تاريخ الأطماع «الإسرائيلية» في مياه النيل
خلال ثمانينيات القرن الماضي، أصدر الصحفي المصري كامل زهيري نقيب الصحفيين الأسبق ورئيس اتحاد الصحفيين العرب، كتابًا تحت عنوان «النيل في خطر: مشروعات تحويل مياه النيل، من هرتزل إلى بيجن (1903-1980)» يتناول قضية التطلعات الإسرائيلية إلى الحصول على حصة في مياه نهر النيل.
تعود تلك التطلعات إلى جذور أقدم من إنشاء الكيان الإسرائيلي نفسه في عام 1948، حيث ترجع إلى وقت نشأة المنظمة الصهيونية على يد تيودور هرتزل، الذي اهتم شخصيًا منذ البداية بتلك القضية، وبذل مساعي حثيثة لتنفيذها على أرض الواقع، قبل شروعه في جهوده المعروفة في تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
استند زهيري في مؤلفه على عدد من المصادر والوثائق المهمة، من أبرزها يوميات هرتزل الكاملة المنشورة في نيويورك عام 1960 بعد أكثر من 50 عامًا من وفاته، وعلى وثيقتين مهمتين نقلهما زهيري إلى العربية لأول مرة، ألا وهما: نص مشروع امتياز توطين اليهود في سيناء الذي عرض على اللورد كرومر وبطرس غالي رئيس النظار المصري، ونص تقرير البعثة الفنية التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى سيناء، بالاتفاق بين هرتزل والزعيم السياسي البريطاني جوزيف تشمبرلين.
البحث عن الوطن اليهودي: مشروع تحويل مياه النيل إلى سيناء
قبل هزيمة الدولة العثمانية التي وقفت ضد فكرة الاستيطان اليهودي في فلسطين، في الحرب العالمية الأولى، اتجهت الجهود المبكرة للحركة الصهيونية حديثة التكوين آنذاك، في البحث عن وطن قومي لليهود، في دراسة عدد من الخيارات البديلة، كان من أبرزها الاستيطان في وطن بديل مؤقت في أوغندا أو الأرجنتين، دون التخلي هنا عن حلم إقامة دولة تجمع الشتات اليهودي على أرض فلسطين عندما تسنح الفرصة.
كنقطة متقدمة للوثوب إلى فلسطين، سعت المنظمة الصهيونية التي يمثلها هرتزل إلى توطين اليهود في العريش، والحصول على امتيازات من الاحتلال البريطاني والحكومة المصرية لهذا التوطن، بجانب إنشاء موانئ وفنارات في منطقة شرق قناة وخليج السويس على امتداد الحدود بين القطر المصري وفلسطين التاريخية، المنصوص عليها في فرمان تولية محمد علي باشا من الدولة العثمانية، أي من البحر الأبيض شمالًا، حتى خط عرض 29 عند نهاية مساقط مياه وادي العريش ومرتفعات التيه، والذي يمتد من أبو زنيمة على ساحل خليج السويس وصولًا إلى نويبع على ساحل خليج العقبة.
لمواجهة مشكلة ندرة المياه في تلك المنطقة، اقترح هرتزل على لانسدون وزير خارجية بريطانيا، مد أنبوب على عمق كبير تحت قناة السويس لضخ مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء.
يقول هرتزل في مذكراته بتاريخ 20 يناير/ كانون الثاني 1903، إنه أعطى تعليماته للبعثة الفنية التي ستذهب إلى مصر لإعداد تقرير ميداني عن إمكانية الاستيطان في تلك المنطقة من سيناء. ويسرد الأخير تفاصيل وافية عديدة في هذا الإطار، منها: تحديد خط سير الرحلة، مصدر الحصول على الخرائط، حتى أماكن شراء بعض اللوازم البسيطة كالدفاتر وأقلام الحبر.
في سرية تامة قامت تلك البعثة بأعمالها، وأعدت تقريراً من 8 صفحات مؤرخ بـ26 مارس/آذار 1903، عن السكان والحياة الحيوانية والزراعية في تلك المنطقة من سيناء، بالإضافة إلى مقترحات عن بناء خزانات مياه واستغلال المياه الجوفية، ومقترحات عن أنواع المحاصيل والأشجار التي يمكن زراعتها هناك، والصناعات الممكن تدشينها، المرتبطة بتلك الزراعات.
في تلك الأثناء، كان هرتزل قد وصل إلى مصر، وتحديدًا في 23 مارس/آذار 1903، والتقى في القاهرة باللورد كرومر، وشرح له حاجة مشروعه إلى المياه من النيل، والتقى هناك أيضًا برئيس الوزراء المصري بطرس غالي. بناء على التقرير الفني، تقدم تيودور هيرتزل للحكومة المصرية بمشروع اتفاقية للحصول على امتياز الاستيطان في سيناء، يحتوي على 14 بندًا، منها بند ينص على:
جاء القول الفصل، ردًا على مشروع الامتياز الذي أعده هرتزل، من الحكومة البريطانية، عبر تقرير السير وليام أدموند جارستين وكيل وزارة الأشغال العمومية بالاشتراك فيرشويل مع مفتش الري بدلتا مصر، الذي فند تقديرات المشروع الصهيوني من الناحية الفنية والهندسية، وأوصى بعدم قبول المشروع، ومن ثم جاء رد الحكومة المصرية برئاسة بطرس غالي بالرفض بناء على نتيجة التقرير.
إحياء مشروع 1903 من جديد في عهد السادات
يقول كامل زهيري إنه بالمصادفة خلال متابعته لما تنشره الصحافة الإسرائيلية عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، قرأ مقالًا في عام 1974 لرئيس هيئة تخطيط المياه في إسرائيل، المهندس إليشع كيلي، يقترح فيه الأخير إحضار مياه النيل من مصر إلى صحراء النقب، بعد إتمام السلام لحل أزمة المياه القادمة في إسرائيل.
أعطى إليشع في مقاله تصورًا تفصيليًا عن المشروع، الذي يتم من خلاله إمداد إسرائيل بـ30 متراً مكعباً من المياه في الثانية، بما يكفي لاحتياجاتها في ذلك الوقت، عبر أنابيب تمر تحت قناة السويس عند محافظة الإسماعيلية، وفي الجانب الآخر، تصب المياه في قناة مبطنة بالخرسانة، بالقرب من طريق العريش – القنطرة، ومن هناك تسير بمحاذاة طريق (غزة – العريش) حتى خان يونس. ومن هناك يتشعب مجرى المياه إلى خطين، خط اتجاه قطاع غزة، وخط آخر للنقب في اتجاه بئر سبع.
بدت الفكرة لزهيري من الخطورة بمكان، على نحو أخطر من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نفسها، حيث تنتهي بالمعاهدات كما يقول بالحروب وتغير الموازين الدولية، بينما إعطاء إسرائيل مياه النيل بدا للأخير أشد خطرًا لأنه يحول العلاقة التعاقدية إلى علاقة ماء وحياة، ويعطي إسرائيل حق ارتفاق على مياه النيل يدوم بدوام جريانه.
لأن الفكرة صادرة من موظف في هيئة التخطيط الرسمية للمياه في إسرائيل، وبسبب تصريحات الرئيس السادات الذي كان مستعدًا للذهاب إلى آخر المدى في مشروعه للتسوية مع إسرائيل أيضًا، تعامل الكثيرون في مصر مع ذلك الموضوع بجدية بالغة، وانضم لزهيري في هذا السياق العديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية البارزة، ودارت سجالات برلمانية وصحفية واسعة في ذلك الوقت حول تلك القضية، غطاها زهيري في كتابه في فصل بعنوان «الأحزاب والقوى السياسية في مصر تدخل معركة الدفاع عن النيل».
من أبرز الأسماء الموجودة في هذا الفصل من الكتاب فتحي رضوان، الصحفي الشهير ووزير الإرشاد القومي في بداية عهد ثورة يوليو/تموز 1952، والمهندس إبراهيم شكري، زعيم حزب العمل الاشتراكي ووزير الزراعة الأسبق في عهد السادات، وعبدالعظيم أبوالعطا، وزير الري المصري الأسبق، ومحمد حلمي مراد، وزير التربية والتعليم الأسبق، والكاتبة المصرية المعروفة نعمات أحمد فؤاد، ود. حامد ربيع، أستاذ العلوم السياسية.
يذهب هؤلاء وغيرهم من الأسماء الأخرى الموجودة في الكتاب، إلى حاجة مصر إلى كل نقطة من المياه التي تصلها من حصتها السنوية في نهر النيل، بل وحاجتها أيضًا إلى مزيد من الموارد المائية للتوسع الزراعي الأفقي، الذي يُفترض أن يواكب الزيادة السكانية المتنامية في مصر، فضلًا عن اعتراضهم المبدئي علي فكرة مد إسرائيل تحديدًا بالمياه، التي ستستخدمها في التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
سياسة شد الأطراف
انتهجت إسرائيل على مر عدة عقود سياسية تقوم على التحالف مع الدول والقوى المحيطة بالعالم العربي، كان على رأسها إيران الشاه، وتركيا قبل حزب العدالة والتنمية، والأكراد، وأثيوبيا،بجانب التحالف مع الأقليات داخل العالم العربي، للضغط على القلب الجغرافي للعالم العربي، واصطلح على هذه الإستراتيجية بسياسة شد الأطراف.
في ظل العلاقات السياسية والعسكرية والتحالف الوثيق بين إثيوبيا وإسرائيل، وفي ظل وجود 23 شركة إسرائيلية تعمل في إثيوبيا في مجالات تتصل ببناء بسد النهضة، من خلال سبعة عقود مبرمة بين أديس أبابا وتل أبيب، يعتقد مراقبون أن سد النهضة سيؤدي إلى خلق واقع جديد يجعل وصول المياه إلى مصر بالكميات التي تحتاجها، رهن بوصول المياه إلى إسرائيل.
نشرت جريدة «العربي الجديد» في هذا السياق، وفق مصادر رسمية بحسب ما تقول الجريدة، إن الاتفاق الثلاثي بين القاهرة وأديس أبابا وتل أبيب حول مسألة سد النهضة، أصبح غير مستبعد في ظل الموقف الصعب الذي مرت به مصر خلال المفاوضات المصرية الإثيوبية حول مدة تخزين بحيرة السد.
كان هذا قبل الوصول للاتفاق الحالي بين السودان وإثيوبيا ومصر، منذ أيام قليلة، على ملئها خلال مدة 7 سنوات، بعد مفاوضات معقدة، وضع أساسها بحسب دبلوماسي غربي، فريق تفاوضي من الخارجية الإسرائيلية، منهم وزير الخارجية ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي سابقًا شاؤول موفاز، وديفيد كمحي الضابط الكبير بجهاز الموساد، ولا يعرف أحد بعد حتى الآن، هل هناك التزامات غير معلنة من الأطراف المعنية إلى إسرائيل أدت إلى الوصول لتك الصيغة من الحل أم لا؟