تاريخ العلم عند الأتراك العثمانيين
يمثل الحديث عن تاريخ العلوم في الدولة العثمانية جانبًا مهمًا من جوانب معرفة تاريخ الدولة الكبير، فالعلم هو العماد الذي ينهض بالدول ويساعدها على الاستمرار والرقي، كما أن عدم الاهتمام به سبب رئيسي من أسباب تردي الدول وسقوطها.
ويتناول الكتاب الذي أقوم بعرضه تاريخ العلوم التجريبية بشكل خاص في قرون الحكم العثماني، بدءًا من القرن الرابع عشر حتى بداية القرن التاسع عشر، فالطب، والكيمياء، والفلك، والرياضيات، والجغرافيا، وغيرها هي المتناولة بالعرض والمقارنة والتحليل، وهو تناول عميق كما سيأتي فيما بعد.
وقبل الشروع في عرض الكتاب لابد من تعريفٍ بمؤلفه، وهو الدكتور عبد الحق عدنان آديوار (1882-1955) السياسي والطبيب والمؤرخ التركي البارز، كان نائبًا عن «مصطفى كمال» مؤسس الجمهورية التركية في مجلس الأمة التركي (البرلمان) في أنقرة كحكومة منفصلة عن حكومة السلطنة والخلافة في إسطنبول، كما قام بتأسيس حزب سياسي معارض لحزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي سرعان ما تم حله، وغادر البلاد خوفًا على حياته من اضطهاد الحكومة.
عمل أستاذًا للغة التركية في معهد اللغات الشرقية بباريس، كما ترأس اللجنة التي أشرفت على نقل دائرة المعارف الإسلامية (ليدن) من الإنجليزية إلى التركية وساهم في كتابة وتحرير مواد بها.
صدر الكتاب في طبعته الأولى باللغة الفرنسية في باريس عام 1939، وصدرت طبعته التركية الأولى بعد هذا التاريخ ببضع سنوات، وهي طبعة منقحة ومضاف إليها إضافات مهمة خاصة بعد اطلاع الدكتور على المخطوطات التي تخص موضوع الكتاب في مكتبات تركيا.
وقبل الدخول في متن الحديث عن الكتاب لابد من توجيه تحية وشكر لمترجم الكتاب الدكتور «عبد الرازق بركات» أستاذ اللغة التركية وآدابها بكلية الآداب جامعة عين شمس، فقد بذل جهدًا كبيرًا في إخراج ترجمة مميزة ودقيقة بجانب جهده في الترجمة لأسماء العلماء الواردة في الكتاب، اعتمادًا على مصادر عثمانية متنوعة، كما أورد بعض التصحيحات لمعلومات خاطئة أُوردت عند الحديث عن عالِم، بالإضافة إلى اعتماده على كتب وأبحاث تركية حديثة تناولت العلوم في العهد العثماني، مما أكسب الكتاب قيمة كبيرة فوق قيمته الأصلية.
تاريخ العلوم التجريبية العثمانية
يبدأ تاريخ العلوم في الدولة العثمانية مع القرن الرابع عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد تحول الإمارة العثمانية إلى دولة لها حدود جغرافية ونظم إدارية، وقد افتتح الدكتور عبد الحق كتابه من هذا القرن وصولًا إلى بدايات القرن التاسع عشر، ووضعه على ثمانية فصول بخلاف المقدمة والخاتمة.
وهو يرى أن العلوم التجريبية في الدولة كانت امتدادًا، ناقصًا أحيانًا وخاطئًا أحيانًا، للعلوم في اللغتين العربية والفارسية، ولم تختلف شكلًا ولا منهجًا عن العلوم التي اعتبرها «معجزة يونانية» انتقلت للشرق، وهي نظرة إعجاب واضحة للمنتج العلمي الأوروبي، خاصة أن الدافع من كتابة هذا الكتاب كما أرى هي معايشته للتقدم الأوروبي الذي انطلق إلى درجات عُليا بالتقدم في العلوم التجريبية، مما دفعه إلى وضع هذه الدراسة لعمل مقارنة والوقوف على مدى تقدم هذه العلوم في أمته في الماضي.
ويعتمد الدكتور عبد الحق على ذكر أبرز علماء كل قرن، مع ذكر نتاجهم وأهميته بالتوضيح والشرح والتحليل، والقيام بعقد مقارنة سريعة في نهاية بعض الفصول بين الحالة العلمية في أوروبا والحالة العلمية في الدولة العثمانية عبر سرد مصغر لأبرز النظريات والاكتشافات العلمية التي وضعها العلماء في ذلك القرن، وهي مقارنة مميزة تساعدنا على معرفة مدى الاقتراب أو الابتعاد بين العلم الأوروبي والعلم العثماني في قرون الدراسة.
أما عن الانطلاقة العلمية الحقيقية في الدولة فكانت مع السلطان «محمد الفاتح»، الذي خصص له الدكتور الفصل الثاني للحديث عن شخصيته التي ساعدت بشكل أساسي على إرساء دعائم العلم في دولته الجديدة، فهو سلطان محب للعلوم يطلب من العلماء عقد المناظرات في بلاطه ويستمع إليها، كما أن لديه حبًّا للفلسفة واستمتاعًا بالنقاش مع علماء أوروبيين طلبهم لزيارة بلاطه، كما أولى مجهودات في بناء مؤسسات علمية مهمة مثل مدارسه الثمانية التي عرفت فيما بعد باسم «مدارس صحن الثماني» وأوامره للوزراء ورجال الدولة باستحداث العمائر والمنشآت التي تساهم في الرقي بالمستوى العلمي للدولة.
ينتقل الحديث في الفصول الثلاثة اللاحقة (الثالث والرابع والخامس) إلى الحديث عن نهايات القرن الخامس عشر، ثم السادس عشر، والسابع عشر، ويعرض لتطور علم الجغرافيا في هذه القرون، فيتحدث عن خريطة «پيري ريس» التي تظهر سواحل الأمريكيتين والقطبين، كما يشرح ما يقدمه پيري ريس في كتابه المهم «البحرية»، وكيف استطاع هذا الجغرافي الكبير أن يصل إلى رسم خريطة بهذه الدقة في ذلك الوقت.
كما يوضح ظهور ترجمة فرنسية مختصرة لكتاب البحرية في القرن الثامن عشر، وهو مثال من ضمن أمثلة كثيرة تظهر جليًا اهتمام الأوروبيين بالعلم العثماني ورغبتهم في الوقوف على طبيعته. تناول الحديث عن الجغرافيا أيضًا الجغرافي والفلكي الكبير «سيد علي ريس» وكتابه المهم «المحيط» الذي سجل فيه معلومات عن سبل الملاحة، وطرق تحديد الاتجاهات، واستخدام البوصلة، ومعلومات عن التقويم الشمسي والقمري وغيرها، كما عرّج للحديث عن الرحالة الشهير «أوليا چلبي»، حيث اعتبر رحلته التي سجلها في كتاب «سياحتنامه» فرعًا من فروع علم الجغرافيا المعروف باسم الجغرافيا التاريخية.
أما عن علم الرياضيات فظهر معنا اسم عالِم الرياضيات الجزائري «حمزة المغربي»، وعن علم الفلك نجد هناك حديثًا جيدًا عن الفلكي الكبير «تقي الدين الشامي» ومرصده الذي بناه في إسطنبول في نهاية القرن السادس عشر منافسًا أكبر مراصد أوروبا حينها، وهو مرصد الفلكي الدنماركي «تيخو براهي»، الذي آل مصيره مع الأسف إلى التدمير بسبب جهل فاضح.
ولا ينسى المؤلف تخصيص جزء كبير من الفصل الخامس للحديث عن العالِم الموسوعي «كاتب چلبي» فتحدث فيه عن أهمية الرجل في النصف الأول من القرن السابع عشر – وهي فترة اتسمت بالركود في العلوم التجريبية – ويخصص الحديث عن مؤلفاته الجغرافية دون كتبه التاريخية والتراجمية الأخرى، والتي ابتدأها بالحديث عن كتابه «جِهاننامه» وجهده في تزويده بالخرائط الغربية الحديثة، وكتابه الثاني «لوامع النور في أطلس مينور»، والثالث «تحفة الكبار في أسفار البحار».
القرن الثامن عشر: الفجوة الكبرى
يمثل القرن الثامن عشر غموضًا لدى كثير من الباحثين ويطلق عليه بعضهم اسم «الفجوة الكبرى»؛ وهو أمر يعود لعدم معرفتنا بشكل واضح لطبيعة هذا القرن الذي سبق مباشرة قرن التنظيمات والتغييرات الجذرية في شكل الدولة العثمانية، وهو قرن علم وثقافة وظهرت فيه أولى المحاولات للاحتكاك بأوروبا واقتباس العلوم والنظم منها، فقد ظهر في هذا القرن أول مطبعة «رسمية» للدولة، وتشكلت فيه لجان لترجمة بعض الكتب الأوروبية إلى اللغة التركية العثمانية، وظهرت فيه مؤلفات تدل على معرفة علماء الدولة بما كان حولهم من إضافات علمية، وإن كانت معرفة ضعيفة.
تناول المؤلف في جزء من فصل بالإضافة لفصل كامل الحديث عن القرن الثامن عشر، مما جعل الحديث عن النتاج العلمي لهذا القرن يقترب من ربع حجم الكتاب، وقد ذكر أسماء لمجموعة من المؤلفات المهمة مثل كتاب «معرفتنامه» للعالِم إسماعيل حقي الأرضرومي (ت 1759)، وهو كتاب موسوعي تناول في الحديث عن العلوم التجريبية، كما شَمل فصولًا عن الأخلاق والعلوم الإنسانية.
وتطرق الحديث أيضًا عن طبيب عالِم يُدعى «وسيم بن عبد الرحمن» ترك كتابًا كبيرًا في مجلدين بعنوان «دستور وسيم في الطب القديم والجديد» تحدث فيه عن تطورات علم الطب لدى الغربيين، ويذهب بعض الباحثين لإلى أن هذا العالِم له فضل في اكتشاف ميكروب مرض «السُل»، وقد حوى كتابه أسماء أطباء غربيين مشاهير في عصرهم، مما يدل على سماعه عن نتاج هؤلاء، كما نجد ذكرًا لعالِم الرياضيات الكبير «إسماعيل الجلنباوي» الذي يعتبر آخر عالِم في هذا القرن جمع بين العلم الشرعي والتبحر في علم تجريبي.
ومع إقرار المؤلف بأهمية القرن الثامن عشر من الناحية العلمية، فإنه لم يشر إلى حركة بناء المكتبات الكبيرة التي تمت فيه، والتي ربما يعود سببها إلى عدم توافر المصادر والأبحاث التي تتحدث عن الأمر حينها، ومن المهم التعريج بالقول بأن هذا القرن شهد حركة ذهبية في بناء المكتبات العامة في أنحاء الدولة، فقد اشتهر سلاطين ورجال الدولة في هذا القرن بإنشاء المكتبات، وكان الصدر الأعظم «الداماد إبراهيم پاشا» (ت 1730) واحدًا ممن شجعوا الحركة العلمية الكبيرة في هذا القرن، وقد شهد عهد السلطان «محمود الأول» (1730-1754) إنشاء أكثر من 30 مكتبة عامة في ولايات الدولة كلها بمجموعات من عشرات الآلاف من المخطوطات تشمل العلوم الدينية والإنسانية والطبيعية.
أما الفصل الثامن والأخير فيتحدث فيه عن بدايات القرن التاسع عشر إجمالًا، حيث الاقتباس الكبير من علوم الغرب، وقيام السلطان «سليم الثالث» برعاية هذه الحركة عبر أوامره بتشكيل مجموعة لترجمة الكتب إلى التركية العثمانية وتأسيس المدارس العسكرية الحديثة واستجلاب الأجانب لتنظيم الجيش على أحدث النظم الأوروبية، كما تم في هذه الفترة تأسيس المطبعة الرسمية الثانية للدولة في منطقة «أسكودار» وكانت هذه النظرة هي المنطلق الذي أكمل فوقه السلطان «محمود الثاني» جهوده حتى بداية ما يعرف بعهد «التنظيمات».
ما المميز في هذا الكتاب؟
نستطيع أن نذكر ما يتميز به الكتاب في النقاط التالية:
1. اعتمد الدكتور عدنان على مصادر ومراجع بلغات شرقية وغربية مما أثرى الكتاب بشكل كبير.
2. يرجع المؤلف إلى المراسلات الأوروپية – إن وجدت – للحديث عن واقعة علمية معينة مما يعطي شمولية أكبر في النظرة إلى الحدث، كما يوضح في الأمر نفسه الأهمية التي أولاها علماء الغرب للحالة العلمية في الدولة العثمانية.
3. يشمل الحديث في كل فصل بجانب الكتب التي أُلِّفت، الكتب التي نُقلت من العربية أو الفارسية أو اللغات الغربية في القرن التاسع عشر إلى التركية العثمانية.
4. عرج المؤلف على العلماء والأطباء العرب فذكر منهم مثلًا ابن بهرام الدمشقي الفلكي، والقوصوني المصري الطبيب، وداود الأنطاكي الطبيب.
5. يذكر المؤلف أسماء المخطوطات بأرقامها في مكتبات إسطنبول والمكتبات الأوروپية، وبترجماتها الأوروپية لو وجدت.