تاريخ المغفلين
فى بداية عام دراسي جديد، دخل المعلم فصله، مشمرا عن ذراعي قميصه، يمسك عصاه بيده وفي الأخرى أجندة سوداء اللون، منتصب القامة مرفوع الرأس، بصوت جهوري يعلن عن نفسه وتخصصه لطلابه، الأستاذ أحمد عبد الرحمن مدرس أول مادة التاريخ، مختصر الكلام عن نفسه في اسمه مستثمرا الكلام عن أهمية التاريخ ودراسته، فمن لم يكن له تاريخ ليس له حاضر ولا مستقبل، ففي التاريخ يكمن بداية الحاضر ومقدمات المستقبل، معرجا بالحديث عن أهم الملاحم التاريخية في تاريخ الأمة الإسلامية والمصرية، فمن درة الحروب التي حرر بها صلاح الدين القدس القائد الإسلامي العظيم إلى بناء مصر الحديثة ثم حرب العزة والكرامة في السادس من أكتوبر 1973 وبطل الحرب والسلام الراحل أنور السادات.
بصوته القوي وكلماته الرنانة وما يمتلكه من حسن البيان وبلاغة اللسان يضفي على الحديث إثارة وافتخار بتاريخ أمتنا وبلادنا، وقد انتهى الدرس، ثم انتهت الدراسة وأصبحت التلاميذ آباء وأجداد ولما يتعلموا بعد، فقد امتلكوا حصيلة عظيمة من الشعارات العامة تجل الملوك والحكام الذين مروا على هذا البلد وتصف تاريخنا وتراثنا بأعظم الكلام والعبارات، يرددونها بافتخار، فلا تجد في مقبرة عقله ذكرى أكثر وضوحا عن التاريخ غير أن صلاح الدين محرر القدس ومنقذ العرب، وأن محمد علي مؤسس مصر الحديثة والسادات صاحب نصر أكتوبر ولولا تآمر الغرب علينا لكنا أول الأمم، ولكننا نظل ناقلين مرددين لهذه العبارات، نتناقلها متفاخرين ومحافظين على بث وترسخ مدى أهمية الأمة المصرية على العالم والوجود.
لا نحتاج تدليلا على كوننا من أكثر الشعوب فخرا بماضينا في حديثنا عن الماضي في كل شيء، فما أن تفتح تلفزيونا أو تقرأ صحيفة إلا وتجدنا لا نكف عن تذكير أنفسنا والآخرين بأننا نمتلك أفضل وأمجد تاريخ أمة على مر العصور، وكفى أن نؤكد مرارا وتكرارا «مصر أم الدنيا» نتناقلها بكل سهولة وابتهاج، مؤمنين بمعناها الذي لا يعني شيئا إلا أننا محليو التفكير وقصرو النظر وشديدو الانغلاق، والحق أن كل مردد هذا الكلام مكانه الطبيعي هو متاحف التاريخ، إلى أن يدلل أو يثبت ما يدعيه.
من المؤكد أن لنا ماضيا ثريا وفريدا له ظروفه وامتداده على مر العصور شواهده موجودة حتى الآن، ولكن أن نظل أسرى سجون الماضي سميكة الجدران، والفهم البدائي لصفحات التاريخ والتراث والاقتصار على النظرة الجزئية لأحداث التاريخ التي تنتج مشاهد تاريخية مشوهة لا تتفق مع الواقع تماما.
ولكن إذا أردتم أن نلتحف بالماضي ونتغنى بالتراث فعلى الأقل تعلموه واقرأوا عنه ولا تكتفوا بهذه العبارات المتخلفة التي تحكي لنا ما أراد أن يقوله الملوك والسلاطين عن أنفسهم، ويزيفوا الحقائق ليقدسوا حكمهم ويحفظ في كتب التاريخ ذكرهم، وتناقله ألسنتنا دون مراجعة أو تعقل فننزلهم منزلة الأنبياء والقديسين، صفحاتهم بيضاء لامعة، ولا نكتفي بل نزيد عليها ونغدق عليهم الألقاب والمديح ونقدس سيرتهم وتاريخهم، ونحلف بحياتهم، ونتمنى لو يبعثون من التراب مرة أخرى.
فقر واقعنا ما يدفعنا للافتخار الحماسي، والأمر يصل إلى حد عقدة نفسية عقلية، فإذا كان لنا ماضٍ وتاريخ خاص فهل هذا يعني أن الأمم الأخرى لا تاريخ لها، فهل هذا يعني أننا المحور الأساسي للكون والوجود لكي نكون أم الدنيا أو خالتها، ويبقى السؤال الأهم والأكبر فإن كان أجدادنا صنعوا تاريخا مميزا فأين نحن منه الآن؟! فمن غير الطبيعي ألا يكون هناك توازن بين الفخر بالماضي والانشغال بصناعة الحاضر والمستقبل، فلا شك فى وجود خلل ذهني عميق يجعلنا نقيم في ماضي الأجداد، ويصرفنا عن الانشغال بواقع حاضرنا وصناعة مستقبلنا، فلا تحتاج للتدليل على أن الحياة المعاصرة لم نشارك فيها إلا بالقليل فقط، انظر حولك وسترى بنفسك، فللأسف معظم إنجازات عصرنا، مادية أو فكرية، من أعمال الآخرين، فقد أنتج الآخرون ونحن استخدمنا، وصنعوا ونحن لبسنا وركبنا، أو حارب الآخرون ونحن نسدد فواتير الرصاص، فلا يسعني إلا أن أذكركم وأذكر نفسي بقول العقاد رحمة الله عليه: