تاريخ مقاومة الفلسطينيين مشروعات التوطين في سيناء
في اليوم السادس لعملية طوفان الأقصى التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية بغزة برًّا وبحرًا وجوًّا على الكيان الصهيوني مكبدة إياه خسائر عسكرية وبشرية ومادية غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي … أصبح الحديث عن خطة تهجير سكان القطاع لتوطينهم بسيناء هو الحديث الأبرز الآن على الساحة الإعلامية والدبلوماسية، مع تحذيرات مصرية رسمية من أن يكون ذلك المخطط هو الهدف الاستراتيجي والنهائي للعملية العسكرية التي أعلنتها إسرائيل «السيوف الحديدية»، ردًّا على طوفان المقاومة الفلسطينية.
مسألة غزة ومخططات التوطين
بعد انتهاء حرب 1948 بين الدول العربية وإسرائيل نزح ما يقرب من 200 ألف لاجئ فلسطيني من المدن الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى قطاع غزة، وهو عبارة عن شريط ضيق من السهل الساحلي الفلسطيني الجنوبي، يمتد عرضه بين 5 و15 كم، وطوله نحو 41 كم، وكان من ضمن الأراضي الفلسطينية التي بقيت حسب اتفاقية الهدنة تحت الإدارة المصرية. كان الحاكم الإداري المصري يتمتع بصلاحيات المندوب السامي منذ احتلال غزة من قبل القوات البريطانية سنة 1917.
منذ ذلك التوقيت، بدا أن أزمة ديموغرافية يعاني منها القطاع بسبب الكثافة السكانية العالية ونقص الموارد؛ فبدأت مفاوضات من قبل وكالة الغوث والجانب المصري برعاية الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة توطين أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين بالقطاع في شبه جزيرة سيناء.
ومن المفارقات التاريخية أن هذا المشروع وافقت عليه مصر بعد ثورة يوليو مباشرة، ففي سنة 1953 تم الاتفاق بين الحكومة المصرية ووكالة غوث اللاجئين على أن تقدم الحكومة المصرية 250,000 فدان في شمال غرب سيناء لوكالة الأونروا التي ستهيئ منها 50,000 فدان للاجئين؛ إلا أن هذا المشروع، وللعجب، قوبل برفض فلسطيني قاطع.
ظلت إسرائيل مع تنامي العمليات الفدائية التي تنطلق من القطاع نحو الأراضي المحتلة تحاول أن تضغط من أجل تنفيذ مشروع التوطين، من خلال سلسلة من الغارات التي قامت بها ضد الفدائيين في القطاع من جهة، وضد القوات المصرية من جهة أخرى، للقيام بمذابح لترويع السكان، وكانت دائمًا ما تستهدف محطات المياه في القطاع لدفع السكان نحو الهجرة إلى سيناء.
شملت الغارات الإسرائيلية هجمة قادها آرئيل شارون، الذي كان وقتها ضابطًا بالجيش الإسرائيلي معروفًا بوحشيته وجرائمه تجاه العرب، على قوات مصرية بالقطاع، خلفت 39 شهيدًا و33 جريحًا، وكذلك مذبحة مخيم البريج للاجئين سنة 1953 وخلفت 26 شهيدًا. وأخيرًا، كانت الغارة الكبيرة التي قامت بها القوات الإسرائيلية في فبراير سنة 1955، وعُرفت بمذبحة 55، وكان لها أثر بالغ على مصر والمنطقة، بل العالم بأسره.
انتفاضة مارس المنسية وحرب السويس
في سنة 1955 وضعت وكالة الغوث تقريرًا يشير إلى استحالة الحياة في قطاع غزة نتيجة لنقص المياه، ودعت إلى ضرورة الإسراع في تنفيذ مشروع توطين اللاجئين في سيناء الذي تم الاتفاق عليه مع الحكومة المصرية. وقد قام الحزب الشيوعي الفلسطيني بدعوة سكان القطاع لرفض مشروع التوطين واعتباره محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، وشكَّل قاعدة جماهيرية واسعة لمواجهة المشروع؛ إلا أن إسرائيل حاولت الضغط على الفلسطينيين من خلال الآلة العسكرية لقبول المشروع، وقامت في 28 فبراير 1955 بمذبحة غزة التي أشرنا إليها. وهي الغارة التي أودت بحياة العشرات من سكان القطاع والقوات المصرية، وأدت لتفجير انتفاضة كبيرة في قطاع غزة عرفت بـ «هبة مارس».
فبعد يوم واحد من مذبحة غزة انطلقت مظاهرات حاشدة فلسطينية كبيرة في القطاع شملت كل مدن وقرى القطاع، وقام المتظاهرون بمهاجمة مقرات الأمم المتحدة ووكالة غوث اللاجئين. وكان المطلب الأساسي، وللمفارقة أيضًا، هو إسقاط مشروع التوطين. فقد كان الهتاف الرئيسي: «لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان»، و«مشروع سيناء بالحبر سنمحوه بالدم».
وقد حاول الحاكم الإداري لقطاع غزة، اللواء عبد الله رفعت، التصدي للمظاهرات بالقوة، إلا أنه في النهاية اضطر للتفاوض مع المتظاهرين الذين شكلوا «اللجنة الوطنية العليا للتعبير عن سكان القطاع سياسيًّا».
كان لهذه المذبحة الإسرائيلية ولانتفاضة غزة أثر كبير على السياسة الخارجية المصرية، وأدت لتغير الموقف المصري الإقليمي والدولي، فبدأت استراتيجية مصرية واسعة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة بتسليح اللاجئين وتدريبهم لشن عمليات فدائية والدفاع عن أنفسهم في حالة حدوث أي عدوان. كما قام النظام المصري وقتها بقيادة جمال عبد الناصر بصفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية بهدف بناء جيش مصري قوي، وكان ذلك من بين الأسباب المباشرة للعدوان الثلاثي، ومعها انتهى مشروع التوطين في سيناء تمامًا.
كان تخلي نظام السادات عن إدارة القطاع في معاهدة السلام سنة 1979 إشارة بالغة لاندثار هذا المشروع من فوق طاولة السياسة المصرية تمامًا إلى أن عاد إلى الظهور من جديد في القرن الواحد والعشرين.
صفقة القرن أوهام جديدة لأحلام قديمة
في تسريب صوتي للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، تحدث مبارك عن رفضه لطلب من نتنياهو ترحيل سكان القطاع إلى سيناء، وقال مبارك إنه حذره من أن هذا يعني تقويض معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
لاحت مخططات التوطين مرة أخرى ضمن ما عرف بـ «صفقة القرن»، ولكن بثوب جديد. كانت صفقة القرن التي طرحها ترامب، وصهره جاريد كوشنر، واحدة المحاولات الفاشلة لتسوية القضية الفلسطينية من خلال الاشتباك مع ما يعرف بقضايا الحل النهائي، وهي حق العودة للاجئين والقدس والمستوطنات والدولة الفلسطينية.
وقد كان من الواضح أن تصورات القائمين على الصفقة هي تسوية ملف اللاجئين من خلال إعادة توطينهم في دول الجوار. وقد كانت مصر والأردن، عكس دول الخليج، متحفظتين على هذه الصفقة لأسباب عدة على رأسها قضية توطين اللاجئين. وكان الحديث عن مصر حاضرًا في مؤتمر المنامة، بوعود بتخصيص مبالغ مالية واستثمارات في مشروعات تنموية في شمال سيناء، بدا من جديد أنها تدور أيضًا في فلك خطط التوطين في سيناء؛ إلا أن سقوط نظام ترامب في الانتخابات الأخيرة ورفض منظمة التحرير والمقاومة في غزة هذه الصفقة برمتها، مع تجاهل كامل من النظام المصري لهذه المقترحات، أدى إلى وأد هذه الأفكار في ذلك الوقت أيضًا.
التهجير لسيناء كرد فعل انتقامي
مع بداية معركة الطوفان صدرت تصریحات غير رسمية لناشطين إعلاميين بشكل هيستيري، أمثال المدعو إيدي كوهين، وكبير المتحدثين باسم جيش الاحتلال اللفتنانت كولونيل ريتشارد هيخت، تحث الفلسطينيين على الخروج من قطاع غزة والتوجه لسيناء، وهو التصريح الذي سرعان ما قام جيش الاحتلال بتصحيحه. وقد قوبلت هذه التصريحات باعتراضات وتحذيرات مصرية واسعة من المسئولين المصريين الأمنيين والدبلوماسيين، على رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطابه الأخير في حفل تخرج الكليات العسكرية يوم الخميس الماضي.
وفي الوقت نفسه، قالت السفيرة أميرة أورون، في بيان لها على منصة إكس، نشره حساب السفارة الإسرائيلية على فيس بوك، إن إسرائيل ملتزمة بالاتفاقيات الموقعة، وإن إسرائيل ليست لديها أي نوايا تجاه سيناء، ولم تطلب من الفلسطينيين النزوح إليها.
وبرغم الرفض المصري القاطع والفلسطيني الحاسم لأي محاولة لتوطين الفلسطينيين في سيناء، وبرغم كذلك النفي الرسمي الإسرائيلي، فإن المخاوف والهواجس تفجرت بقوة في هذا التوقيت بعد قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي بإلقاء منشورات تطالب سكان مدن شمال قطاع غزة بمغادرة مساكنهم والنزوح جنوب وادي غزة، وعدم العودة لحين إشعار آخر، مما يعني مغادرة حوالي أكثر من مليون غزاوي لمساكنهم والتوجه جنوبًا، وهو ما ترفضه المقاومة ويرفضه سكان القطاع نهائيًّا.
وبالرغم من أن فرض مشروع لتفريغ قطاع غزة من السكان بالقوة، وإعادة توطينهم في شبه جزيرة سيناء كحل جذري لمسألة غزة وتهديدها المستمر للكيان الصهيوني، يأتي هذه المرة بدعم عسكري وضغط سياسي أمريكي وغربي، كرد فعل على عملية «طوفان الأقصى»؛ فإن هذا المخطط سيسقط حتمًا كما سقط منذ أكثر من ستين عامًا بفضل مقاومة الفلسطينيين التاريخية والواعية له، وقد ثبت عبر تاريخ الصراع العربي الفلسطيني عدم إمكانية تحققه على أرض الواقع فلسطينيًّا قبل مصر.