مدخل إلى عالم الفيروسات: كيف بدأ كل شيء؟
في عام 1962، حاز ثلاثة علماء، جيمس واتسون وفرانسيس كريك وماوريس ويلكينز، على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب، لاكتشافاتهم بشأن الطبيعة الحلزونية المزدوجة لجزيء الحمض النووي DNA، وأهميتها في نقل المعلومات داخل المواد الحية، لكن غابت عن هذه الجائزة عالمة كان لها مساهمة مهمة للغاية لمعرفة طبيعة وتركيب الحمض النووي، وهي عالمة الفيزياء الحيوية والخبيرة بالتصوير الإشعاعي روزاليند فرانكلين.
تنص قوانين لجنة نوبل الرسمية أنه لا يمكن منح الجائزة إلى شخص بعد وفاته، وكانت فرانكلين قد توفيت بشكل مأساوي بسبب السرطان عام 1958. ولكن بالرغم من إغفال دورها وعملها، ازدادت شهرتها على مر السنين، حتى أنها ساهمت بعد تصوير جزيء الحمض النووي في تصوير ودراسة الفيروسات، وفي اكتشاف هيكل وبنية فيروس تبرقش التبغ «Tobacco Mosaic Virus». وهو ما ساهم في تطور فهمنا لتركيب وبنية الفيروسات، بعد أن كانت مجرد كائنات أو أشياء غامضة بالنسبة لنا.
لكن من أين بدأت هذه القصة؟ وكيف تعرفنا على طبيعة تلك الكائنات المجهرية الشرسة؟ حسنًا، لنبدأ معًا رحلتنا إلى عالم الفيروسات، ونحاول أن نعرف كيف بدأ كل شيء!
البحث عن الفيروس الأول: ما ذنب النباتات؟
نحن الآن في هولندا، عام 1857، يتمشى أحد الفلاحين وسط حقله، ليُفاجأ بشكل بقع غريب يعلو أوراق نبات التبغ، والذي كان من المحاصيل المهمة اقتصاديًا في ذلك الوقت، وبدأت الأوراق تتحول إلى بقع باللون الأخضر الداكن والأصفر والرمادي. لم يقتصر الأمر على حقل هذا المزارع المسكين، لكن المرض امتد إلى حقول أخرى، ومجرد أن يصل إلى حقل جديد، فإنه ينتشر بسرعة كبيرة، مما تسبب في خسارة المزارعين نحو 80% من محاصيل التبغ.
بدأ هذا المرض الغريب يلفت انتباه علماء أمراض النبات، وكان أولهم الألماني أدولف ماير، كان يشغل منصب مدير محطة التجارب الزراعية بمدينة فاخينينجن بهولندا، والذي بدأ أبحاثه حول المرض في عام 1879، وكان أول من أطلق عليه اسم «مرض تبرقش التبغ» «Tobacco mosaic disease».
نشر ماير ورقته البحثية في عام 1886، ووصف فيها المرض وأعراضه بالتفصيل، ومحاولاته للبحث عن العامل المسبب للمرض. لكنه وقع في مشكلة، برغم إثباته أن عصارة ورقة تبغ مصابة يمكنها أن تنقل المرض إلى ورقة سليمة، إلا أنه لم يتمكن من عزل زرع حيوي دقيق من العامل الممرض (عملية تحفيز تكاثر الأحياء الدقيقة مثل البكتيريا والفيروسات بهدف التعرف عليها ودراستها)، ولم يتمكن من ملاحظته تحت الميكروسكوب، واعتقد أن السبب إما سم أو بكتيريا صغيرة للغاية.
في عام 1887، عندما بدأ عالم النبات الروسي ديمتري إيفانوفسكي في البحث وراء مرض تبرقش التبغ في شبه جزيرة القرم، اتخذ نهجًا مختلفًا عن ماير، مستخدمًا «مصفاة شمبرلند»، وهي مصفاة خزفية لتصفية البكتيريا من المياه وكانت تعتبر الاختبار النهائي للحكم على وجود البكتيريا، حيث استخدمها في تصفية عصارة الأوراق المصابة، ثم وضعها على ورقة نبات سليمة، لكنه تفاجأ أن الورقة أصيبت أيضًا، وتحول لونها إلى الأصفر! قدم إيفانوفسكي نتائج بحثه إلى أكاديمية العلوم في سانت بطرسبرغ عام 1892، وخلص إلى أن المرض كان سببه سم يمكنه المرور من المصفاة، أو أن بعض البكتيريا قد انزلقت من خلال شق في المصفاة.
أجرى عالم الميكروبيولوجي الهولندي مارتينوس بايرينك تقريبًا نفس التجارب التي أجراها إيفانوفسكي، لكنه توصل إلى استنتاج مختلف تمامًا. إذ أضاف إلى تجارب مصفاة الخزف نوعًا ثانيًا من نظام الترشيح الذي يستخدم الجيلاتين، لإثبات أنه لا توجد كائنات دقيقة مرّت من المصفاة الأولى، لكن المسبب الغامض لمرض تبرقش التبغ مر أيضًا من خلال نظام الترشيح الإضافي.
كما أثبت بايرينك أن هذا العامل الممرض كان ينمو في الأوراق، لكن الغريب أنه لم يستطع التكاثر بدونها. وعندما نشر نتائج أبحاثه في عام 1898، أطلق على المادة المعدية التي تمكن من تصفيتها اسم «سائل حي مُعدي» (contagium vivum fluidum)، وكاختصار أعاد تقديم كلمة «فيروس – Virus» من اللاتينية، والتي تعبر عن «سم سائل»، للإشارة تحديدًا إلى هذا النوع الجديد من مسببات الأمراض.
في ذلك الوقت، لم ينظر الباحثون إلى اكتشافاتهم على أنها فيروسات مثلما فعل بايرينك، إذ كانت النظرية السائدة حينها أنها ببساطة ما هي إلا بكتيريا يمكنها أن تهرب من مصفاة الترشيح. لكنه كان الوحيد الذي أدرك حينها أن المصدر لم يكن بكتيريا أو عدوى فطرية، ولكنه كان شيئًا مختلفًا تمامًا: «الفيروسات».
هؤلاء العلماء الثلاثة، بتجاربهم ومحاولاتهم للبحث، كانوا السبب في إيجاد العامل المسبب لمرض محير وهو «فيروس تبرقش التبغ» «TMV». واكتشاف هذا الفيروس تحديدًا كان مهمًا للغاية في تاريخ علم الفيروسات لعدة أسباب أبعد من اكتشاف المفهوم الفيروسي؛ حيث كان أول فيروس يتم تنقيته، وتم تطوير العديد من المفاهيم الأساسية لعلم الفيروسات بسببه، مثل التركيب الكيميائي للفيروس، وعزل البروتين وعناصر الأحماض النووية له، ومعرفة الـجينات والبروتينات المعدية، والكثير من الاكتشافات الأخرى التي ساهم بها في علم الفيروسات الحديث.
هكذا بدأت القصة..
تطور معرفتنا بهيكل وتصنيف الفيروسات
بعد بدايات القرن العشرين، كان مفهوم الفيروسات راسخًا، لكنه كان مفهومًا سلبيًا في الغالب؛ كانت ترتبط بالعديد من الأمراض، ولا يمكن رؤيتها، ولا يمكن زراعتها بدون خلايا، كما كانت تهرب من مرشحات البكتيريا.
مفهوم بايرينك بأن الفيروس هو «سائل حي مُعدي» كان قد نُسي تقريبًا حتى عام 1935، عندما نجح عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي وندل ستانلي في استخراج فيروس تبرقش التبغ (TMV) على شكل بلورات نقية (الجزيئات الفيروسية)، ليثبت أن الفيروس كان عبارة عن بروتين نقي مع هيكل منتظم. مما يشير إلى أن هذا الفيروس، وكل الفيروسات الأخرى، والتي لم تكن سائلة، كانت مختلفة جوهريًا عن الكائنات المجهرية الخلوية التقليدية، مثل البكتيريا والطفيليات الأخرى. وأظهر ستانلي لاحقًا أن الفيروس، الذي يبدو أنه بلا حياة في شكل مبلور، يتضاعف عندما يعيد إدخاله إلى نباتات التبغ. حيث ظهر الفيروس أنه يتصرف كعامل كيميائي ثابت لكنه في نفس الوقت ينمو داخل الخلية وهو دليل على أنه كائن حي.
كان هذا اكتشافًا صادمًا في ذلك الوقت؛ لأنه أذاب الخطوط بين الكائنات الحية التي يدرسها علماء الأحياء وبين الجزيئات غير الحية التي يدرسها علماء الكيمياء. وحاز وندل ستانلي على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1946 بفضل أعماله على اكتشاف بنية الفيروس.
ثم جاء اكتشاف مفاجئ آخر لعالمين بريطانيين، عالم الأمراض النباتية فريدريك باودن وعالم الكيمياء الحيوية نورمان بيري، عام 1936، حيث أوضحا أن فيروس تبرقش التبغ لم يكن بروتينًا نقيًا، ولكنه احتوى أيضًا على حمض نووي ريبي (RNA)، مما أشار إلى أن الفيروس كان أكثر تعقيدًا من مجرد مادة كيميائية، حتى وإن لم يكن كائنًا حيًا. وأن جزيئات الفيروس قد تحتوي إما على الحمض النووي DNA أو الحمض النووي الريبي RNA، ولكن لا يمكن أن تملك الاثنين معًا.
في عام 1941، كان العالم الأيرلندي جون برنال يستخدم حيود الأشعة السينية لدراسة المركبات العضوية البلورية للمنتجات الطبيعية، وكان قد عرف هو وتلميذه الأمريكي إيسيدور فانكيشين عن عمل ستانلي في بلورة فيروس تبرقش التبغ، وأدركوا أن هذه البلورات يمكنها أن تحيد الأشعة السينية، وحصلا على أول صورة باستخدام التصوير البلوري بحيود الأشعة السينية لبنية الفيروس، مما مكنهم من تحديد حجم وشكل الفيروس. حيث كانت جزيئات الفيروس موجهة بالتوازي مع بعضها البعض، لكنها تدور عشوائيًا حول محاورها الطويلة. ولكن افتقرت الصورة إلى المعلومات ثلاثية الأبعاد التي يوفرها التصوير بحيود الأشعة السينية للمواد المتبلورة بشكل كامل.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، واصلت هذا العمل روزاليند فرانكلين، عالمة الفيزياء الحيوية والخبيرة بالتصوير الإشعاعي، والتي كانت تعمل بالفعل على تصوير جزيئات الحمض النووي DNA. وفي عام 1955 أوضحت فرانكلين التركيب الكامل لفيروس تبرقش التبغ، واكتشفت أن البروتينات الفيروسية شكلت أنابيب حلزونية مجوفة، كما أظهرت أيضًا أن RNA لهذا الفيروس كان سلسلة واحدة (single-stranded)، وليس حلزونيًا مزدوجًا (double helix) مثل الحمض النووي DNA.
ساهمت الدراسات الأولى للعاثيات، أو الفيروسات التي تصيب البكتيريا، وأساليب زراعة الفيروسات داخل الخلايا، والطفرة التكنولوجية في تسلسل الحمض النووي، والتصوير البلوري بالأشعة السينية، في تطور معرفتنا بهيكل وبنية الفيروسات، وتصنيفها.
وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين، وضع العالم ديفيد بلتيمور نظامًا لتصنيف الفيروسات، بناءً على نوع مادتها الوراثية، سواءً كانت RNA أو DNA، وبناءً على آلية تضاعفها وقدرتها على نسخ نفسها داخل الخلية. ليعترف التصنيف بسبعة أنواع من جينوم الأحماض النووية وسبع إستراتيجيات نسخ داخل الخلايا المصابة.
ما هو تصنيف فيروس كورونا المستجد؟
اعتمد نظام تصنيف بلتيمور على أسلوب وآلية تخليق مرسال الحمض النووي الريبي الفيروسي، والذي يجب أن تنسخه لتتمكن من إنتاج البروتين ومن التكاثر، وتستخدم كل فصيلة فيروسية آليات مختلفة ومتنوعة لإجراء هذه العملية.
ويقع فيروس كورونا المستجد (SARS-Cov-2) ضمن المجموعة الرابعة في تصنيف بلتيمور، وهو النوع ذو الحمض النووي الريبي أحادي السلسلة إيجابي الاتجاه ((+) ssRNA virus). وتشكل جزءًا كبيرًا من الفيروسات المعروفة، بما في ذلك التي تسبب الأمراض الخطيرة مثل فيروس التهاب الكبد الوبائي سي، وفيروس غرب النيل، وفيروس حمى الضنك، وفيروسات كورونا التي تسبب الأزمات التنفسية مثل سارس وميرس، وكذلك المُمرضات الأقل خطورة مثل الفيروس الأنفي الذي يسبب الزكام.
ويستخدم هذا النوع جزيء RNA مفرد السلسلة موجب الاتجاه كمادة حاملة لمعلوماته الوراثية، حيث يتم تصنيف فيروسات RNA مفردة السلسلة إلى فيروسات موجبة أو سالبة حسب اتجاه أو قطبية الحمض النووي الريبي لها.
هل الفيروسات حية أم ميتة؟
تثير دراسة الفيروسات أسئلة مفاهيمية وفلسفية مُلحة، والتي يمكن ربطها مباشرة بالقضايا الكلاسيكية في فلسفة علم الأحياء، أو حتى بالفلسفة بشكل عام.
أثبتت اكتشافات ستانلي والعلماء الآخرين أن الفيروس يتكون من أحماض نووية، DNA أو RNA، مُغلفة بغطاء بروتين يمكنه أيضًا أن يأوي البروتينات الفيروسية التي تشترك في العدوى. بهذا الوصف، يبدو أن الفيروس أشبه بعامل كيميائي خامل أكثر منه كائن حي، ولا يستطيع التكاثر بدون الاعتماد على خلية حية.
ولكن عندما يدخل الفيروس إلى الخلية (والتي تُسمى بالمضيف بعد العدوى)، فإنه أبعد ما يكون عن الخمول. ويمارس نشاطه المحبب بإظهار جيناته، ويستخدم آلية الخلية الخاصة بالنسخ لتنتج الحمض النووي أو الحمض النووي الريبي الخاص به، وتصنع المزيد من البروتين الفيروسي بناء على تعليمات داخل الحمض النووي الفيروسي. حيث تتجمع الأجزاء الفيروسية المصنعة حديثًا ومن هنا تظهر المزيد من الفيروسات، والتي قد تصيب أيضًا خلايا أخرى بدورها.
هذه السلوكيات هي ما دفع الكثيرين للتفكير في الفيروسات على أنها تتواجد على حدود الحياة، أو على الحدود بين الكيمياء والحياة، ربما تمثل الفيروسات نوعًا مختلفًا من الكائنات على شجرة الحياة!
من أين جاءت الفيروسات؟
عرفنا أن الفيروسات هي كائنات مجهرية تحتاج إلى خلية حية من أجل أن تتكاثر. وتتكون في معظمها من المادة الوراثية، الحمض النووي DNA أو الحمض النووي الريبي RNA، مغلفة بغطاء من البروتين. قد يتغير تسلسل حمضها النووي على مر الزمن، وتراكم تعديلات على الشفرة الوراثية التي تساعد على بقاء الفيروس. ويمكن للعلماء إلقاء نظرة على هذه التسلسلات الجينية من أجل تقدير مدى ارتباط الفيروسات المختلفة، وكيفية تطورها. وقد أظهرت لنا هذه الدراسات أن الفيروسات لا تملك أصلًا واحدًا مشتركًا، بمعنى أنها لم تنشأ من فيروس واحد فحسب تغير وتطور إلى ما نعرفه من الفيروسات اليوم.
هناك نقاشات كثيرة حول أصل الفيروسات، ولكنها تنقسم غالبًا إلى ثلاث فرضيات رئيسية: أولها هي الفرضية التقدمية والتي تنص على أن بعض العناصر الوراثية، القادرة على الحركة بين مواقع مختلفة داخل الجينوم، امتلكت القدرة على الخروج من خلية والانتقال إلى خلية أخرى. وتُسمى أيضًا بفرضية الهروب لأنها ترجح تطور الفيروسات لأنها اكتسبت هذه العناصر اللازمة للهروب والتنقل بين الخلايا الحية.
ثاني فرضية تُسمى الفرضية التراجعية والتي تذكر أن بعض أنواع البكتيريا تطورت من أسلاف كانت قادرة على التكاثر خارج الخلايا، واستمرت بالتطور نحو الحياة الطفيلية، لذا ربما تطورت الفيروسات الموجودة من بكتيريا أكثر تعقيدًا لا تعتمد على الخلايا الحية للتكاثر، والتي فقدت معلوماتها الوراثية مع مرور الزمن، لأنها اعتمدت على الحياة الطفيلية أكثر وأكثر من أجل نسخ وتكرار نفسها. أي أن الفيروسات نشأت من تطور رجعي لبكتيريا كانت تعيش بشكل حر، فتكونت كائنات حية دقيقة أخرى وتطورت رجعيًا لتصبح الفيروسات الحالية. وربما تفسر هذه الفرضية منشأ وتطور الفيروسات كبيرة الحجم والتي يكون حمضها النووي من الـ DNA مثل فيروس الجدري على سبيل المثال.
بينما تعتمد الفرضيتان السابقتان على أن الخلايا كانت موجودة قبل الفيروسات، إلا أن الفرضية الثالثة تذكر أن الفيروسات تواجدت في الواقع قبل ظهور الخلايا بكثير، كأول كائنات قادرة على التكاثر، ومع الوقت أصبحت هذه الكائنات أكثر تنظيمًا وأكثر تعقيدًا، وطور بعضها القدرة على تركيب الأغشية ومن هنا نشأت الكائنات الخلوية.
في الوقت الحالي، تظل هذه مجرد فرضيات، ولن تسمح لنا التكنولوجيا أو الموارد المتاحة اليوم من اختبار صحة هذه الفرضيات والتأكد من صحة إحداها، وتحديد التفسير الأكثر قبولًا لأصل نشأة هذه الكائنات الشرسة.
كيف هزمنا أكثر الأمراض المعدية فتكًا؟
نحن الآن في إنجلترا، في مدينة بيركلي تحديدًا، عام 1796، وباء الجدري العالمي منتشر منذ قرون، وفي تلك الفترة في أوروبا كان يقتل 400 ألف شخص كل عام، بمعدل وفيات وصل إلى 35%. كان وباء الجدري من أخطر الأوبئة التي مرت على البشرية!
كانت الآنسة سارة نيلميس تحلب البقرة كعادتها كل صباح، لكنها لاحظت بعض البثور التي بدأت تظهر على يديها، فعرفت أنها التقطت عدوى جدري البقر، وهو نوع خفيف من الجدري يصيب البقر كما هو واضح! اتجهت سارة إلى عيادة الطبيب إدوارد جينر، لتتلقى العلاج.
عندما سألها جينر عن إصابتها بالجدري، أجابته بأنها لا تُصاب به بكل بساطة لأنها تتعامل مع البقر، والإصابة بجدري البقر تمنحها مناعة ضد مرض الجدري. كان هذا هو المفهوم السائد حينها بالفعل؛ أثناء تفشي مرض الجدري، كانت العائلة بأكملها تصاب بالمرض، إلا السيدات ممن يحلبن لبن البقر، في حالة إذا أصابهن جدري البقر، يكتسبن المناعة اللازمة. وامتلأت رسومات هذا العصر بصور جميلة لوجوه هؤلاء السيدات، بسبب عدم ظهور البثور والندبات التي يتركها الجدري على الوجوه.
فكر جينر بأن الإصابة بالمرض الأخف تمنح الشخص مناعة ضد المرض الأقوى والأكثر فتكًا، ولهذا قرر البدء في تجربة جديدة لإثبات صحة تلك الفرضية، وليفعل ذلك احتاج إلى ثلاثة أشياء: أولًا، مرض جدري البقر والذي استخلصه من البثور على يد الآنسة سارة. ثانيًا، مرض الجدري وهو كان في كل مكان بالفعل. ثالثًا، فأر تجارب بشري، واختار الطفل ذا الثمانية أعوام جيمس فيبس، وهو ابن البستاني الذي يعمل لدى جينر.
في مايو عام 1796، حقن جينر الطفل فيبس بجدري البقر، بعد أسبوع أصابته حمى خفيفة ليومين، ثم تعافى الفتى الصغير. ثم بعد ستة أسابيع، حقنه جينر هذه المرة بفيروس الجدري، لكنه لم يظهر أي أعراض تدل على إصابته بالمرض المخيف.
أعاد جينر تجربة لقاح الجدري على عشرات الأشخاص، وحصل على نفس النتيجة؛ لقد كان محقًا بالفعل، وكانت هذه بداية إنتاج اللقاحات. وسرعان ما أصبح تطعيم جينر هو الوسيلة الأساسية للوقاية من مرض الجدري حول العالم، حتى أنه أصبح إلزاميًا في بعض البلدان.
أثرت أبحاث إدوارد جينر في أعمال علماء عظماء مثل عالم الأحياء الفرنسي لويس باستور والطبيب الألماني روبرت كوخ، الذين استكشفوا طرق انتقال الأمراض بين البشر، حيث كانت تدعم تلك الاكتشافات نظرية أن الكائنات المجهرية تسبب المرض، والمعروفة اليوم بـ «نظرية الجراثيم».
وفي عام 1885، أنقذ لويس باستور حياة طفل صغير بعد أن عضّه كلب مسعور، من خلال حقنه بنسخة ضعيفة من فيروس داء الكَلِب كل يوم لمدة 13 يومًا. لم يُصب الفتى بداء الكَلِب ونجح العلاج الذي قدمه باستور، مما جعله يصيغ مصطلح «لقاح داء الكَلِب».
كان لتجربة باستور أثر عالمي أدى إلى التوسع في مصطلح اللقاحات، ليشمل قائمة طويلة من العلاجات التي تحتوي على نسخة حية ضعيفة أو ميتة من الفيروسات، والتي تُعطى عادةً في شكل حقن، لإنتاج المناعة ضد الأمراض المعدية المنتشرة.
وأدى التقدم العلمي في النصف الأول من القرن العشرين إلى انتشار اللقاحات المختلفة التي تعطي المناعة من أمراض مثل السعال الديكي، والدفتيريا، والتيتانوس، والأنفلونزا، والنكاف. وبفضل تقنيات التصنيع الجديدة، أمكن زيادة إنتاج اللقاحات بحلول أواخر الأربعينيات، مما أدى إلى تحريك جهود الوقاية والقضاء على الأمراض المعدية على الصعيد العالمي. وأُنتجت اللقاحات ضد أمراض شلل الأطفال والحصبة، والحصبة الألمانية، وغيرها من الفيروسات التي دخلت إلى قائمة طويلة على مدى العقود التالية.
وفي 8 مايو عام 1980، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن العالم قضى على مرض الجدري بشكل نهائي، والذي يعتبر أكبر إنجاز في مجال الصحة العامة الدولية.
لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ اكتشاف الفيروسات الأولى، وتطور معها فهمنا لكيفية الإصابة، وتركيب بنية الفيروسات، كما تطورت قدراتنا على إيجاد وصنع اللقاحات المناسبة. ومع انتشار الوباء الحالي لفيروس كورونا المستجد، تجد البشرية أمامها تحديًا جديدًا لإيجاد اللقاح، وفي وقت قياسي!
وإن كانت هناك دروس مُستفادة يمكننا أن نتعلمها من التاريخ، فهي أن: أشياء مثل السعي والبحث واتباع المنهج العلمي هي ما ستصل بنا إلى النجاح في نهاية المطاف، وأنه مهما كانت الأمور تبدو سيئة في البداية، إلا أنه دائمًا هناك الأمل، وربما يكون وسيلتنا الوحيدة للانتصار على تلك المخلوقات المجهرية الشرسة!