هي عادة الإنسان منذ خطواته الأولى التي رأى فيها جذع الشجرة يتحول إلى هراوة؛ نبتت الفكرة في أذهان البعض حاملة السؤال الخطير: ماذا لو كانت هذه الغواصة مركبة عسكرية، تحمل الجنود المقاتلين، وتقوم بمهام ذات طبيعة “تسللية” في المعارك البحرية وقرب سواحل الدول التي تحميها سفن سلاح البحرية، الضارب القدم في التاريخ العسكري؟ وتجيء الإجابة أسرع مما نتوقع.

لم يكد العالم يستقبل القرن الثامن عشر  حتى ولدت أول غواصة بهدف عسكري في التاريخ، وهذه المرة ولدت الفكرة السالف ذكرها في أقصى الشرق الأوروبي في عصر القيصر الروسي سليل آل رومانوف (بطرس الأكبر)، على يد مهندس السفن -كان في الأصل نجاراً – الروسي (يفيم نيكونوف) الذي ابتكر عام 1720 أول غواصة خشبية محكمة الغلق بمُعادل مانع لتسرب الهواء، وكان الهدف الأساسي منها هو التسلل أسفل السفن الحربية الكبرى وإغراقها عبر إطلاق مستحضر قابل للاحتراق من خلال أنابيب ممتدة تفرغ حمولتها القاتلة إلى قاع السفينة المستهدفة فيما يشبه عملية الحَقن، لحرق الأجزاء الهيكلية والميكانيكية السفلية للسفن ومن ثم إغراقها.

ولكن كما هو متوقع لا تظل الابتكارات المتقدمة حكراً على دول أو جنسيات بعينها لفترات طويلة، وقرابة عام 1776 تذكر عدة مصادر استخدام الأمريكيين أول غواصة أمريكية الصنع عرفت باسم (السلحفاة) نظراً لكون تصميمها يشبه أصداف السلاحف، وتحديداً في واقعة إغراق السفينة الحربية HMS Eagle التابعة لقوات البحرية الملكية البريطانية أثناء حرب الاستقلال أو الحرب الأمريكية البريطانية، عندما تمكن الملاح الأمريكي “إيزرا لي” من التسلل أسفل السفينة البريطانية باستخدام غواصته (السلحفاة) بهدف خرق وإغراق سفينة العدو البريطاني HMS Eagle قرابة ميناء نيويورك، ولكن مهمته تعثرت عندما فشلت غواصته في شَبْك لغم مليئ بالبارود يزن حوالي 68 كيلوغرامًا بجسم السفينة العملاق.

المدهش أن تلك الواقعة تذكرها اغلب المصادر الأمريكية ولم يأت ذكرها في مصدر بريطاني واحد إلى اليوم، وهو ما قد يشير في عالم الأبحاث التاريخية إلى احتمال من اثنين؛ إما هو تكنيك شهير بتفادي ذكر السلبيات في الوقائع التاريخية باعتبار الأمر اعتراف ضمني بالهزائم –ويمكننا استبعاد هذا بالنظر إلى الفشل الأمريكي في إغراق السفينة HMS Eagle بالأساس- أو أن تكون القصة بأكملها قطعة بروباجندا أمريكية مفبركة تسللت إلى صفحات التاريخ باعتبارها حقيقة واقعة ولدسّ اسم أمريكا في أي فراغ وسط سطور الريادة في عالم ابتكار واستخدام الغواصات.

ومنذ أن بدأت الأخبار تتردد في أصداء العوالم العسكرية والجيوش بأن البعض يمتلك غواصات متسللة بوصفها أحدث ما يمكن للجيوش امتلاكه آنذاك؛ انفجر مؤشر الابتكار، وتسارعت وتيرة تطوير الغواصات إلى أن تمكنت فرنسا من امتلاك أول غواصة  مقاتلة من تصميم الأمريكي (روبرت فولتون) Robert Fulton عام 1800 وعرفت باسم “نوتيلوس” Nautilus، ولكن تم التخلي عنها نظراً لتعقيد تصميمها وضعفها ديناميكياً، ولكن في عام 1863 امتلكت فرنسا أول غواصة معارك Combat submarine رائدة تشبه الطرازات الحديثة التي نراها في البروباجندا العسكرية اليوم والتي عرفت باسم “بلونجير” PLONGEUR وبلغ طولها 44 متراً (146 قدماً). واحتوت ما يقرب من 153 متراً مكعباً من الهواء المضغوط، وكانت أول غواصة مجهزة بقاذف للقنابل الأسطوانية المتفجرة أسفل الماء (عُرف باسم طوربيد لاحقاً) الذي اعتمد في غواصة “بلونجير” على آلية إطلاق بدائية الفكرة تشبه إلى حد كبير تقنية الوتر المشدود للأقواس، وكما كانت غواصة “بلونجير” مزودة بمدقّ حديدي حاد في مقدمتها للاستخدام التقليدي بالاندفاع  نحو باطن السفن وخرقها  فيما يعرف بتقنية Ramming، وكلها تقنيات تعد أنوية أصيلة لكل تصميمات الغواصات الحديثة اليوم.

تصميم الغواصة الفرنسية بلونجير أول غواصة حديثة الشكل في التاريخ
/ i0.wp

«حيتان حديدية» تغير مفاهيم الحروب الكبرى

لآلاف السنوات ظلت أعماق البحار والمحيطات حكراً على الكائنات البحرية، التي تسيدها حجماً الحيتان العملاقة، التي دخلت الوعي الجمعي البشري بصفتها أضخم مخلوقات الكوكب التي عاصرها الإنسان؛ ولكن طموح البشرية إلى الريادة المطلقة، وامتلاك القوة الأكبر جعل قيعان البحار والمحيطات مرتعاً لنوع جديد من الحيتان، حديدية، بشرية الصنع، قادرة على الفتك بالمنافس في دقائق قليلة، أو قادرة على التجسس على خصوصيات الجيوش ومعرفة أسراره لأيام طويلة.

مع مطلع القرن العشرين، ومع اجتياح العالم الغربي حمى التنافس السيادي والسياسي، شهدت البشرية أولى الحروب العالمية على الساحة الأوروبية، وكانت تلك الحرب الفتّاكة هي الميلاد الأول لمعارك البحار الكبرى التي استخدمت فيها أسلحة الغواصات تحت مظلات قوات البحرية الأوروبية، وتذكر العديد من المصادر أن قوات البحرية الملكية البريطانية كانت تمتلك مع العقد الأول للقرن العشرين حوالي 75 إلى 80 غواصة حربية مزودة بـ طوربيدات متفجرة، وحملت أنواعها لأول مرة ما يعرف في عالم الغواصات بمصطلح “التصنيف” أو Class – وهي التسمية التي تطلق على طرازات الغواصات حتى اليوم فتسمى أية غواصة تصنيف كذا أو مصنفة كذا إلخ  – والذي يشير إلى قدراتها على الغطس والمناورة والاشتباك.

وسُجلت أول حالة إغراق لمركبة بحرية ضخمة بواسطة غواصة حربية في معركة بحرية عام 1914 عندما أغرقت الغواصة البريطانية من تصنيف E واحدة من أضخم السفن الحربية الألمانية المساة Hela مع اندلاع المعارك البحرية بين بريطانيا وألمانيا.

ولكن هذا التفوق البحري لم يكن حكراُ على بريطانيا، ففي غمرة الحرب العالمية الأولى كانت ألمانيا تعمل على قدم وساق لتطوير وتوسيع أسطولها من الغواصات، فوُلدت الغواصة الألمانية الشهيرة – ذات الدور المحوري لاحقاً – والمسماة بـ U boat أو “قارب يو”، والتي كانت طفرة صناعية وتكنولوجية آنذاك برغم عدم امتلاك ألمانيا العدد الكافي منها لتأمين النصر أثناء الحرب العالمية الأولى، ولكنها تتميز بقدراتها العالمية وأوزانها الخفيفة وسرعاتها الكبيرة، بجوار قدراتها على السباحة مسافة 5 آلاف ميل بحري دون الحاجة إلى التزود بالوقود، وكانت ألمانيا تمتلك فقط 20 غواصة من طراز U Boat مع بداية الحرب العالمية الأولى مقارنة بحوالي 80 غواصة بريطانية؛ إلا أن الغواصات الألمانية –وبرغم هزيمة الألمان- كبدت حركة التجارة البريطانية والفرنسية قرابة 5 آلاف سفينة تجارية، وخسائر بشرية لقوات الحلفاء وصلت إلى 15 ألف بحار.

الغواصة الألمانية «U boat» طراز «يو سي 1» المستخدم في الحرب العالمية الأولى

ولكن بيد أن الألمان كما خططوا في الحرب العالمية الثانية للعودة والانتقام من خصومهم حلفاء الغرب بعد الهزيمة المخزية في الحرب العالمية الأولى؛ خططوا أيضاً لاستغلال قوة سلاح الغواصات تمهيداً للانتصار الساحق هذه المرة، وفي محاولة منها هذه المرة للوجود المكثف في البحار والمحيطات باستخدام النُسخ المعدلة من غواصات U Boat الشهيرة، وسجلت أغلب المصادر العسكرية الغربية أن ألمانيا النازية امتلكت قرابة 1162 غواصة U Boat، دُمّر منها قرابة 785 قطعة وأسرت قوات الحلفاء 377 غواصة بعد هزيمة قوات المحور، أما بالنسبة لقوة غواصات U Boat، فإن التقارير تذكر أن الغواصات الألمانية كبدّت قوات الحلفاء خسائر تقارب 3000 قطعة بحرية.

ويمكننا أن نستشف من هذه الأرقام أنه بالفعل، شهدت الحرب العالمية الثانية كابوساً بحرياً تمثّل في القوة الماحقة للغواصات الألمانية والدور المفصلي التي لعبته في تسجيل انتصارات عسكرية كبيرة؛ حتى وإن انتهى الأمر بهزيمة ألمانيا للمرة الثانية، ولكن بلا شك أفشت قدرات الغواصات الألمانية بمدى قدرة الألمان على تصنيع أسلحة عالية الجودة والتأثير، وهو الأمر الذي انتبه إليه العالم الغربي الذي تمثل في الجبهة المنتصرة التي تزعمتها أمريكا بعد انتصار الحلفاء؛ وكان السبب الأساسي في عقود طويلة من تحييد القدرات العسكرية الألمانية والقيود الصناعة العسكرية التي فُرضت عليها إلى اليوم.

غواصات «U Boat» الألمانية في الحرب العالمية الثانية من تصنيف «إكس إكس إل» الأكثر خطورة بين التصنيفات.

وفي السنوات التالية للحرب العالمية الثانية وميلاد الحرب الباردة بين القطبين السوفيتي والأمريكي؛ شهد العالم تطوراً سريعاً وعملت كل جهة على تطوير وتصنيع وامتلاك أكبر وأقوى أنواع الغواصات، ولمّا انتبه الأمريكيون إلى إمكانية تسليح وتشغيل الغواصات بقدرات نووية، تحول الصراع من نقطة (من يملك الأكثر والأقوى) إلى نقطة مفصلية أخرى في تاريخ البشرية؛ (من يمتلك دمار العالم)، وولدت الغواصات النووية في قلب الحرب الباردة، وكانت هي الغواصة الأمريكية الشهيرة USS Nautilus التي دخلت الخدمة في البحرية الأمريكية عام 1954.

ونظراً لكون السباق المحموم بين السوفييت والأمريكان كان في ذروته، لم تمر عدة سنوات حتى امتلك الاتحاد السوفيتي أول غواصة نووية القدرة بنهاية الخمسينات، وظل التفوق العسكري في مجال الغواصات متقارباً إلى حد كبير بين الكيانين المتسابقين، مع ترجيح طفيف في كفّة الأمريكان تكنولوجياً ومن حيث تقنيات الأمان؛ وبحلول السبعينيات امتلك الاتحاد السوفيتي أول جيل من الغواصات التي سبقت نظيرتها الأمريكية وكانت من تصنيف (ألفا)، والتي احتوت تقنيات أعدت آنذاك بمثابة طفرة في قدرات التشغيل وتقنيات التبريد وحتى في عدد طاقم التشغيل الذي لم يزد على 30 فرداً فقط، ووصلت سرعة إبحارها تحت الماء إلى 80كم/س، وتبع ذلك ميلاد الغواصة الروسية العملاقة الرهيبة في عالم البحرية العسكرية؛ الغواصة تصنيف (تايفون) التي وصل طولها إلى 172 متراً، والتي وصلت قدراتها على الغطس إلى عمق 400 متر، وبسرعة مدهشة – مقارنة بحجمها- كانت 56 كم/س.

ولكن كما هي عادة الامريكان، لم يتوقفوا عن تطوير غواصاتهم كجزء من العقيدة التنافسية التي سادت العالم آنذاك، وتمكنت البحرية الأمريكية من امتلاك أجيال أكثر تقدماً من الغواصات المتفوقة؛ وولدت غواصات من تصنيفات مثل SeaWorld وVirginia class وImproved Los Angeles class. وجميعها تفوقت في قدراتها اللوجستية والعسكرية على الطرازات السوفيتية وحتى الروسية عقب انهيار الاتحاد، ولكن التفوق اليوم ليس حكراً على الأمريكان حتى ولو بعدد الغواصات في الترسانة البحرية.

فاليوم  وبعد تقزّم الشبح السوفيتي، وصعود الخطر الأكبر متمثلاً في الصين بديلاً للدب الروسي، تمتلك الولايات المتحدة  – وفقاً لآخر تحديثات عام 2023 – أسطولاً من الغواصات المتقدمة ذات القدرات النووية بعدد 68 غواصة، ولكنها للمفاجأة تقبع في المركز الثاني بعد أن وصل عدد قطع الأسطول الصيني من الغواصات العسكرية المتقدمة إلى 79 غواصة، وفي المركز الثالث تقف روسيا بعدد 64 غواصة، تليها في المركز الرابع كوريا الشمالية بعدد 36 غواصة، أما المركز الخامس فهو للبحرية الإيرانية بعدد 29 غواصة. أما أكثر دولاً عربية امتلاكاً للغواصات فتتساوى مصر مع الجزائر بامتلاك 8 غواصات لكل منهما.

وبرغم أن العالم لم يشهد –ونتمنى ألا يحدث– حروباً كبرى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تتطلب امتلاك قدر كبير من هذه القطع البحرية الفتّاكة، حيث تراجعت الأنشطة القتالية للغواصات إلى أدنى مستوياتها منذ اختراعها إلى اليوم، إلا أن السباق البشري على امتلاك الحصة الأكبر من (الحيتان الحديدية) لا يزال محموماً إلى اليوم.