ثورة التصحيح: عن الذين يدخلون التاريخ من باب «المسخرة»
لم يترك الرئيس الراحل محمد أنور السادات، نقيصة سياسية واحدة وأخلاقية لرموز الناصرية، أو من جرى تسميتهم اصطلاحًا «مراكز القوى» إلا وألصقها بهم، وكان واضحا أن السادات يؤمن أركان حكمه ويصد العدوان السياسي عليه؛ يخمش، ويجرح، ويرد اللكمات والركلات بمثلها، بداية من اتهام الناصريين بالتكتل والتحريض ضده لتقويض أركان حكمه، نهاية باتهامهم بشكل صريح بالعمالة للاتحاد السوفيتي.
سر الصدام بين السادات ومراكز القوى
كلمات لا تخلو من نزعة طاووسية، جعلها السادات، عناوين واضحة في خطاب حركة التصحيح التاريخي، الذي أعلنه في 15 مايو/ آيار عام 1971، بعد نجاحه في تنفيذ عملية خلخلة قاتلة لبقايا أركان الحكم الناصري، جعلته يتمكن من البدء في حياكة صياغات جديدة للحياة في مصر، كانت بمثابة هجمة أيديولوجية على مبادئ جمال عبد الناصر السياسية والاجتماعية.
كان السادات من قيادات ثورة الضباط الأحرار الخلفية إعلاميًا وجماهيريًا، ورغم توليه منصب نائب الرئيس، فإنه لم يكن يتمتع بثقل أو حضور ينافس أصحاب الأدوار الثانية والثالثة بعد عبد الناصر، من أمثال عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، وصلاح نصر رئيس المخابرات، وعلي صبري، رئيس الاتحاد الاشتراكي، وشمس بدران وزير الحربية، وزكريا محيي الدين، رجل الناصرية القوي، وهؤلاء هم الذين احتلوا العلامة الكاملة، وسُلطت الأضواء على تحركاتهم بجانب ناصر طوال مدة حكمه.
بعد أسبوعين من رحيل جمال عبد الناصر، في سبتمبر عام 1971، أجُري استفتاء علي السادات، وانتُخب رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، وكانت مصر لا تزال وقتها تحمل اسم الوحدة مع سوريا، رغم انفصال البلدين من عام 1961، وظلت بهذا الاسم فعليًا حتى عام 1971 .
أعطى الاستفتاء، الرئيس الجديد فوزًا كاسحًا بلغ 90.04 % من أصوات الناخبين، وكان دعم مراكز القوى الناصرية، من الأسباب الرئيسية في هذه النتيجة للسادات المغمور وقتها، بعدما تعهد لهم بالسير على مبادئ عبد الناصر ونهجه في الحكم؛ رغم نُذر الصدام التي بدأت مبكرًا، وتحديدا بعد دفن «ناصر» مباشرة.
عدة أسباب كانت وراء الخلاف الذي اشتعل بين السادات ورجال عبد الناصر، ولكل الأطراف رؤيتها الذاتية فيما حدث؛ الأكثر شيوعًا ما رواه السادات نفسه في كتابه البحث عن الذات، ولفت إلى أن نية الصدام معه كانت واضحة، منذ أن عارضت القيادات الناصرية رغبته في عقد اجتماع للاتحاد الاشتراكي الحاكم، لأخذ الموافقة على إجراء استفتاء يمنحه منصب رئيس الجمهورية.
وتعللت مراكز القوى في رفضها، بالخوف من إسقاط السادات، وبالتبعية إسقاط شرعية ثورة 23 يوليو (الضباط الأحرار)، واقترحوا عليه أن يبقي نائبًا للرئيس، حتى تبقى مغانم السلطة مقسمة عليهم، كما كانت في عهد ناصر .. كان واضحًا من البداية أنهم يريدون الإجهاز على السادات، والحد من سلطته نهائيا، بحيث لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون موافقتهم.
وبينما كانت مراكز القوى تخطط للإيقاع بالسادات، حسب روايته، كان يجهز هو لمفاجأة كبرى؛ وهي المبادرة التي أعلنها أمام الشعب في فبراير عام 1971، ويعرض فيها على إسرائيل الانسحاب من ضفة القناة إلى المضايق، مقابل إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية.
إعلان السادات كان صدمة كبيرة للاتحاد السوفيتي ورجاله في مصر، بعدما بدا أن الرئيس الجديد يستطيع كسب أرض جديدة خارج حدود اللعبة القديمة، فبدأ الصراع يتخذ منحى آخر، وأصدر الاتحاد الاشتراكي تعليمات لرجاله بتفجير الشائعات ضد السادات، وكان يمتلك وقتها أقوى جهاز شائعات في المنطقة، وهو تكتيك معروف مستورد من روسيا ويعرف لديها باسم جهاز التهييج.
في 13 مايو 1971، بلغت المؤامرة ذروتها بتدبير محاولة اغتيال للسادات، وتدخل القدر ليكشفها ضابط شاب، يدعى طه زكي، كان يعمل في إدارة الرقابة علي الهواتف بوزارة الداخلية، واستطاع تسجيل خطة التآمر على الرئيس، وقّدم له أشرطة تكشف وضع كافة هواتف السادات تحت المراقبة الكاملة، وهي الرواية التي اتفق معها اللواء طه زكي، الضابط الشاب وقتها، خلال أحد لقاءاته الإعلامية النادرة منذ سنوات .
القبض على مراكز القوى وكشف مؤامرتهم لاغتيال السادات
اتخذ السادات قراره على الفور بالتصفية السياسية لكافة مراكز القوى، بدأها بإقالة شعراوي جمعة وزير الداخلية، وقبل أن يستكمل خطته للإجهاز علي الجميع، فوجئ باستقالات جماعية لرجال عبد الناصر، رئيس مجلس الأمة، ووزراء الحربية، والإعلام، وشئون رئاسة الجمهورية، وأعضاء من اللجنة المركزية العليا، وكانوا يهدفون لإحداث انهيار دستوري في البلاد.
قرار الاستقالات الجماعية «الغبي سياسيا» بحسب وصف السادات، أعلن الأخير قبوله علي الفور، وقاد تعديلا وزاريًا في نفس الليلة، وعندما لاحت بوادر النصر الكاسح للرئيس على مراكز القوى، حاول الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية تصعيد الأزمة، فأرسل يدعو كافة قيادات القوات المسلحة إلى مكتبه، وأوعز إليهم أن السادات يريد تسليم مصر للأمريكان، وهي المكيدة التي تصدي لها، الفريق محمد صادق، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، رافضا محاولات «فوزي» تقليب الجيش على السادات، وانتهى الأمر بتحديد إقامة كافة المستقيلين، إلى أن تمت محاكمتهم جميعها في 9 ديسمبر/ كانون الأول عام1971.
حُكم على الفريق أول محمد فوزي بالأشغال الشاقة، وخُفف إلى 15 عاما، كما تم الحكم بالأشغال الشاقة على محمد فائق وزير الإعلام، بينما أصدرت المحكمة أحكاما قاسية بالإعدام شنقا، على شعراوي جمعة، وعلي صبري، وسامي شرف، وجرى تخفيف الأحكام إلى الأشغال الشاقة بقرار من الرئيس، لتنتهي أسطورة مراكز القوى، حسب رواية السادات، ولكن كما هو الحال في كافة الأحداث التاريخية، دائما هناك روايات أخرى.
شهادات مراكز القوى عن «انقلاب» السادات
رغم كل التهم التي كالها السادات إلى رجال «عبد الناصر»، لم يثبت على أي منهم، تضخم ثرواته، ولم يُصدر أي قرار يخص الذمة المالية لأحدهم، مما يعني أن الاختلاف معهم كان «سياسيا . فكريا»، وتحول إلى ما يشبه المسخرة السياسية، بحسب تعبير المؤرخ اليساري صلاح عيسى.
مما يدعم جَرح رواية السادات، تصادمها كليًا مع شهادات رجال الناصرية، الذين استبقهم السادات ووثق انتصاره التاريخي عليهم بخطب وكتب منشورة في عهده لفرض تصورات بعينها على ذاكرة التاريخ، إضافة إلى إنشاء مدينة على بُعد 35 كيلومترًا من القاهرة، أطلق عليها «15 مايو»، فضلا عن إنشاء كوبري يحمل نفس الاسم، يمتد من ميدان سفنكس في القاهرة، إلى منطقة بولاق أبو العلا، بطول 4.5 كيلومتر، وكوبري آخر في منطقة سموحة بالإسكندرية، يحمل نفس الاسم.
علي صبري
دوّن على صبري، رئيس الاتحاد الاشتراكي، شهادته على ما يسميه الناصريون «انقلاب السادات» لمؤرخ الناصرية عبد الله إمام، في كتابه «علي صبري يتذكر بصراحة عن السادات»، وكشف عن أسباب نفسية دفعت «الرئيس المؤمن» للانتقام منهم، أحدها يعود لطريقة الحديث معه، وكان يعتبرها تفتقر للياقة بسبب مناداة «صبري» له دائمًا في الاجتماعات بالأخ أنور، أو السيد أنور السادات.
كان السادات حسب رواية علي صبري، يرى في ذلك تذكيرًا بضعفه القديم، في مقابل قوة ونفوذ رئيس الاتحاد الاشتراكي، المنبر الوحيد للسياسة في مصر وقتها، بل وكان يعتبرها محاولة للقليل من هيبته ومكانته كرئيس للجمهورية .
تأويلات السادات عن خلافاته السياسية مع القيادات الناصرية، لا محل لها من الإعراب عند «علي صبري»، ويوضح ذلك في سياق ردوده أن رفضه لمبادرة السادات بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، كانت وفقًا لمعايير موضوعية وسياسية انتهت إلى عدم الاستفادة بأي مكسب لمصر من خلفها، بالعكس كانت ستحّول أنظار العالم إلى ضرورة إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية، وهي نتائج ضيقة، في مقابل ما ستتحصل عليه إسرائيل من مكاسب.
وبنى «صبري» حيثيات رأيه، على أن الانسحاب جزئيًا من القناة، كان سيعطي الفرصة لإسرائيل في المماطلة والتباطؤ في الانسحاب نهائيا إلى ما قبل حدود 5 يونيو 1967، بالإضافة إلى الضغوط الشديدة التي قد لا تقدر على تحملها الدولة المصرية، من جراء إعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية، حال اتخاذها قرارا باستئناف الحرب مع إسرائيل، مما يعني أن المبادرة تخدم مصالح العدو الصهيوني في المقام الأول.
وسخر رئيس الاتحاد الاشتراكي، من اتهامه بالعمالة للاتحاد السوفيتي، خاصة وأن السادات كان يعتمد أسلوب المباغتة مع القيادات الناصرية في كافة قراراته السياسية، التي كانوا يعلمون بها من خلال الصحف فقط، في الوقت الذي كان يبلغ السادات الاتحاد السوفيتي بخطواته السياسية، قبل أن يُبلغ بها المؤسسات الدستورية والسياسية في مصر.
الفريق محمد فوزي
في شهادته الموثقة تليفزيونيا مع الإعلامي المصري عماد الدين أديب، ينفي الفريق محمد فوزي أن يكون قد اشترك مع مراكز القوى، في تدبير مؤامرة لإحداث انهيار دستوري في البلاد.
ويؤكد أن الاستقالات الجماعية، كانت اعتراضًا أدبيًا على مخالفة السادات ما تعهد به فور توليه الرئاسة، واعتراضا قانونيا على تدخل أمريكا في الشئون المصرية، التي يجزم أنها كانت وراء الإيعاز للسادات بضرورة الخلاص من الاتحاد الاشتراكي، ومحمد فوزي على وجه الخصوص، حتى يستكمل مسعاه للسلام بطريقته الفريدة مع إسرائيل.
ويبرر وزير الحربية الأسبق استقالته في هذا التوقيت الحرج، بأنها كانت ضرورية بسبب انتهاء دوره إثر رفض السادات استكمال خطة عبد الناصر لإعادة الأرض المغتصبة، التي عُين خصيصا من أجلها.
استقالة «فوزي» كانت جاهزة منذ يوم 10 مايو/ آيار عام 1971، حسب شهادته، ولكنه لم يجد المبرر الكافي لتقديمها إلا عندما تطورت الأحداث واتخذ السادات قرارا بتعيين ممدوح سالم وزيرا للداخلية، بدلا من شعراوي جمعة، وكان تصعيدا يشي بالطريقة التي سينتهجها السادات مع جميع القيادات الناصرية، فأخذوا على عاتقهم تقديم استقالاتهم جميعا.
في شهادته على أحداث حركة التصحيح، يؤكد الكاتب الصحفي صلاح عيسى، أن ما يطلق عليها ثورة 15 مايو/ آيار 1971، لم تدخل التاريخ إلا من باب «المسخرة»، على الرغم من خروجها من باب العدل والإنصاف .. الأزمة كانت صراعًا على السلطة، وكل طرف اصطنع سببًا، ظنًا منه أنه الأكثر جاذبية للجماهير؛ وهو النهج الذي نعيش في كنفه حتى اليوم، فالواقع السياسي المصري دائمًا ما يؤكد أنه لا حقائق في السياسة، ولا نزاهة وشرف بين خصوم سياسيين.