إذا كانت التراجيديا (المأساة) هي العنصر الأكثر ارتباطًا بالحياة الأدبية الإغريقية القديمة، والتي استمر تأثيرها فيما بعد، فإن حياتنا اليوم رهينة الهوس بالكوميديا. تطل الكوميديا برأسها عبر كل الوسائط وقنوات الترفيه وحتى التوعية، فثمة عروض الستاند أب كوميدي، والأفلام والمسلسلات، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي المخصصة للنقد الساخر.

في المجتمعات الليبرالية وكثير من الأوساط الناشئة، نجد أن سلطة الدعابة – ومعها الضحك – آخذة في التزايد، تحت مظلة حرية الرأي والتعبير، ما كفل لها تناول كثير مما حرم عليها في الماضي، بصورة استفزازية أحيانًا قد لا تمر دون رد فعل عنيف، تؤكد بعده بعض المؤسسات الدينية والرسمية – بشيء من الرضوخ – تقديرها للحريات، بينما تنادي أخرى بروح دعابة «منضبطة». فهل كانت علاقة الفكر بالضحك هكذا دائمًا؟

الضحك في الديانات التوحيدية

اليهودية: العهد القديم

فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة.
(تك 17:17 )

كان ذلك أقدم ذكر للضحك في الكتاب المقدس، في سفر التكوين، بعدما بشر الرب إبرام (النبي إبراهيم عليه السلام) بالذرية.

قد يتنازع شراح الكتاب المقدس غيرهم من الدارسين في مغزى الضحك هنا، إذ يرى الفريق الأول أنه علامة فرح لا ضعف إيمان، على عكس فريق آخر من غير اللاهوتيين يرى أن ضحك إبراهيم علامة على شكه في النبوءة.

بخلاف مواضع قليلة، يأتي الضحك في العهد القديم تعبيرًا صريحًا عن الاستعلاء من قبل الرب في مواضع، أو عن سخرية العصاة من الرب والأنبياء في مواضع أخرى.

الساكن في السَّمَاوَات يضحك. الرَّبُ يستهزئ بهم.
(مز 2:4)
وأما الآن فقد ضحك علي أصاغري أياما الذين كنت أستنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي.
(أي 30:1)

ويُذكر عن طائفة الأسينيين التي ظهرت بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول الميلاد أنها بلغت من التنسك والزهد في المسرات حد معاقبة أفرادها إذا ضحكوا.

المسيحية: الكنيسة والدير

لم يذكر العهد الجديد حادثة واحدة ضحِك أو ابتسم فيها يسوع المسيح، وإن شمل نحو ستة مواضع شكل الضحك فيها سخرية من يسوع أو بشرى ينالها الصالحون لاحقًا.

طوبى لكم أيها الجياع الآن، لأنكم تشبعون. طوبى لكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون.
(لو 6:21)

يُذكر أن يوحنا ذهبي الفم (347–407) أول من أشار إلى عدم ورود ذكر لضحك المسيح قط، مستشهدًا بذلك على كون النحيب أكثر ملاءمة للحياة الدنيوية، موبِّخًا الضاحكين، مذكِّرًا إياهم بآلام السيد المسيح. في زمن ذهبي الفم، أعلن القديس جيروم (347 – 420) أيضًا أن الضحك سلوك لا يليق بمسيحي. لم يكن ذهبي الفم وجيروم غير حبتين في عقد من اللاهوتيين والكنسيين الذين طالبوا أتباعهم بترشيد الضحك، بل التبسم نفسه أحيانًا.

يأتي ذكر الضحك في أدبيات الرهبنة كنقيصة وشيْن، حاله كحال السباب، واليمين الغموس، والكذب، والغضب، والإساءة للغير. لا عجب من موقف الرهبنة المسيحية من الضحك، فلم يُذكر عن مؤسسها – القديس أنطونيوس الكبير (251 – 356) – أنه ضحك قط. احتفظ بعض آباء الكنيسة بموقف وسطي من الضحك، مثل القديس أوغسطين.

رغم الطابع التنسكي الذي ولجت به الكنيسة إلى العصور الوسطى، فقد شهدت تلك الفترة تغيرًا كبيرًا في موقفها إزاء الضحك. سمحت الكنيسة بالضحك في عيد الفصح تعبيرًا عن السرور بقيامة المسيح، فكان الكهنة يتلون النكات، كما جرى الأمر نفسه في احتفال عيد الميلاد حيث بدأ الكهنة والرعايا في تشارك المزاح والغناء.

الإسلام: النبي والفقيه والفيلسوف

يحتوي القرآن على ذكر للضحك علامة على الاستعلاء/النصر، تارة من قبل المؤمنين وأخرى من قبل الكافرين، إلى جانب آيات تبشر المؤمنين بالضحك إشارة إلى حسن الخاتمة يوم القيامة، وآيات تدل على كونه فعل خلقه الإله وأحله كسائر الأفعال.

وأنه هو أضحك وأبكى.
(النجم:43)

تدل بعض الأخبار على أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كان ضحَّاكًا، مع ميل إلى الانضباط الجسدي، جعل أهل السير يرون في أكثر ضحكه تبسمًا. رغم ورود نصوص أفضى فيها النبي لصحابته بملاءمة البكاء للحياة الدنيا مقارنة بالضحك، إلا أن تلك لم تكن الروح الغالبة على قسم معتبر من سيرة النبي.

لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا.
حديث شريف (بخاري: 6485)

بشكل عام، سيصعب على الفقيه المسلم اتخاذ موقف معاد من الضحك، خاصة مع ورود بعض النصوص تصف الإله ذاته بالضحك سرورًا من عباده، ما سيحمل على نوع من الاعتدال، نجد معه مناهي الأئمة معلقة بالإفراط في الضحك ومباحث الفقه تحوم حول مسائل مثل القهقهة أثناء الصلاة.

يقف المتصوفة المسلمون عامة على الجانب المنادي بضبط المزاح وترشيده، لأنه يؤدي إلى الضحك الذي كثرته «تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار»، فقد ورد أن الحسن أقام ثلاثين سنة لم يضحك. وقد شعر أبو حامد الغزالي بهذا التناقض بين سلوك المتصوفة والسنة النبوية، وحاول أن يبرره:

فإن قلت: فقد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقًّا، ولا تؤذِ قلبًا، ولا تفرط فيه، وتقتصر فيه أحيانًا على الندور، فلا حرج عليك فيه. ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة فيواظب عليه ويفرط فيه.

صنَّف كبار الأدباء المسلمون في الفكاهة دون اعتراض يذكر من المتشرعة، ويقول عبد الغني العطري في كتاب «أدبنا الضاحك»: «راجت سوق الضحك في صدر الإسلام رواجًا عظيمًا، وصار للظرفاء والمضحكين شأن أي شأن»، بل إن بعض الفقهاء سيصنفون في الفكاهة، مثل ابن الجوزي (1116 – 1200) صاحب كتاب «أخبار الحمقى والمغفلين».

تساءل الفلاسفة والأطباء المسلمون عن كنه الضحك ووظائفه، متأثرين بالموروث الطبي والفلسفي الإغريقي. يقول علي بن ربن الطبري (838 – 870) إن الضحك هو نتيجة غليان دم المرء لعجزه عن التفكير بعقلانية إزاء شيء يعترضه فجأة. يذكر ابن إسحاق الكندي (805-873) في إحدى رسائله أن الضحك نتيجة لاعتدال في دم القلب في الصفاء يتزامن مع انبساط في النفس مما يظهر سرورها، وذهب إلى نحو ذلك إسحاق بن عمران.

شارك الأدباء المسلمون في مبحث الضحك، فقد رأى أبو عثمان الجاحظ (776 – 868) أن «الضحك أول خير يظهر من الصبي وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه ويكثر دمه الذي هو علة سروره ومادة قوته». كان الضحك في رأي أبي حيان التوحيدي (922 – 1023) «قوة تنشأ عن تفاعل قوتي العقل والغريزة، حين يرد إليها شيء طارئ يحدث تعجبًا معينًا، يستثير الرغبة في البحث عن السبب والعلة».

بالتزامن مع ذلك، سيبدأ قسطنطين الأفريقي في القرن الحادي عشر – على سبيل المثال – في ترجمة نصوص عربية إلى اللاتينية، وستعقب ذلك الكثير من الترجمات إلى العاميات الأوروبية الأخرى، مثل ترجمة أعمال إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (850 – 932) إلى الفرنسية في القرن السادس عشر من الميلاد.

ستشحذ تفسيرات الفلاسفة المسلمين ونصوص الفلاسفة الإغريق التي حفظوها همة الفلاسفة الأوروبيين وتمنحهم دفعة أولية لاقتحام عدد من المباحث منها الدعابة ومعها الضحك.

الضحك بين يدي الفيلسوف وعالم النفس

بعد الانفراجات المحدودة في موقف الكنيسة الرسمي خلال العصور الوسطى، جاء التطهريون في إنجلترا – في القرنين السادس والسابع عشر – بحملة دموية ضد الضحك والكوميديا. بالتزامن مع تسلط التطهريين، وجه اثنان من أكبر فلاسفة ذلك الزمان، توماس هوبز (1588 – 1679) ورينيه ديكارت (1596 – 1650)، انتقادات قوية للضحك.

ربط هوبز وديكارت الضحك بالازدراء والسخرية والتعالي، مقتحمين معركة الدعابة – ومعها الضحك – بقوة الفلسفة الآخذة في التصاعد آنذاك. يطلق على النظرية التي أيدها هوبز وديكارت نظرية الاستعلاء، وتظهر في بعض تنظيرات أفلاطون وأرسطو، إذ رأيا أن الشخص يضحك من مصائب الآخرين كونها دليلًا على تفوقه.

يعد الفيلسوف الألماني الأشهر إيمانويل كانط (1724 – 1804) أول من نص بوضوح نظرية التناقض في المعنى، إذ قال في مباحثه الجمالية إننا نضحك حين نصطدم بعدم توافق هائل بين المتوقع والمشهود. سينضم إلى كانط في نظريته الألماني المتشائم أرتور شوبنهاور (1788 – 1860) والدانماركي الوجودي كيركجورد (1813 – 1855) مع شيء من التميز في رؤية كل منهما.

في القرن العشرين، سيطرح الفرنسي هنري برجسون (1851 – 1940) نظريته التي ستعرف بالنظرية الآلية، قائلًا إننا نضحك لرؤية كائن حي – خاصة الإنسان – يتصرف بآلية/ميكانيكية رغم افتراض العكس، سواء كانت تلك الصلابة الآلية في الجسد أو الطبع أو الفكر.

في حين رأى عالم النفس البريطاني جيمس سولي (1842 – 1923) أن الضحكة ابتسامة تطورت ونمت، تعبر عن اللذة والمتعة، نجد أن مواطنه وليم مكدوجل (1871 – 1938) قد استنكر ذلك، قائلًا إن ما يثير الضحك هو أمر غير سار كان ليسبب مزيدًا من الضيق والضرر إن لم يتم الضحك، هذا إلى جانب الوظائف الفسيولوجية والسيكولوجية الأخرى التي رآها مكدوجل في الضحك.

يرى سيغموند فرويد (1856 – 1939) بشكل عام أن الضحك آلية للتنفيس عن الطاقات النفسية المكبوتة ولولاها لانفجر الإنسان من الضغط. لقد تحدى المجتمع النفسي في بداية القرن العشرين صورة العقل الموروثة عن عصر التنوير.

لاحقًا، سيشهد منتصف القرن تحولًا جذريًا إلى نظرة علمية شاملة للعقل ترفض المفاهيم القديمة بما فيها المفاهيم الفرويدية المهيمنة آنذاك. سيعزز تلك النظرة لاحقًا تقنيات التصوير المقطعي، إذ سيتمكن الباحثون من مراقبة عمل الدماغ في الزمن الحقيقي.

هل تكتم يد العلم الضحكة؟

في الوقت الحالي، بعدما تعاظمت سلطة الضحك، انقسم الخاصة والعامة فرقًا حول ما يجوز اتخاذه موضوعًا للضحك وما لا يجوز. على أقصى اليسار، توجد فرقة تعارض الدعابة اللاذعة غير الأخلاقية التي تتخذ الأقليات – على سبيل المثال – موضوعًا للسخرية وتحرض عليهم ضمنيًّا، وهي دعابة قد يدافع عنها فريق آخر تحت اسم حرية التعبير.

يعرض عالم الأعصاب الأمريكي سكوت وييمس في أحد كتبه أحد أبرز الحجج العلمية التي يتبناها أعداء الضحكة المتحررة، وهي أن الدماغ لا يوظف ملكاته النقدية لمعالجة محتوى النكات، فالناس عادة لا يطرأ على بالها سؤال الصدق والكذب أمام النكات، إلا أن الدماغ يعالج المعلومة كما يفعل مع أي ذكرى أخرى.

في حالة النكات المضحكة، يستوعب الناس تلك المعلومات في أدمغتهم ويربطونها أيضًا بمشاعر الفرح لتكتسب حظوة لديهم، بغض النظر عن مضمونها. فهل تشهد الضحكة تراجعًا على يد العلم بعدما ارتفعت يد الدين عنها منذ فترة من الزمان؟