البعثات العلمية العباسية: جلب الكتب والجواهر واستكشاف الممالك المجهولة
أرسل الخلفاء العباسيون البعثات العلمية إلى خارج حدود الدولة الإسلامية، وسعوا من خلال ذلك لاستجلاب الكتب النادرة في مختلف المجالات، ومعرفة أحوال الشعوب، والوقوف على آخر ما وصلت إليه العلوم، وهدفوا من وراء ذلك لتحقيق أهداف مختلفة، بعضها معرفية، وبعضها سياسية.
زيارة مكتبات القسطنطينية
يذكر الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه «السفارات الإسلامية إلى أوروبا في العصور الوسطى»، أن الخلفاء والأباطرة كانوا يتبادلون البعثات والسفارات الخاصة بدراسة الكتب النادرة التي توجد في حيازة الطرفين أو في مكتباتهما العامة، وكذلك لاستدعاء كبار العلماء للمساهمة في الحركة العلمية في بلادهما، أو لتسهيل مهمة بعض الطلاب لتلقي العلم في الجامعات الكبرى في عواصم المسلمين والبيزنطيين.
وكانت القسطنطينية على البسفور، وبغداد في أرض الرافدين، وقرطبة في سهل الأندلس الخصيب، حدائق للمعرفة والعلوم والفنون، كل منها تسابق الأخرى في ميدان البحوث والدراسات والابتكارات، لذا كثرت البعثات بينها جميعًا لنقل ثمار المعارف والعلوم.
ومن أمثلة ذلك، أن الخليفة العباسي المأمون علم أن بالقسطنطينية أستاذًا مشهورًا في الرياضيات يدعى «ليو»، ورغب في استدعائه إلى بغداد، فأرسل إلى الإمبراطور البيزنطي «ثيوفيل» بعثة خاصة تحمل رسالة شخصية تطلب منه أن يسمح لـ«ليو» بالحضور إلى بغداد لفترة قصيرة، وقال المأمون في رسالته، إنه يعتبر ذلك عملًا وديًا، ويعرض على الدولة البيزنطية صلحًا دائمًا وألفي قطعة ذهبية في مقابل ذلك.
غير أن الإمبراطور البيزنطي رفض هذا العرض السخي، لأن بعض أبحاث العلماء كانت تُعتبر من أسرار الدولة، لا سيما إذا كانت تتعلق بالناحية الحربية والأسلحة، وبذلك ضنت الدولة البيزنطية بهذا العالم على بغداد، روى العدوي.
ولكن أشياء مثل هذه الحالات لم تؤد إلى قطع العلاقات الثقافية نهائيًا، إذ كان يُسمح للعلماء المسلمين بزيارة مكتبات القسطنطينية، واستخراج الكتب النادرة التي يحتاج إليها المسلمون في دراساتهم المختلفة، سواء في ميدان الطب أو الكيمياء أو الفلسفة، وغيرها من المواد التي برع فيها البيزنطيون.
جلب الكتب النادرة
وتذكر سندس زيدان خلف في دراستها «البعثات العلمية في العصر العباسي»، أن الخليفة العباسي الثاني أبا جعفر المنصور (136- 158هـ) كان شغوفًا بالعلم، لذا أرسل البعوث إلى بلاد الروم يطلب من إمبراطورها كتب الحكمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس في الرياضيات، وبعض كتب الطبيعة، وأوعز الخليفة بترجمة عدد منها.
وفي عصر الخليفة هارون الرشيد (170- 193هـ) توسعت قاعدة البعثات العلمية وتطورت بواعثها، فسعى لاستجلاب الكتب القديمة من مكتبات أنقرة وعمورية بعد فتحها من قبل العرب المسلمين، وأوكل إلى يوحنا بن ماسويه وآخرين بدراستها ونقلها من اللغة اليونانية إلى العربية، كما أنفذ البعثات إلى الإمبراطورية الرومانية لشراء الكتب اليونانية المختلفة، وهي سياسة حكيمة أدت نتائجها إلى ترجمة عديد من الكتب الأجنبية في شتى العلوم، وكان أغلب ما حصلوا عليه من الكتب الطبية.
ولم يقتصر الاهتمام بإرسال البعوث واستجلاب العلماء والكتب على الخليفة الرشيد، بل شاركه في هذا عدد من الوزراء والأثرياء وبذلوا في سبيل ذلك الأموال، مثل آل برمك، وعلى رأسهم الوزير يحيى البرمكي، فأرسلوا البعثات إلى الهند لاستجلاب الأطباء وعلى رأسهم طبيب يدعى «ابن دهن»، وأوكلوا له رئاسة بيمارستانهم، وأرسلوا بعثات أخرى كُلفت بمهمة مزدوجة؛ الأولى جلب العقاقير الطبية، والثانية تدوين أديان أهل الهند للاطلاع عليها، مع إشارات للمدن التي تنتج النباتات الطبية، بحسب «خلف».
كما شكّل تولي المأمون لمنصب الخلافة (198 – 218هـ) دفعًا قويًا للبعثات العلمية، في ظل ما عُرف من حبه للعلم والمعرفة ومجالسة المتكلمين والفقهاء، لذا أرسل البعثات لبلاد الروم للحصول على كتب أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة، وتألفت هذه البعثات من مجموعة من المترجمين، وهم الحجاج بن مطر، ويوحنا بن البطريق، وشخص يدعى «سلم» صاحب بيت الحكمة، وكان حاذقًا في اللغتين الفارسية واليونانية، وأشرف على ترجمة الكتب الفارسية التي جُمعت.
وتذكر «خلف»، أن من بين الكتب التي حصل عليها المأمون كتاب «الأسرار»، وهو كتاب في السياسة، حيث أرسل يوحنا بن البطريق لبلاد اليونان للحصول عليه.
وكانت بعثات جلب الكتب جزءًا من شروط معاهدات واتفاقيات صلح، فعندما انتصر المأمون على الروم عام 215هـ، عقد مع الإمبراطور «توفيل» اتفاقية صلح نص أحد بنودها على أن يعطي الإمبراطور البيزنطي للمسلمين مجلدات وكتب مكتبة القسطنطينية، وبلغت مائة ألف مجلد علمي وطبي وفلسفي.
ونظرًا لأهمية هذه الكتب النادرة، أرسل المأمون بعثة من كبار العلماء لاختيار أحسنها تكونت من الحجاج بن مطر وابن البطريق و«سلم» وآخرين، وأناط إليهم ترجمتها إلى اللغة العربية.
وتذكر «خلف»، أن المأمون اتبع تلك الطريقة مع حاكم جزيرة صقلية، حينما طلب منه نقل محتويات مكتبة صقلية الغنية بالمجلدات النادرة إلى بغداد.
بعثات استكشافية
ولم تقتصر البعثات الثقافية على طلب الكتب النادرة فحسب، وإنما شملت أغراضها دراسة الأماكن التاريخية التي تتعلق بأحداث الدولة الإسلامية، أو مما ورد ذكره في القرآن الكريم الكريم، بحسب ما ذكر العدوي في كتابه المذكور آنفًا.
ومن أشباه هذه الاتصالات العلمية تلك البعثة التي أرسلها الخليفة الواثق بالله إلى منطقة إفيسوس بآسيا الصغرى تزور الكهف الذي كانت محفوظة فيه جثث الشبان الذين استُشهدوا أيام الأمير دقلديانوس، وورد ذكرهم في سورة «الكهف» في القرآن الكريم.
ومنح الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث تلك البعثة تفويضًا خاصًا لزيارة ذلك الكهف، كما بعث معها رجلًا ليقوم بمهمة الإرشاد ويؤدي دور الدليل أثناء تجوال البعثة.
إلى ديار يأجوج ومأجوج
ومن أشهر البعثات العلمية الاستكشافية تلك التي قام بها سلام الترجمان إلى سور الصين الشمالي، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق بالله (227- 232هـ)، بعدما رأى في المنام أن السد الذي بناه الإسكندر ذو القرنين، الذي يقع بين ديار المسلمين وديار يأجوج ومأجوج، مفتوح، فأرعبه هذه المنام، وأمر سلامًا بأن يرحل ليتفقد السد.
ويذكر زكي محمد حسن في كتابه «الرحالة المسلمون في العصور الوسطى»، أن «الترجمان» سار من مدينة سرمداء، ومعه خمسون رجلًا ومائتا بغل تحمل الزاد والماء، بعدما أعطاه الخليفة كتابًا إلى حاكم أرمينيا ليقضي حوائجهم ويسهل مهمتهم. سار الجميع ستة وعشرين يومًا، فوصلوا إلى أرض كريهة الرائحة وكانوا قد حملوا معهم بإشارة الأدلاء خلًا لتخفيف هذه الرائحة.
وبحسب ما نقل حسن عن المصادر التراثية، سار الركب في تلك الأرض عشرة أيام ثم وصلوا إلى إقليم فيه مدن خراب، ساروا فيها سبعة وعشرين يومًا، وقال الأدلاء لأعضاء هذه البعثة إن شعب يأجوج ومأجوج هو الذي خرب تلك المدن، وانتهوا إلى جبل فيه السور المنشود، وعلى مقربة منه حصون تسكنها أمة مسلمة تتكلم العربية والفارسية، ولكنها لا تسمح بخليفة المسلمين قط.
وتقدم الركب إلى جبل لا نبات عليه، ويقطعه واد عرضه مائة وخمسون ذراعًا، وفي الوادي باب ضخم جدًا من الحديد والنحاس، عليه قفل طوله سبعة أذرع وارتفاعه خمسة، وفوق الباب بناء متين يرتفع إلى رأس الجبل.
ولما فرغ سلام الترجمان ورفقاؤه من مشاهدة السور، رجعوا إلى سرمداء مارين بخراسان، وكان غيابهم في هذه الرحلة ثمانية عشر شهرًا.
لكن إغناطيوس كراتشكوفسكي يرى في كتابه «تاريخ الأدب الجغرافي العربي»، أن الدافع المُعلن لهذه البعثة خيالي بحت، وأن الخليفة الواثق هدف من هذه الرحلة إلى التعرف على الظروف السياسية المحيطة بهذه المنطقة وتأكيد سلطته السياسية عليها، لوجود شائعات في ذلك الوقت عن تحرك القبائل التركية في أواسط آسيا نتيجة لقضاء قبائل القرغيز الروسية على دولة الإيغور في وسط آسيا حوالي سنة 226هـ.
بعثة دينية لبلاد البلغار
وقد تحمل البعثة أهدافًا دينية بجانب الأهداف العلمية والسياسية، ومنها تلك التي أرسلها الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى بلاد البلغار شرقي نهر الفولجا، بعد أن أسلم ملكهم وكتب إلى الخليفة يسأله أن يبعث إليه من يفقهه في الدين، ويعرفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدًا، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الموك المخالفين له.
وبحسب زكي، أجاب الخليفة ملك البلغار وأرسل له بعثة سنة 309هـ، كان على رأسها أحمد بن فضلان، بعدما جهز البعثة بهدايا وأدوية طلبها الملك، فضلًا عن تهيئة المال اللازم لبناء حصن وتغطية تكاليف البعثة. وأورد ابن فضلان تفاصيل رحلته ورصد حضارة وعادات وتجارة البلغار في مخطوطة، نقل عنها في ما بعد المؤرخون المسلمون في القرن منذ القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي مثل أبي القاسم الاصطخري وأبي الحسن المسعودي.
استجلاب الأحجار الكريمة
ولم تتوقف أهداف الخلفاء من إرسال البعثات عند جلب الكتب أو استكشاف المناطق الغامضة، بل شملت أيضًا البحث عن الأحجار الكريمة. وتذكر خلف في دراستها المذكورة آنفًا، أن الخليفة المنصور أرسل بعثة لشراء حجر من الياقوت سُمي «الجبل»، لكبر حجمه، واشتراه بأربعين ألف دينار.
كما أُولع الرشيد بالأحجار، وأرسل البعثات للاستحواذ عليها، حيث أرسل إلى صاحب جزيرة سرنديب في المحيط الهندي (سريلانكا الآن) لشراء جواهر ثمينة، فأكرمه الملك ورحب به وأراه خزانة جواهره.