جولة في متحف فرسان الطب
هذا المقال يُنشر ضمن مسابقة «إضاءات» وأسبوع العلوم المصري للمقال العلمي/التقني.
الآن تنصت لصوت خفقات قلبك المتصاعدة في صافرات تدوي من جهاز ما بالجوار متصل بمشبك وضعوه على إصبعك مع تلك البرودة الخفيفة تسري في أوصالك الممدة على الطاولة وذلك الوهج يغشى بصرك من مصدر الإضاءة الضخم المعلق في سقف الغرفة المخيفة، إنها غرفة العمليات.
سواء كان حادث سير أو سرطاناً أو زائدة دودية ملتهبة، فإنه من المرجح أن تخضع لمبضع الجراح يوماً هو ليس بالضروري أن يكون احتمالاً مخيفاً فإننا نتمتع اليوم بمزايا عدة في مجال التقنيات الجراحية تطورت على مدار مئات السنين وغيرت وجه العالم.
لعلك لم تكن تتخيل يوماً أن مسرح العمليات كان يقع في مركز أي مشفى بجوار المشرحة مباشرة معزولاً بسياج سميكة عن العامة في الخارج لمنع وصول صراخ المرضى في الداخل ولتيسير حركة الجراح بين غرفة العمليات والمشرحة المستمرة حيث كان أغلب المرضى الذين يجرون عملية جراحية يتوفون على إثرها[1].
في القرن الـ16 وضع حجر زاوية مهم جداً في عالم الجراحة طبيب غريب الأسوار يسمى أندرياس فيزاليوس، إنه الرجل الذي لم يأنف من أن يحضر الجثث الآدمية خفية وأن يشرحها سراً للتعرف على أجزاء جسم الإنسان، حيث كان حتى هذا الزمن من الممنوع اقتحام حرمة الموتى بتشريح جثثهم وكانت معظم معلومات الأطباء عن تشريح جسم الإنسان مستقاة من التشريح المناظر لأجسام الكائنات الحية الأخرى التي بالطبع كانت تحتوي على الكثير من الأخطاء فيما يخص الجسد البشري.
كان فيزاليوس طبيباً عبقرياً ولقب بأبي التشريح الحديث بفضل تأليفه لتحفته الفنية كتاب «بنية الجسد البشري» عام 1543م الذي صحح فيه أكثر من 200 خطأ تشريحي كان معتقداً منذ زمن جالينوس، وقد برز أحد مواضع عبقريته في بلاط الملك الإسباني فيليب الثاني 1562م حيث أصيب ولي العهد الوحيد (الدون كارلوس) بصدمة في رأسه أدخلته في غيبوبة، واقترح فيزاليوس اقتراحاً مخيفاً وهو صنع ثقب في جمجة ولي العهد بواسطة قضيب من المعدن ملتهب في مكان الكدمة.
وبعد فشل ذريع للكهنة وأطباء البلاط ومحاولات الاتصال بالجن والشياطين وتقريب القرابين وتطهير الأمير من الأرواح الشريرة، اضطر الملك للامتثال لاقتراح فيزاليوس، وتمت المحاولة وتم ثقب جمجمة الأمير وخرجت منها كمية من الصديد والدماء السوداء، وبعد فترة وجيزة بدأت تتحسن حالة الأمير وسط إعجاب وانبهار الجميع، وتبجيل من الملك على وجه الخصوص.
وكان الملك فيليب الثاني من أكثر ملوك إسبانيا توسعاً في النشاط العسكري حاملاً لواء التزمت الكاثوليكي وقسوة محاكم التفتيش التي اتهمت فيزاليوس نفسه بالهرطقة لاحقاً، وأدار الكثير من المعارك سواء في البلدان المجاورة مثل البرتغال التي ضمها لمملكته أو التوسع الاستعماري في الخارج، وقد خلد اسمه دولة الفلبين التي سميت جزرها تيمنا باسمه على أيدي المستكشفين الإسبان في هذه الفترة قبل أن يستعمروها عسكرياً[2].
ولم يقتصر سعار الحروب على مملكة إسبانيا فحسب، ففي ذلك العصر المظلم انتشرت الحروب الدينية في أوروبا، ومع تطور وتنوع وانتشار أسلحة فتاكة جديدة مثل البنادق والمدافع بدأت تلوح في الأفق تحديات جديدة في عالم الجراحة مع ظهور أنواع إصابات بالغة غير مألوفة بأعداد غير مسبوقة وبدأ يتعامل الأطباء مع أبرز سبب للوفاة في الإصابات بشكل مروع وهو النزيف.
الطرق البدائية لإيقاف النزيف كانت تعتمد على كي الجرح النازف بمعدن ملتهب، ولكن مع اتساع حجم الجروح وكثرتها وصعوبة السيطرة على النزيف منها تم ابتكار استخدام الزيت المغلي كبديل عن المعدن ليغطي مساحة ضخمة وتستمر حرارته المرتفعة لفترة أطول تأثيراً على الأنسجة الحية، وفي بعض الأحيان عندما يتعذر إيقاف النزيف مع كل ذلك يتم اللجوء لبتر العضو النازف.
مع حروب القرن الـ16 في أوروبا، انتشرت عمليات بتر الأطراف لإيقاف النزيف على جبهات المعارك بشكل غير مسبوق وبرع في هذه العمليات الحلاقون الذين تم إرسالهم على جبهات المعركة، فإجادتهم لاستعمال الأدوات الحادة مكنتهم من التعامل مع الإصابات بشكل أكثر فعالية وسرعة، واستمر ذلك لفترة طويلة حتى تم التوصل لطريق أفضل وهو طريق القبض على الشريان النازف وربطه بالخيوط الجراحية في وقت لاحق[3].
حتى ذلك الوقت ظلت أيدي الجراحين مكبلة ونتائجها تفضي للموت في أغلب الأحيان وذلك لأن المريض إن لم يمت من النزف فإنه يمت من شدة الألم، وإن لم يمت منه فسيمت لاحقاً بسبب تلوث الجرح. وخلال الـ300 مائة سنة اللاحقة، اكتشف إسحاق نيوتن قوانين الجاذبية، واخترع مايكل فارادي الموتور الكهربي، وغيّر بيتهوفن مفهومنا عن الموسيقى الكلاسيكية.
ثم جاء دور الجراحة في القرن الــ19 عندما بدأت الثورة الصناعية تغير العالم، صاح هدير ماكينات العصر الفكتوري التي تسببت في أشكال جديدة من الإصابات الهائلة ودفع ذلك الجراحة قسرًا للتطور السريع مرة أخرى. لم يكن يملك الجراح طريقة لإيقاف إحساس المريض بالألم أثناء الجراحة سوى مهارته في سرعة إنهاء الجراحة، فكلما كانت مدة العملية أقصر كانت أهون على معاناة المريض، وزادت فرصة المريض على البقاء على قيد الحياة، وفي هذه المهارة تبارى الجراحون لإثبات كفاءتهم، ومن أبرزهم في ذلك كان الجراح الاسكتلندي روبرت ليستون الذي كان يقوم بإجراء عملية بتر الساق في 3 دقائق.
كان فقط سيئ الحظ في إحدى عملياته لإجراء بتر بالساق، حيث إنه قطع أصابع مساعده بالمنشار عن طريق الخطأ مع سرعته الشهيرة في الإجراء وفي غضون أيام توفي المساعد بسبب تلوث الجرح من المنشار الملوث ولنفس السبب أيضاً توفي المريض الذي أجريت عليه الجراحة ولم يقف سوء الحظ عند هذا القدر فحسب، فأثناء الجراحة نفسها إنهار أحد المتابعين للجراحة في نوبة قلبية من بشاعة هول الموقف وتوفي على الفور، في هذه الجراحة سجل ليستون رقماً قياسياً وهو معدل وفيات 300% في حالة واحدة.
على الرغم من براعة ليستون لم تحفل به اسكتلندا كثيراً أو تبني له تمثالاً كما فعلت مع زميلة الاسكتلندي المتأنق جيمس سيمبثون الذي يعود إليه فضل إنهاء هذه الحقبة الرهيبة من الألم في 1847م مع اكتشافه إمكانية استخدام مادة الكلوروفورم كوسيلة لإفقاد المريض وعيه أثناء الجراحة فلا يشعر بالألم وإن كان في أحوال كثيرة كان لا يفيق المريض من الكولورفورم أبداً.
راج استخدام الكولورفوم بشكل واسع في مجال عمليات الولادة خاصة بعد أن استخدمته الملكة فيكتوريا أثناء ولادة ابنها سنة 1853م، وواجه سيمبثون معارضة شديدة من رجال الدين آنذاك حيث كان تصورهم أن ألم الولادة أمر مقدس من واجبات الأمومة ولا يصح محاولة تفاديه حتى رد عليهم سيمبثون نفسه بأدلة من الكتاب المقدس تنفي زعمهم فعرف حينها بلقب «الطبيب المؤمن».
وكما تعلم أطباء النساء والتوليد استخدام الكولورفورم من الجراحة، تعلم الجراحون أيضاً من النسا والتوليد أمراً في غاية الأهمية على يد طبيب النساء والتوليد الشهير «أجناتس سيملفيس» عام 1847 حتى إنهم لقبوه باسم «منقذ الأمهات» لأن اكتشافه أنقذ آلاف الأمهات من الموت الحتمي بحمى النفاس بعد الولادة.
اكتشاف د. أجناتس هو أنه يجب أن يغسل الطبيب يديه بالماء والصابون قبل أن يبدأ عملية الولادة! واكتشف أن هذا السلوك النظيف أدى إلى انخفاض معدل الوفيات من حمى النفاس التي كان يصاب بها معظم النساء بعد الولادة بسبب انتقال العدوى إليهن من أيدي الأطباء الملوثة.
في عالم دون الميكروسكوب كان من الصعب تخيل وجود كائنات دقيقة لا ترى بالعين المجردة قد تسبب العدوى، حتى جاءت اكتشافات لويس باستير وروبرت كوخ في أواخر القرن الـ19 لتثبت وجود الكائنات الدقيقة ودورها في نقل الأمراض وبدأ البحث الحثيث في كافة المحاولات الممكنة للقضاء على هذه الكائنات التي كان منها في أواخر القرن الـ19 اكتشاف جوزيف ليستر أن تعقيم الأدوات الجراحية بحمض الكاربوليك يقلل من احتمالات إصابة المرضى بتلوث الجرح بعد الجراحة.
مع مطلع القرن العشرين، اندلعت الحرب العالمية الأولى لتدفع العالم نحو الابتكار والاختراع في كل المجالات مع الحاجة الشديدة والصراع على كل الأصعدة، فالأمر بسيط إما أن تخترع أو تموت، وعلى إثر ذلك الوضع برزت للسطح اكتشافات جراحية في غاية الأهمية مثل نقل الدم الذي كان ابتداء عن طريق خياطة شريان المتبرع بوريد المريض مباشرة، وجبيرة توماس لكسور الفخذ ونظام «التراياج» المعمول به حالياً في المستشفيات لتصنيف حالات الإصابات الجماعية، وماكينة التصوير بالأشعة السينية المتنقلة التي ابتكرتها ماري كوري لتشخيص الكسور على الجبهة وغيرها.
ولم يلبث العالم طويلاً حتى خاض جحيم الحرب العالمية الثانية التي لعبت الابتكارات الطبية فيها دوراً حاسماً في انتصار الحلفاء مثل استخدام البنسلين الذي اكتشفه الكسندر فلمنج في 1928م في علاج تلوث جروح الجنود المصابين على الجبهة، وهو العلاج الذي تطورته شركة جلاكسو البريطانية الشهيرة كعقار طبي وذلك بالإضافة إلى مستحضرات السلفا كمضادات حيوية التي تم اكتشافها مع أتون الحرب أيضاً وفيها استخدم لأول مرة مروحية الإسعاف الطائر وأول جراحة قلب مفتوح وآلية الغسيل الكلوي غيرها من الابتكارات[4].
اليوم وبعد أكثر من نصف قرن من الحرب العالمية الثانية حقق الجراحون المعجزات، زرعوا الأعضاء وأعادوا توصيل الأطراف المبتورة، ووضعوا أجهزة الكترونية في نسيج الدماغ لتنظيم إشارات المخ الكهربائية، وأجروا جراحات عن بعد عبر المحيط باستخدام الروبوت وصنعوا أعضاء من الخلايا الجذعية.
ولكن مع كل اكتشاف للأمام تظهر تحديات جديدة يعكف عليها الجميع ويبذلون جهدهم لكسرها فمن السرطان المتشعب في الأعضاء الرئيسية للبكتيريا التي تقاوم جميع المضادات الحيوية وصولاً بمحاولات تصحيح جينات المريض المؤدية لمرضه في المستقبل قبل أن يمرض.
عبر التاريخ لم يعرف الجراحون حدوداً، خاضوا غماراً لم يجرؤ أحد على تصورها قبلهم، بقلوب كالجبال وأعصاب حديدية وتجلد أعيا الزمان قد غيروا وجه التاريخ، إنهم حقاً فرسان الطب.
- Richard Hollingham – Blood and Guts. A History of Surgery -2008
- جمال حمدان – استراتيجية الاستعمار و التحرير
- عيسى إسكندر المعلوف – تاريخ الطب عند الأمم القديمة والحديثة
- Gordon, Richard – Great Medical Disasters