تاريخ من الغناء الملفق: «مجدي نجيب» وتجربته مع «منير»
في إحدى الندوات التي أقيمت لأحد الشعراء في دار «ميريت» للنشر سئل عن أكثر مطرب فهم كلماته وناقشه فيها فأجاب: «لا أحد»، واتهم المطربين بالغباء الفكري. وعندما باغته أحد الحضور وذكر اسم مطرب بعينه فأجاب الشاعر ممتعضا بأنه كان أكثرهم غباء.
هناك عدة مشاريع فنية كانت الكلمة عامل أساسي في نجاحها. وهناك عدة تجارب فنية قامت بمحاوله نقل شعر العامية من دواوينه المرصوصة على الأرفف، إلى الغناء وخلق مجال واسع من التنافسية على اختيار أفضل الأشعار العامية لكي يتم الاستعانة بها. وكانت أحد أهم تلك التجارب هي تجربة المطرب «محمد منير» والتي كانت الكلمة عاملا مؤثرا في نجاح هذه التجربة ككل.
كشأن أي تجربة، لم تخل تجربة منير من بعض الضعف الفني، ولم تكن كلها قوية على المستوى الشعري، بل هناك في تاريخ منير أغنيات كثيرة تندرج تحت بند «الغناء الملفق» حيث لا فكرة ولا مضمون، وهى تتمثل في تجربة منير مع بعض أغنيات الشاعر والرسام «مجدي نجيب»، وهو بالمناسبة نفس الشاعر الذي اتهم المطربين بالغباء الفكري.
اللقاء مع محمد منير
تجربة مجدي نجيب في الستينات والسبعينات كانت تجربة غنائية مباشرة جدا خلفت وراءها أغنيات سهلة وبسيطة على المتلقي. ويتضح هذا في أغنيات مثل «تعالى شوف» لفايزة أحمد، و«أوعدك» لسعاد محمد، و«جاني وطلب السماح» لصباح، و«كامل الأوصاف» لعبد الحليم حافظ. لم يجنح مجدي نجيب في تلك الأغنيات إلى السيريالية أو الغموض الذي كلفه رفض بعض المطربين المغامرة بغناء بعض أشعاره، تلك الأشعار التي غناها منير لاحقا.
كان الشاعر الراحل «عبد الرحيم منصور» هو أول من قدم منير لمجدي نجيب ممتدحا منير بأنه الوحيد القادر على غناء أغنيته «القدس» التي رفضها بعض المطربين ممن تعامل معهم نجيب.من هنا بدأ المشوار الفني مع منير الذي وصل لأكثر من عشرين أغنيه سطرها مجدي نجيب بداية من ألبوم (بنتولد 1980م)، وحتى ألبوم (طعم البيوت 2008م).
تجربة مجدي نجيب مع منير أخذت طابعا سرياليا يحوي الكثير من الطلاسم والألغاز التي تحتاج إلى تفكيكها لمعرفة ما هو مضمون العمل الذي كتبه مجدي نجيب، وما علاقة الصور واللوحات الشعرية التي رسمها على هيئة كلمات بمضمون الأغنية. وهنا يثار السؤال؛ هل التعاون بين مجدي نجيب ومنير جعله يميل إلى الغموض ومحاولة إضفاء بعض العمق على إشعاره في محاولة منه لمواكبة عمالقة شعر العامية ممن غنى لهم منير أمثال «فؤاد حداد»، و«عبد الرحيم منصور»، و«سيد حجاب»، حتى لو كلفه هذا تحطيم المضمون الشعري؟ وهل كتب تلك الأغنيات خصيصا لمنير؟ ولماذا لم تظهر مع مطربين آخرين؟
الأغنيات الغامضة
سؤال (من ألبوم بنتولد 1980م)
أولى أغنيات مجدي نجيب مع محمد منير في ثاني ألبوماته (بنتولد)
شطرات متلاحقة من الأسئلة مع التأكيد الشعري على كلمة (بسألك) بدون معرفة من الذي توجه إليه هذه الأسئلة، هل هو الزمن، أم الحبيب، أم أن الشاعر يوجهها إلي ذاته. مجرد حالات غامضة من الأحزان والحنين والعذابات والأحلام، واللعب على وتر الحزن المفرط، ونواح واستسلام في انتظار إجابة. وبنهاية الأغنية لم نعرف أيضا من المفترض أن يجيب على تلك الأسئلة في اجتزاء للحالة بأكملها.
ممكن (من ألبوم ممكن 1995م)
هذه الأغنية هي إحدى جدليات مجدي نجيب مع منير من حيث اجتزاء المعنى وغموضه، فقد تبدو موسيقى الأغنية جيدة بعض الشيئ أما بخصوص الكلمات فالمعنى لا يزال غير مفهوم ويقبع بعيدا جدا في بطن الشاعر.
مقدمه الأغنية سمعها منير بصوت «وجيه عزيز» في إحدى الجلسات وقرر غنائها لإعجابه باللحن. والمقدمة تبدو متزنة ومتسقة مع أجواء الهروب من الحزن أما بقية الكوبليهات تشعر وكأنك تستمع لأغنية أخرى.
«شكلني بطعم الأفراح – لوني بلون التفاح – وبطعم المانجة وكمانجة – اعزف لي ع الجرح ارتاح.»
صيغة الأمر مبهمة جدا في هذا الكوبليه فلا تعرف لمن يوجه الكلام. كما أن التنويعة التي صاغها مجدي نجيب هى تيمة الفرح ونقيضه الحزن، وما بين إرهاصات بداية الأغنية التى ادخلتنا في جو مقاومة الحزن، تركنا نحاول فك طلاسم هذا الهروب بطريقة لم تعبر عن السياق بقدر ما هي كلمات مقفاة تحمل في ظاهرها العمق وفي باطنها المجهول.
« مشيني على كفوف الراح – نسيني لو حلم وراح – واشمعنى المعنى بيعرفني – لو باتت في قلوبنا جراح.»
استخرج من الكوبليه ما المقصود بـ«اشمعنى المعنى بيعرفني لو باتت في قلوبنا جراح». هذا الكوبليه تحديدا، وعلى الرغم من احتفاظه بنفس وزن وقافية الأغنية، إلا أنه في تسجيل صوتي لمجدي نجيب لم يذكر هذا الكوبليه، الذي جاء أيضا بعيدا عن فكرة الأغنية بل زادها غموضا بالشطر «اشمعنى المعنى بيعرفني لو باتت في قلوبنا جراح». وقد يرجح هذا فكرة إضافة هذا الكوبليه للأغنية من قصيدة أخرى.
من أول لمسة ( ألبوم من أول لمسة 1996م)
هذه الأغنية من أكثر الأغنيات الغامضة في تاريخ الغناء المصري من حيث الفكرة. فبالرغم من أن كلماتها مباشرة ولم تجنح إلى أي إسقاطات رمزية نهائيا إلا أن موضوع الأغنية ظل مجهولا وغامضا.
جمل قصيرة مباشرة بلا أي ترابط يوضح الفكرة الغامضة التي قد نلمح في الكوبليه الأول أن الشاعر يبحث عن طوق نجاة أو عن الخلاص أو التغيير اختر ما شئت (صابر صبرني – أوعى تحيرني – شارد صحيني – نسيني شرودي – تسبقني وعودي من أول لمسة) ونلمح عكس ذلك في الكوبليه الثاني (تايه قربني – حلو تفرحني – مانت بتعرفني – لما بتجرحني- كأن بتدبحني من أول لمسة)
وقد حاول منير الهروب من مأزق الجدال حول مضمون الأغنية بتصويرها بطريقة الفيديو كليب الذي ظهر فيه وهو يتحدث إلى طفل صغير، ينظر إليه على أنه المستقبل. مع بعض الإيحاءات الوطنية والقومية، والمناجاة لتوحيد الصف العربي. وتم تحميل الأغنية ما لم تحتمل، وقد يظن المستمع أنه بمشاهدة الكليب قد تفصح الصورة المرئية عن أفكار عجزت الكلمات عن إدراكها، إﻻ أن الصورة لم تكن أفضل حالا من الكلمة.
الأغنيات السيريالية
حواديت (ألبوم ممكن 1995)
يشتهر مجدى نجيب بلقب «شاعر الالوان» فى محاولة من مريديه للجمع بين الفنون التي يمارسها كالرسم والشعر، ولكن علي ما يبدو هنالك علاقة بين كونه فنان تشكيلى وشاعر، تسببت في انتقال سريالية لوحاته إلى شعره.
«ياما فى زمانا قلوب – راسماها اعمارنا – زى النجوم حواديت – على ضل شباكنا»
البداية المبهمة جدا لأغنية «حواديت» التى تعتبر لغز الألغاز، والتى لا معنى لها سوى أنها لوحة سيريالية خالصة من مجدى نجيب ولا يمكنك أن تستنبط من تلك الصور أى معنى إﻻ إذا تخيلتها مرسومة ﻻ مغناه.
لوحات أخرى بلا أي رابط سوى أنها رباعيات مجمعة مرصوصة قد تصلح لأن تغنى مفرده لكن مجمعه كلها فلا معنى يربطها ببعضها سوى أنها انتقال من حالة لحالة دون ربط واضح، وكل حاله مغلفة بموسيقى حالمة جدا تجعل المستمع يغض الطرف عن مضمون الكلمات.
هيه .. هيه (من ألبوم الطول واللون والحريه 1992)
موسيقى الأغنية التي لحنها «وجيه عزيز»، ووزعها الراحل «حسين الإمام» تشفع لنا سماع تلك الأغنية التى كانت محاولة جيدة لصنع أغنيه روك مصرية في فترة كان التوزيع الموسيقى عبارة عن صفقة وطبلة فقط.
تعتبر هذه الأغنية من أقصر أغنيات منير، وهنا مجدى نجيب رسم لنا لوحات سيريالية تلعب على وتر الشيئ ونقيضه دون أي وضوح. فما علاقة البحر بالفرح بالحزن بالاستسلام؟ وما دلالة التناقض في جملة «لسه قادر في الحزن أفرح»؟ حتى كوبليه الأغنية جاء سيرياليا خالصا، لوحة بلا معنى مباشر أو واضح، حالة سكون تامة على عكس مقدمة الأغنية. ويبدو أن منير كان مهتما بالشكل الموسيقى للأغنية على حساب الكلمات خصوصا الجملة اللحنية فى (هيه – هيه) ولم يغنى منير الكوبليه الأخير فى الأغنية مكتفيا بأن تقوم الموسيقى بدوره فترك لها العنان لكى تختم الأغنية.
القدس (البوم برئ 1988)
كلمات الأغنية لم تقترب من القضية الفلسطينية بصورة واضحة، ولم يتم التركيز على القضية بقدر ما أتحفنا مجدى نجيب بعدة شطرات كلها تخص قضيته هو، بتشبيهات غريبة الأطوار مثل «ينساني دراعي اليمين ينساني دراعي الشمال»، و«أدبل أموت لو نسيت القدس».
لا نحاول هنا اتهام مجدى نجيب بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية، لكن ما كتبه لا يمت لهذه القضية بأي صلة، ولم يخدم الفكرة التي كتب من أجلها الأغنية، بل إن ذكر القدس جاء غريبا ودخيلا على موضوع الأغنية التي قد تفسر على أنها حاله ذاتيه لشخص يعانى من بعض الإحباطات لا قضية قومية مهمة كقضية فلسطين.
يمكن تلخيص أحد أسباب أزمة الغناء العربي في اختيار النصوص الشعرية وانصراف الاهتمام بالكلمة لحساب الألحان والتوزيع الموسيقى، والشكل الذي سوف يظهر به المطرب. وأصبحت الكلمة آخر عنصر في صناعة الأغنية بعد أن كانت صناعة الأغنية تبدأ من الكلمات. تراجعت الكلمة وأصبحت مجرد خلفية باهتة بلا مضمون. وعانت الأغنية من الضحالة على مستوى الأفكار، فلا توجد أي محاولات جدية للتجديد أو طرح أفكار خارج القوالب المعلبة التي استهلكتها الأغنية على مدار سنين طويلة.
في هذا التقرير تناولنا تجربة الشاعر «مجدي نجيب»، مع المطرب «محمد منير». وفي تقارير ﻻحقة سنتناول نماذج أخري من الأعمال الملفقة، والصناع الملفقين.