تاريخ الاقتصاد: لماذا هناك دول غنية وأخرى فقيرة؟
«لماذا هناك دول غنية وأخرى فقيرة؟»، تساؤلٌ يفرض نفسه من وقت لآخر بغرض الوقوف على أهم أسباب نجاح وتقدم بعض الدول وفشل البعض الآخر في اللحاق بركبها.
تساؤلٌ كرس لأجله روبرت سي آلن، أستاذ التاريخ الاقتصادي بجامعة أكسفورد، كتابه «االتاريخ الاقتصادي العالمي»، للإجابة عنه والتفتيش عن خلفياته التاريخية.
وذلك عبر استعراضه للسبب الرئيسي الذي خلق الفجوة الكبرى بين الدول الغربية والأفريقية، والأحداث التي غيرت شكل الاقتصاد العالمي، وكيف تمكنت بريطانيا ومن بعدها باقي الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية من تحقيق التنمية الاقتصادية عبر الثورة الصناعية.
كما يستعرض الكتاب كيف لحقت دول أخرى كروسيا القيصرية والصين واليابان بركب الدول الغربية؟ ولماذا فشلت دول أفريقيا جنوب الصحراء في الخروج من شرنقة الفقر وأبقت على فقرها رغم امتلاكها لبعض مقومات التقدم.
ظهور الفجوة الكبرى بين الدول
في الماضي وقبل عام 1500م، بدت الاختلافات بين الدول على مستوى الازدهار محدودة، إذ لم يكن هناك فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء ولم يعانِ العالم من عدم التساوي الفج في الدخول كما حدث بعد ذلك.
لكن الهوة بدأت في الظهور خلال الفترة بين 1500 و1800، مع بداية رحلات كولومبس ودا جاما التي كان لها في الفضل في تكامل الاقتصاد العالمي، والتي انتهت بالثورة الصناعية.
خلال تلك الفترة أُقيمت المستعمرات في الأمريكيتين اللتين قامتا بتصدير الفضة والسكر والتبغ وشحن الأفارقة كعبيد إلى القارتين لإنتاج تلك السلع.
كما نجحت الدول الأوروبية في زيادة تجاراتها من خلال إقامة المستعمرات وفرض التعريفات الجمركية وشن الحروب، كي تمنع الدول الأخرى من الدخول في تجارة مع مستعمراتها.
وبالفعل تمكنت الصناعة الأوروبية من الانتشار والتوسع على حساب المستعمرات، غير أن التنمية الاقتصادية لم تكن الهدف الرئيسي خلال القرن التاسع عشر.
حتى جاءت مرحلة جديدة في مطلع القرن التاسع عشر، سميت بمرحلة المواكبة، ففي الوقت الذي كانت قد حققت بريطانيا فيه الريادة في مجال الصناعة ونجحت في التفوق على الدول الأخرى، وضعت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة هي الأخرى التنمية الاقتصادية على رأس أولوياتها لمواكبة ما وصلت إليه بريطانيا.
وذلك عبر اتباع أربع سياسات وهي: إنشاء سوق وطنية موحدة عبر إلغاء التعريفات الداخلية وإقامة بنية تحتية للنقل، ووضع تعريفات خارجية لحماية صناعاتها من المنافسة البريطانية، وتأسيس بنوك للحفاظ على ثبات أسعار العملات وتمويل الاستثمارات الصناعية، وتوفير التعليم العام للارتقاء بمهارات القوى العاملة.
نجحت تلك السياسات في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وانضمت الدول في تلك المناطق إلى بريطانيا لتشكل ما بات معروفًا بنادي الدول الغنية. غير أن المنافسة البريطانية تسببت في إعاقة التنمية الصناعية في معظم مناطق آسيا، فيما اكتفت أفريقيا بتصدير زيت النخيل والكاكاو والمعادن بعد انتهاء تجارة بريطانيا للعبيد في عام 1807.
وعليه، اتسعت الفجوات في الدخول بين الدول مع وجود استثناءات قليلة، فبينما حققت الدول التي كانت أكثر ثراءً في عام 1820 أعلى معدلات في النمو والدخول، كانت منطقة الشرق الأوسط ومعظم دول أفريقيا جنوب الصحراء الأقل حظًّا والأكثر فقرًا واستمر ذلك حتى الوقت الحالي.
الثورة الصناعية التي غيرت شكل العالم
مثلت الثورة الصناعية في الفترة بين 1760 و1850، نقطة تحول في تاريخ العالم، بفضل معدل النمو الاقتصادي الذي تحقق منذ بدايتها، والذي أدى إلى زيادة الدخل المستمرة وصولًا إلى الازدهار الذي يعيشه العالم اليوم.
ولعل التغير التكنولوجي كان المحرك الأساسي في الثورة الصناعية، نظرًا لابتكار العديد من الاختراعات الشهيرة كالمحرك البخاري وماكينات غزل القطن ونسجه والعمليات الجديدة لصهر وتنقية الحديد والصلب باستخدام الفحم بدلًا من الخشب.
كما ظهرت آلات كثيرة أخرى نتج عنها زيادة في إنتاجية الأيدي العاملة في صناعات عادية كصناعة القبعات والدبابيس والمسامير، فضلًا عن ظهور منتجات إنجليزية جديدة مستوحاة من المصنوعات الآسيوية كالخزف.
وخلال الفترة من 1815 إلى 1870، انتقلت الثورة الصناعية من بريطانيا إلى القارة الأوروبية بنجاح كبير وسعت تلك الدول معًا لتطوير التكنولوجيا في العالم منذ ذلك الحين.
كما تحولت أمريكا الشمالية إلى دولة صناعية، وسرعان ما انضمت إلى نادي الابتكار حتى باتت الولايات المتحدة الأولى بين أقران متكافئين.
ولم تكتف دول القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية بالتفوق على بريطانيا في الإنتاج الصناعي في الفترة بين عامي 1870 و1913، بل عمدت تلك الدول إلى منافستها في الريادة التكنولوجية، وهو ما نجحت فيه الولايات المتحدة بالفعل حتى صارت رائدة العالم في التكنولوجيا.
محاولات التحول نحو التصنيع
كانت المشكلة الجديدة التي حلت على العالم بحلول 1850، في ظل تقدم دول أوروبا وأمريكا الشمالية على سائر دول العالم، هي: كيف للدول الفقيرة أن تلحق بركب الدول الغنية؟
لم يكن أمام المستعمرات فعل الكثير، خاصة مع تقييد القوى الإمبريالية لخياراتها. فيما سعت الدول المستقلة في البداية لتطبيق النموذج القياسي للتنمية الاقتصادية الذي نجحت فيه الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والمتمثل في إنشاء خطوط السكك الحديدية وفرض التعريفات الجمركية وإنشاء البنوك والمدارس.
لكن ذلك النموذج من التنمية الاقتصادية الذي طبقته روسيا القيصرية وأمريكا اللاتينية واليابان لم ينتج عنه سوى نمو اقتصادي محدود، غير كافٍ لسد الفجوة مع الغرب. خاصة مع نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد في الدول المتقدمة بمعدل 2% سنويًّا، وهو ما فرض على الدول الفقيرة تحقيق تلك النسبة في إطار زمني محدود.
الأمر الذي لم تتمكن من فعله روسيا واليابان وأمريكا الللاتينية، إذ عانت تلك الدول من مستويات مرتفعة من اللامساواة وعدم الاستقرار السياسي. مثلما حدث لليابان، حين فشلت قبل الحرب العالمية الثانية في مجال الزراعة والصناعات الصغيرة.
ومع مرور الوقت، تفاقمت تلك المشكلات مع زيادة حجم الإنتاج الفعال وارتفاع نسبة تكلفة رأس المال إلى تكلفة العمالة في الدول الغنية، ومعه انتهى العمر الافتراضي لنموذج التنمية القياسي.
إذن، كيف لحق الاتحاد السوفيتي والصين بالغرب؟
مع تحقيق الغرب مزيد من التقدم على باقي دول العالم في القرن العشرين، وعدم نجاح نموذج التنمية القياسي، اتجهت بعض الدول إلى سلك اتجاه مغاير مكنها فعليًّا من اللحاق بالغرب وعلى رأسها اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية والاتحاد السوفيتي والصين.
فقد نجحت تلك الدول في تحقيق نمو سريع للغاية، وسد الفجوة مع الغرب في غضون نصف قرن فقط، عبر طريقة وحيدة تمثلت في بناء جميع عناصر الاقتصاد المتقدم من مصانع الصلب ومحطات توليد الطاقة ومصانع إنتاج المركبات والمدن في آن واحد، وهو ما عُرف بنموذج الدفعة القوية.
بيد أن ذلك النمط من التصنيع أثار مشكلات معقدة، تمثلت في بناء كل شيء قبل توفر العرض والطلب، كأن تُبنى مصانع الصلب قبل بناء مصانع السيارات التي تستهدف ألواح الصلب التي ستنتجها مصانع الصلب.
وكذلك بناء مصانع السيارات قبل توافر الصلب الذي ستقوم بتصنيعه، وبكل تأكيد قبل وجود طلب حقيقي على منتجاتها. ذلك النوع من الاستثمار كان يقوم بالأساس على إيمان بأن عناصر الاستثمار المكملة ستتحقق.
مع ضرورة توافر سلطة تخطيط لتنسيق الأنشطة المختلفة وضمان تنفيذها لنجاح التصميم الكبير، وهو ما نجحت فيه تلك الدول وتمكنت من خلاله أن تهرب من شرنقة الفقر في القرن العشرين، بالرغم من التفاوت الكبير فيما بينهم في أسلوب التخطيط.
لماذا لم تتقدم أفريقيا كما أوروبا وأمريكا؟
خلال الخمسة القرون الفائتة، ظلت أفريقيا جنوب الصحراء أكثر دول العالم فقرًا رغم تقدم العديد من الدول حولها، بينما لم تتمكن هي من اللحاق بركبها أو مواكبة التقدم فيها.
وقد أرجع البعض سبب فقر القارة الأفريقية إلى الاستعمار الذي استهدف نقل الثروة من يد الأفارقة إلى الأوروبيين. فبالرغم من حدوث بعض التطوير خلال الحكم الاستعماري، إلا أن الإدارة الأوروبية لم تُرسِ دعائم النمو الاقتصادي الحديث في الدول الأفريقية، بل كان شاغلها الأول كيفية استغلال خيراتها لصالحها، مما تسبب في ظهور مؤسسات غاية في السوء فضلاً عن إهمالها لتعليم سكان القارة.
بينما يكمن السبب من وجهة نظر منظري التبعية، في العولمة الشديدة، وأن تركيز الدول الأفريقية على تصدير المواد الأولية لم يكن في صالح القارة على المدى الطويل.
وبالرغم من وجود بوادر لخلق شركات من خلال صناعات الحديد المتناثرة في القارة وصناعة المنسوجات في القرن التاسع عشر، إلا أن العولمة مدعومة بالاستعمار قضت على تلك الصناعات، يضاف إلى ذلك عوامل الفساد والتدخلات الحكومية والحكم الشمولي للحكومات الأفريقية.
فضلاً عن تجارة العبيد التي حرمت القارة الأفريقية لقرون من مواردها البشرية وجعلتها تحت إمرة العالم الجديد. إذ بين عامي 1500 و1850، تم نقل ما بين 10 و12 مليون أفريقي كعبيد إلى الدول الغربية، كما تم اقتياد الملايين عبر الصحراء الكبرى ومن خلال البحر الأحمر والمحيط الهندي لبيعهم في آسيا.
إجمالاً، نجحت بريطانيا من خلال الثورة الصناعية أن تحتل مرتبة الريادة، وسرعان ما لحقت بها الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية وانتقلت الثورة الصناعية إليهم. فيما تمكنت دول أخرى كروسيا والصين واليابان بعد محاولات من اللحاق بركب الدول الغربية. إلا أن أفريقيا ظلت تعاني الفقر المدقع جرَّاء تعرضها للاستعمار وتجارة العبيد واستغلال خيراتها ونهبها لصالح الدول الغنية.