تاريخ الحشيش في مصر
عادة ما يُهمل السياق التاريخي في متابعة وحل مشكلة إدمان المخدرات رغم أهميته، ويتم التركيز في المقابل على السياق البيولوجي، النفسي، الاجتماعي وكذلك الروحاني Biopsychosocial spiritual model.
ولذلك أردت في هذا المقال إلقاء بعض الضوء على السياق التاريخي لمشكلة الحشيش.
ففي عهد المماليك كان شرب الحشيش منتشرًا جدًا، لدرجة أزعجت السلطان بيبرس بشدة، فأمر بمحاربة الحشيش ومعاقبة من يتعاطاه من الناس.
في هذه الفترة كانت مصر تواجه الخطر الصليبي وخطر التتار في آن واحد، ولاحظ السلطان بيبرس حالة التكاسل واللامبالاة والانهزامية عند الناس، فضلًا عن انتشارهم في الطرق والأزقة وهم منتشون تحت تأثير مخدر الحشيش!
حين مات السلطان بيبرس، انتشر الحشيش مرة أخرى، ونشط العلماء وأخذوا يحذرون منه، ويقرنونه بالخمر في الحرمة وفي علّة السُكر، بل كتب بعض العلماء أن خطورة الحشيش أشد من الخمر.
أما الأطباء مثل ابن سينا، والصيادلة مثل ابن البيطار، فكان لهم كلام عجيب في أضرار الحشيش النفسية والجسدية، لدرجة أن بعضهم كتب 100 ضرر من أضرار الحشيش!
من أشهر الرسائل التي كُتبت عن الحشيش: «زهر العريش في تحريم الحشيش» للزركشي؛ وهو فَقِيه وعالم شافعي، لكنه استعان برأي الأطباء كابن سينا والصيادلة كابن البيطار، في الكلام عن مضار الحشيش.
من الأمور العجيبة، أن أحد أمراء المماليك، جاء بعد وفاة السلطان بيبرس بفترة، واسمه سودون الشيخوني، كان قد اتخذ موقفًا في غاية الشدة تجاه التجار والمتعاطين، وأمر بخلع ضرس من يثبت تعاطيه للحشيش؛ لما رآه من حالة انتشار كبير لشرب وتعاطي الحشيش بين الناس.
المؤرخون المعاصرون لهذه المشكلة اهتموا جدًا بها وكتبوا عنها، خصوصًا المقريزي في كتابه الشهير «الخطط والآثار». عاش المقريزي في القرن الثامن الهجري، وذكر شيوع تعاطي الحشيش بين الطبقات الدنيا، وكان اسمها «حشيشة الفقراء»، وتكلم عن مكان في مصر اسمه «أرض الطبالة»، وقال عنه: «فيه بقعة من أخبث بقاع الأرض يطلق عليها الجُنينة (تصغير جنة)، وتعرف ببيع الحشيش، ويتعاطاه أراذل الناس»، هذا كلام المقريزي.
ويقول: «وقد فشت هذه النبتة الخبيثة فشوًا زائدًا، وولع بها أهل المجون والخلاعة، وتظاهروا بها من غير احتشام».
أما ابن البيطار، فكان من أكبر صيادلة عصره، وكان معاصرًا لهذا الزمان، فيقول: «ومِن القنب الهندي نوع ثالث يقال له القنب، ولم أره بغير مصر، ويزرع في البَساتين (منطقة البساتين)، وتسمى الحشيشة أيضًا، وهو يُسكر جدًا إذا تناول منه الإنسان يسيرًا قدر درهم أو درهمين، حتى إن من أَكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة، وقد استعمله قوم فأخلت بعقولهم (بمعنى ذهبت بعقولهم أو يُقصد بها الذهان) وربما قتلت».
عندما أجد بعض الشباب يدخن الحشيش، وأسأله كعادتي: يا ترى بتشرب كحول ولا لأ؟!
فيجيبني: لا! أنا مانجسش نفسي بالخمرة!
الحقيقة هذه الكلمة سمعتها آلاف المرات من الشباب المدمنين.
عندما تسأل أحدهم: يا ترى أخبار شرب الكحول إيه؟
ينتفض وكأن أصابته الكهرباء، ويقول: لا أنا ماليش في الخمرة.
الخمرة حرام.. دي نجسة!
(طبعا مع الأخذ في الاعتبار النسق الاجتماعي).
نعود إلى السياق التاريخي..
فأول ظهور للحشيش كان في القرن الخامس الهجري تقريبًا، على يد فرقة الحشاشين، وهي فرقة مشهورة بالقتل وأعمال التخريب في بلاد المسلمين، وكانت الاغتيالات طريقتهم المفضلة في التعامل مع خصومهم، وكانوا يسكنون في القلاع الحصينة على تلال الجبال.
لكن لم ينتشر الحشيش بين عموم الناس إلا في القرن السابع الهجري، وأول ما اشتهر كان بين الفقراء والدراويش، وكان يطلق عليه «حشيشة الفقراء»، لأن بداية ظهوره كانت على يد أحد الدراويش، هو الشيخ حيدر.
كان أول من اكتشفه، وطلب من أصحابه كتمان سر هذا النبات إلا عن الفقراء، وكان يقول عن الحشيش: «لقيمة الذكر والفكر، تُحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في الطريق» (يقصد طريق السير إلى الله!)، أخذ الحشيش في التوغل إلى باقي فئات المجتمع.
الذي شجع على انتشاره بين الفقراء وعامة الناس، أنه لم يرد فيه نص صريح مثل الخمر، فشجع هذا كثيرًا من الناس على تعاطيه.
ظهر خلاف بين العلماء هل الحشيش حرام أو لا؟
وهل هو نجس مثل الخمر؟
وهل يُحَد شاربه مثل شارب الخمر؟
وظهرت فتاوى كثيرة، وألفت رسائل كثيرة أيضًا للنظر في هذه المسألة.
من قال من العلماء بتحريم الحشيش، وهم غالبية علماء العصر الكبار، قالوا إن الحشيش كالخمر في تأثيره على متعاطيه، وأن متعاطي الحشيش يشتهيه كما يشتهي الخمر، إضافة لمفاسده الأخرى.
واستدلوا بحديث النبي، صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» [رواه مسلم].
العلماء قالوا إن هذا ينطبق على الحشيش لأنه يُخامر العقل، أي يغطي على العقل، وقالوا كذلك إن علة التحريم موجودة في الحشيش كما هي موجودة في الخمر، ألا وهي علة الإسكار أو السُكر أو الانتشاء، وقالوا إن التحريم للجنس المُسكر.
ابن القيم زاد في التوضيح وقال: «يدخل في تحريم المُسكر كل مسكر سواء كان مائعًا (كالخمر)، أو جامدًا (كالحشيش والأفيون)، عصيرًا كان أو مطبوخًا، فيدخل فيه عصير العنب وخمر الزبيب والشعير والعسل والحنطة (القمح)، واللقمة الملعونة (يقصد الحشيش)»، ويقول: «فإنها لقمة الفسق التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن!»
كأنه يرُد على كلام الشيخ حيدر السابق ذكره!
وبالرغم من أن العلماء قديما وقفوا على أضرار الحشيش – كما تقدّم في كلام ابن البيطار الذي عدّد حوالي ١٠٠ تأثيرا ضارا للحشيش ومنها الذهان – إلا أن علاج إدمان الحشيش قديما، كان مقتصرا على مجرد الامتناع عن تعاطيه وتعظيم حرمته وإقرانه بالخمر، ولم تتضح أُطر وسائل علاج إدمان الحشيش إلا في العصر الحديث، والتي تعتمد في الأساس على:
١- العلاج التحفيزي Motivational Interviewing - MI:
أي تحفيز وزيادة دافعية متعاطي الحشيش للعلاج.
٢- العلاج المعرفي السلوكي:
ويعتمد على تصحيح الأفكار؛ أي التعرف على المثيرات الداخلية والخارجية وكيفية منع الانتكاسة من إدمان الحشيش.
٣- مجموعات الدعم الذاتية.
علمًا بأن علاج إدمان الحشيش ليس له علاج دوائي متخصص، والعلاجات والأدوية المستخدمة وظيفتها معالجة الأعراض الانسحابية النفسية أو العضوية للحشيش.
كتبه د. عبد الرحمن حماد – الرئيس التنفيذي لمستشفى إيوان للطب النفسي.