تاريخيات القرآن: من نصر حامد أبو زيد إلى العروي
حين نتحدث عن القراءات التاريخية للقرآن، أي تلك القراءات التي تقوم «بوصل الآيات بظروف نشأتها وبيئتها»، لو أخذنا بهذا التحديد الذي وضعه لها طه عبد الرحمن في تناوله لهذا الجانب من القراءات الحداثية للقرآن تحت عنوان «خطة الأرخنة»[1]، فأول ما سيتبادر إلى أذهاننا أسماء مثل: نصر أبو زيد وأركون، ربما بصورة أقل وبسبب عدم شهرته عربيًّا، قد يضاف إلى القائمة اسم الباكتساني فضل الرحمن مالك. فهذه الأسماء الثلاثة مشتهرة باشتغالها على القرآن وفقًا لمنهجيات حديثة تمثل الأرخنة جزءًا رئيسًا منها، لذا فإنهم حاضرون في كل حديث عن «التاريخية».
في هذا السياق يحاول هذا المقال تحقيق هدفين رئيسين:الأول: كشف مدى تعددية وتركيب مفهوم «التاريخية»، وكيف أن «الأرخنة» ليست كلمة شفافة أو واضحة تستطيع الإحالة بكل بساطة إلى نمط محدد من التعامل مع النص القرآني أو إلى برنامج مطرد من «عمليات منهجية» في التعامل مع علومه يجمع كل هؤلاء: نصر، أركون، فضل، بل وغيرهم، كما قد نستشف من قراءة طه. فما نراه وما نحاول البرهنة هنا عليه هو عكس هذا تمامًا، حيث نظن أن كل مفكر من الموسومين بالتاريخية يمتلك قراءة خاصة تحمل كثيرًا من الاختلافات عن قراءة غيره، وأن هذه الاختلافات ليست سطحية أو ظاهرية أو إجرائية، بل هي خلافات شديدة العمق، حيث ترتبط بتصور كل منهم لـ «التاريخ» الكلمة المفتاحية في هذه القراءة، سواء من حيث تعيينه –أي تاريخ يتم موضعة القرآن في سياقه؟- أو من حيث طبيعته –هل التاريخ هو موضع التغير والصيرورة أم أنه قد يحمل قدرًا من الثبات قد يقارب اللاتاريخ؟!-، بالإضافة لاختلافهم في الدور الذي تضطلع به عملية «الوصل» هذه أو ما نسميه بـ «التسييق التاريخي» داخل عدتهم المنهجية المشغلة على القرآن بغية إنتاج المعنى.
هذه الاختلافات الممتدة على مستوى المفاهيم الرئيسة والمنهجيات ينتج عنها تباينات عميقة في تصور كل منهم للقرآن من حيث «كينونته»، أي مدى احتفاظه باستقلال تجاه الواقع الجاهلي وتغيرات زمن الدعوة، ولهذه التبيانات انعكاسات كبيرة على برامجهم تمتد من «العمليات المنهجية» الدقيقة، كتعاملهم مع علوم القرآن المتعلقة بعلاقته بالتاريخ -مثل أسباب النزول والنسخ وفكرة التنجيم- وتصل حد تصور كل منهم لطريقة قراءة النص وإنتاج المعنى، مما يعني أننا هاهنا لا نتحدث عن تاريخية واحدة، بل في حقيقة الأمر عن تاريخيات.
الهدف الثاني لهذا المقال هو توسعة اشتغالنا على التاريخية بحيث لا نقتصر على من يمكن اعتبارهم «تاريخانيين محترفين»، أي هؤلاء الذي يمثل القرآن وآليات قراءته محور اشتغالهم الرئيس، وربما الوحيد، مثل أركون ونصر وفضل الرحمن، ليشمل بعض المفكرين الذين وإن لم يعرف عنهم اشتغالًا رئيسًا على القرآن أو منهجيات قراءته وتأويله، إلا أن كتاباتهم تناولت علاقة «الوصل» هذه، وطرحت أفكارًا ورؤى تتعلق بكينونة نص القرآن وعلاقته بتاريخ تشكله؛ نتحدث هنا بالأساس عن مفكرين اثنين هما: عبد الله العروي وهشام جعيط.
حديثنا عن العروي يتعلق بكتابه الأخير «السنة والإصلاح» والذي تحدث فيه عن القرآن وعن إبراهيم «الراموز»، وعن أمية النبي، وعن مفاهيم «العهد» و «النداء» و «التوبة»، إلى جانب طرحه أسئلة تتعلق بالقرآن وقراءته، وأي ترتيب هو الأفضل لتحصيل الفهم، الترتيب الحالي في المصحف، أم ترتيب النزول، أم ترتيب ثالث؟، وهي أفكار وتساؤلات مهمة لموضوعنا حيث تتعلق بتصور معين لـ «تاريخ» الإسلام والقرآن، ولكينونة القرآن.
أما جعيط، فبسبب من كون القرآن هو مصدره (الرئيس) لكتابة السيرة، فقد كان عليه أن يتساءل عن علاقة القرآن بالتغيرات السياسية والدعوية الحاصلة في تاريخ نشر محمد لدعوته، وهل من الممكن الحديث عن وجود تغير في القرآن استجابة لتغير الواقع الدعوي كما يقول بعض المستشرقين أم لا؟، وهي أسئلة تتعلق كذلك بإشكال كينونة النص وعلاقته بالتاريخ، ما يبرر لنا القيام بهذه التوسعة ومد إطار البحث في التاريخية لهذين المفكرين.
التاريخ وكينونة النص
ربما الاسم الأبرز في الحديث عن التاريخية هو نصر أبو زيد، وربما هو من أكثر هذه الأسماء إثارة للنقد كذلك. من بين هذه الانتقادات التي صيغت ضد تاريخية نصر أبو زيد[2]، فثمة نقد شديد الوجاهة قدمه له علي حرب في كتابه «الاستلاب والارتداد». فعلي حرب ينتقد قراءة نصر للقرآن في كونها قراءة تهدر «كينونة النص» -و المصطلح لنصر نفسه وصف به القراءة التقليدية في كتابه «مفهوم النص»- أي أنها حين تحبس النص في إطاره الواقعي حيث تعتبره نصًّا «منتَجا» ثم «منتِجا» للواقع، فإنها تمنعه من وقائعيته هو الخاصة، «أي كونه واقعة تفرض نفسها على القارئ»[3]، إذ تحكم عليه هذه القراءة بالانتهاء بانتهاء الوقائع والتصورات التي تنتجه، أو بما ينتج هو من وقائع مآلها التغير الدائم. فوقائعية النص هي وحدها التي تعطيه «قوته وحضوره وصموده».
هذا النقد من حرب شديد الدقة؛ لكن ما نريد التركيز عليه هنا هو أن الإشكال الذي وقع فيه نصر والذي جعله يرهن النص للسياق التاريخي بحيث يفقد أي استقلال تجاه تغيراته، أي يفقد وقائعيته كما يقول حرب، لا يتعلق في ظننا بإصرار نصر على موقع للتاريخ في القراءة أو «وصل الآيات بظروف نشأتها وبيئتها» بتعبير طه، بل يتعلق بماهية «التاريخ» الذي يُصِرّ نصر على مَوْقَعة القرآن فيه، على الرغم من كونه مختلفًا من حيث «تعيينه» و «طبيعته» عن ماهية التاريخ المستخدَم في قراءات: أركون، العروي، جعيط، فضل؛ الذين يظل للنص عندهم كينونة خاصة في مواجهة التغيرات الجاهلية رغم وصلهم للآيات بتاريخها.
فمن حيث «تعيين التاريخ» الذي يتموقع داخله القرآن، فإن نصر يعين التاريخ المراد اختراقه داخل نظام القرآن والمسئول عن تشكيل مفاهيمه وتشريعاته بالتاريخ القرشي العربي، ورغم أن نصرًا يذكر صلة هذا التاريخ بالتوحيدية الإبراهيمية ممثلة في ظاهرة الحنفاء تحديدًا، إلا أنه وفي بحثه عن مفاهيم القرآن ودلالتها فإنه يرجعها لتاريخ قرشي كأنه خالٍ من الإبراهيمية، يتضح هذا في إرجاعه صورة الله في القرآن لتصور العرب للملوك، وقصص الجن والشياطين والسحر لتصورات القرشيين الأسطورية، مع الغفلة عن صلة كل هذه التصورات بالكون التوحيدي الإبراهيمي. سبب هذا أن دين إبراهيم في تصور نصر لتاريخ قريش لا يتعدى كونه أيديولوجيا الطبقات الطامحة للتغيير ضد الطبقات المسيطرة[4]، مما يعني أن التاريخ الذي يُموْضِع نصر القرآن فيه هو تاريخ قرشي معاد تركيبه بحيث يخلو من التوحيدية الإبراهيمية المختزلة لمستوى الأيدولوجي.
يتحدث العروي عن كون الإسلام هو الوريث لـ «نداء إبراهيم» و «عهده»، كأفق لـ «وعي كوني»، و«راموز» للحظة انفصال الإنسان عن الكوزموس.
هذا التاريخ الذي يتحرك فيه نصر يختلف كثيرًا عن التاريخ عند البقية، حيث التاريخ مع البقية أكثر اتساعًا. فقراءة القرآن «قراءة تزامنية» عند أركون لا تقف عند حد تاريخ الدعوة المحمدية ولا حتى فيما يسبقها في «المدة القصيرة» المليئة بالإضرابات التي يحكي عنها نصر، بل تقضي بإدراج خطاب القرآن -وقصصه خصوصًا- في «المدة الطويلة جدًا»، بمصطلحبروديل، وتتسع هذه المدة عنده فلا ترتبط فحسب بالكتب التوحيدية الإبراهيمية (الإنجيل والتوراة)، بل تتعداها «لتشمل الذاكرات الجماعية الدينية في ثقافة الشرق القديم»[5]. الأمر نفسه مع العروي في حديثه عن كون الإسلام هو الوريث لـ «نداء إبراهيم» و «عهده»، غير أن إبراهيم هنا ليس مجرد طبقة تاريخية قد تصل للمدة الطويلة أو الطويلة جدًا كما عند أركون، بل كأفق لـ «وعي كوني»، و«راموز» للحظة انفصال الإنسان عن الكوزموس، وهي لحظة كونية، تجعل العروي حتى لا يستبعد وجود إبراهيميات في ثقافات أخرى.
هذا الاتساع في معنى «التاريخ» والذي يمتد من الزمان المتوسط للطويل (أركون) للتاريخ الرمزي والحكائي (العروي)[6] الواصل حدود اللاتاريخية أو «ما بعد التاريخية»، بمصطلح المصباحي، هو ما يجعل للنص كينونة خاصة في مواجهة التاريخ القرشي وتاريخ الدعوة، هذين التاريخين الذين قضى نصر على النص بالانحصار فيهما فتم إهدار أي كينونة له.
هذه الكينونة المستقلة للنص تظهر في بلورة «خطوات منهجية» شديدة الأهمية في عملية القراءة وإنتاج المعنى، منها حديث أركون عن «ألسنية خاصة للنص»، بما يعنيه هذا من أن كون العربية هي لغة القرآن لا يعني أبدًا عدم تميز لغته، أو ارتهانه للعربية لأسالبيها وتصوراتها، فلغة القرآن مختلفة عن اللغة العربية من حيث طبيعتها كلغة دينية لها آلياتها الخاصة في «توليد المعنى وتشكيل الوعي» عبر القص وإشارية الضمائر والعلامات الزمانية والمكانية المحوَّلة لرموز. فالمفردات المذكورة في القرآن وفقًا له «لا تستخدم لذاتها، وإنما كعلامات ورموز إلى أشياء أخرى تتجاوزها، مرتبطة بمفاهيم العهد والميثاق والحياة والموت والإيمان والكفر»[7].
المفردات المذكورة في القرآن، وفقًا لأركون، لا تستخدم لذاتها، وإنما كعلامات ورموز إلى أشياء أخرى تتجاوزها، مرتبطة بمفاهيم العهد والميثاق والحياة والموت والإيمان والكفر.
هذه الرمزية القرآنية الخاصة تحقق ما يتحدث عنه علي حرب من احتفاظ النص بوقائعية خاصة[8]، وطبيعي للغاية أن الاختلاف بين رؤية نصر وأركون للتاريخ ولكينونة النص تمتد إلى فكرته هذه عن الألسنية الخاصة، وما يرتبط بها من حديث أركون عن «وحدة النص»، وانسجامه الكلي «كعمل كلي واحد حيث تتشابك كل مستويات الدلالة والمعنى، تستند إلى ما كان قد دُعي بالنسبة للتوارة بـ «البنية المركزية للميثاق»[9]، أي كل ما يتعلق بكينونة النص، حيث أن نصرًا، ورغم عدم اعتراضه على تميز اللغة الدينية، إلا أنه لا يرى هذا مبررًا للبحث عن ألسنية خاصة لها، فضلًا عن اعتباره حديث أركون عن الوحدة محض تطمينات أو ترضيات. تلك القراءة من نصر غير سليمة في ظننا، حيث أن خلافه مع أركون ليس خلافًا في مقدار «التطمينات» المقدمة للمخالفين بل في تصور كل منهم للتاريخ، ولعل نصرًا نفسه يلمح ذلك حين يتحدث عن كون «تزامنية أركون عليها أن تتعلق بالزمن المحدود بدلًا من الزمن غير المحدود»[10]، فخلافهم هو خلاف في معنى التاريخ محدود/غير محدود وما يرتبط به من تصورهم لكينونة النص ووقائعيته وما يتعلق بهذا من عمليات منهجية.
كذلك تظهر هذه الكينونة المستقلة مع العروي في عدم تثمينه قراءة للقرآن بترتيب النزول. فلأن النص غير مرتهن لواقعه وتغيراته، أو لحظته المحدودة التي نعرفها من أسباب النزول بلغة نصر، فإن قراءته وفقًا لترتيبه الزمني فحسب قد تهدر معناه. يقول العروي في جملة مكثفة عن ترتيب النزول: «علم ينفع؛ لكن لا يكفي»، و يقترح قراءة بتسلسل «أعمق من التسلسل الزمني، لا يعاكسه بالضرورة لكنه لا يوافقه تلقائيًّا، تسلسل يشهد على الصدع والكشف، على الانغلاق والانفتاح»[11].
فجعيط ينتقد هذه القراءة الاستشراقية التي تقول بوجود تغيرات في القرآن سببها تغير الواقع السياسي والدعوي وتغير أطراف المساومات المحمدية.
هذا الاتساع في التاريخ المستحضر في قراءة القرآن وما يتبعه من احتفاظ بـ «كينونة للنص» وما ينتج عنه من «خطوات منهجية» في القراءة، نجده أيضًا عند جعيط في كتابته للسيرة، فجعيط ينتقد هذه القراءة الاستشراقية التي تقول بوجود تغيرات في القرآن سببها تغير الواقع السياسي والدعوي وتغير أطراف المساومات المحمدية، حيث يمد جعيط تاريخ القرآن ولغته ومفاهيمه –خصوصًا عن الوحي وجبريل- لآفاق أعمق تتعلق بالإبراهيمية في نسختها المسيحية الشرقية، مما يعطيه كينونة خاصة تجعل جعيط يتحدث عن «إستراتجية التكشف»[12] ليفسر ما يظن أنه تغير في مواقف القرآن، مفهوم «إستراتيجية التكشف» إذن هو مفهوم منهجي هدفه ضبط العلاقة بين نص له كينونة خاصة وواقع متغير كان محمد يتحرك فيه بـ «جهوزية تامة» دون تغيير أفكاره التغييرية.
وهذا «التكشف» الذي يتحدث عنه جعيط لأفكار مكتملة يشبه عند فضل ما يمكن لنا أن نسميه «تهيكل» القرآن في الواقع الجاهلي، حيث المسائل القرآنية الكبرى عند فضل تأخذ مركزيتها وتشكلاتها وتهيكلاتها كحقول مفاهيمية من خلال التفاعل مع السياق الجاهلي العقدي، لكنها ليست أبدًا نتاجًا له أو ردًّا عليه.
هذا يعني أن جعيط وفضل يستعيدون في قراءاتهم للقرآن التاريخ القرشي وتاريخ الدعوة (أي التاريخ قصير المدة)، لكن لا لتفسير تصورات الإسلام ومفاهيمه عبر هذا التاريخ كما عند نصر، بل فحسب للوقوف على «تكشف» هذه المفاهيم و«تهيكلها» في الواقع، وهذا ما قصدناه باختلاف التاريخانيين في الدور الذي يلعبه «وصل الآيات بظروف نشأتها» أو في «التسييق التاريخي».
فالفارق مع هؤلاء جميعًا وما جعلهم ورغم استحضارهم لـ «التاريخ» لم ينفوا احتفاظ النص بكينونة خاصة في مواجهته عكس ما حدث مع نصر، هو اختلافهم معه في ماهية «التاريخ» من حيث تعيينه، فاستحضار التاريخ لا يعني ببساطة إهدار كينونة النص، هذا ما تقوله قراءات أركون والعروي وجعيط، التي وبسبب رؤيتها للتاريخ تعطي للنص كينونة خاصة، تجعل استحضار حتى التاريخ الضيق «تاريخ قريش وتاريخ الدعوة» يعمل لا على تفسير النشأة كما عند نصر بل على تفسير «التهيكل» و «التكشف» كما رأينا عند جعيط وفضل.
طبيعة التاريخ
السبب الآخر لاختلاف مفكري التاريخية في التعامل مع «كينونة النص»، هو الخلاف بينهم في النظر لـ «طبيعة» التاريخ. فلأن نصر يعطي للتاريخ معنى التغير الدائم، فإنه يخلط بين احتفاظ النص بكينونته تجاه الواقع وبين وجود التاريخ داخل نظامه، فيجعل كينونة النص مرتبطة بتصور طبيعته كنص له وجود أزلي سابق على دعوة محمد، في حين تاريخيته تعني فورًا عدم ثباته وإهدار «كينونته»، فكأن ثبات المعنى رديفا للإطلاق[13] يرتفعان سويًّا ويحضران سويًّا، لذا فإن نصر في معرض دراسته الذي ذكرناها بالأعلى عن أركون يتساءل: «كيف يمكن القول بوحدة النص مع التاريخية؟»، كاشفًا عن تعارض الوحدة والتاريخية.
أما بالنسبة لأركون والعروي، فالنص عندهم يحتفظ بكينونته ووحدته في مواجهة ملابسات الدعوة وتغيراتها، ليس هذا بسبب لا تاريخيتهم بل بسبب أن تصوراتهم للتاريخ القائم في النص والذي يُقرأ النص من خلاله لا تتحرك في هذه الثنائية التي تحكم فكر نصر، بين تاريخ قصير المدة يضيع منه أي ثبات من جهة وبين أزل وإطلاقية وثبات في جهة أخرى. فتبنيهم مفاهيم التاريخ الطويل والتاريخ الحكائي يجعلهم تاريخيين يحمل تاريخهم قدرًا من الثبات قد يقاربهم من اللاتاريخية، فكأن الثبات لا يعني الأزلية كما يتصور نصر، بل هو أحد طبائع التاريخ ذاته!.
ما ذكرناه من خلافات حول «التاريخ» و «كينونة النص» له انعكاسه لا على «الخطوات المنهجية» التي يبلورونها في القراءة فحسب، بل كذلك على تفاصيل دقيقة في «العمليات المنهجية» لهؤلاء المفكرين، خصوصًا تعاملهم مع أسباب النزول والنسخ وعلوم القرآن التي تتحدث عن علاقة القرآن بالواقع. فالأمر ليس، وكما يقول طه عبد الرحمن عن كون «التاريخانيين» يلجأون لهذه العلوم لإثبات ارتهان النص للواقع، ففي هذا المحدد المنهجي الدقيق أيضًا يختلف التاريخانيون؛ فبينما بالفعل يثمن نصر أسباب النزول لإثبات ارتهان النص للواقع وخلوه من أي وحدة أو كينونة خاصة أو مركز دلالي، فإن أركون مثلًا يرفض هذا العلم كله، ويضع بدلًا عنه فكرته عن «ظرف الخطاب»، وهو مفهوم هدفه الوصول للقرآن في مرحلة الشفاهة «الظاهرة القرآنية»، ولهذا المصطلح صلة بوحدة القرآن وما قلناه من انسجامه التركيبي والدلالي، ما يعني أن خلافات التاريخية ممتدة من «التاريخ» لـ «النص وكينونته» لـ «خطوات منهجية» منها «دور التسييق التاريخي في القراءة» لمحددات منهجية شديدة الدقة.
رهان المعنى و«التاريخية المركبة»
ما حاولنا توضيحه في هذا المقال من خلاف التاريخانيين حول «كينونة النص» يجد أهميته في كون الخلاف في كينونة النص يعني أصلًا خلافًا في رهان المعنى، حيث لا تعِد برامج القراءة التي أمامنا بنفس الوعود بسبب اختلافاتها شديد العمق هذه، فقراءات أركون أو تصورات العروي وما تنطوي عليه من إدراك لكينونة النص بسبب تعدد طبقات تاريخه وبنيته الرمزية الحكائية تعد بقراءة منفتحة لنص مليء بالمسكوتات والغائبات، قراءة تحرك رموزه وتنفتح على «العجيب المهدش» وتنتقل من التاريخ لما وراءه.
بينما قراءة نصر وحين تموضع القرآن في تاريخ قرشي قصير المدة معزول عن التوحيدية الإبراهيمية وعن التاريخ الأطول للجزيرة، وتتحدث عن قرآن يتماشى مع تغيرات الدعوة واقعيًّا. وتتجاهل الرمز والأسطورة وأهمية وظائفهم الكشفية، فإنها تحول النص لنص بلا أية مسكوتات، نص لا يملك أي قدرة على الحركة، -من أين ستأتي الحركة والقرآن محصور بلا رمز في تاريخ ضيق؟- مما يعني أنها تعد بقراءة شديدة السكون.[14]
إن استحضار سياق الآيات التاريخي أو «وصل الآيات بظروف نشأتها وبيئتها» كمحدد في عملية التفسير لا ينتج شكلًا واحدًا من التاريخية أو من خطط الأرخنة وعملياتها المنهجية وخطوات القراءة، في حقيقة الأمر إنه ينتج طيفًا من برامج قراءة شديدة التباين، تتحرك من «التاريخية الواقعية» لو أسمينا تاريخية نصر بهذا الاسم إلى ما يمكن أن نسميه استعارة من المصباحي بـ «التاريخية المركبة» مع أركون والعروي، جعيط وفضل، مع العلم بأن هذه الأخيرة ليست هي أيضًا سوى طيف!.
[1] روح الحداثة، طه عبد الرحمن، صـ 184.[2] ارتأينا أن نجعل نصر هو محور التناول ثم نقارنه بغيره من المفكرين حتى التاريخانيين المحترفين؛ بسبب عدم شهرة فضل للقارئ العربي كثيرًا، وبسبب عدم إنجاز أركون قراءات مكتملة وبقاء كثير من أفكاره في إطار مشاريع البحث غير المنجزة. [3] الاستلاب والارتداد، علي حرب، صـ 101.[4] مفهوم النص، نصر أبو زيد، صـ73.[5] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون،ص40.[6] حسب ما وصفه به محمد المصباحي في دراسته المدهشة عن كتاب العروي تحت عنوان «من التاريخانية إلى مابعد التاريخانية».[7] الفكر الإسلامي، قراءة علمية، محمد أركون،ص193.[8] الرمزية التي نتحدث عنها هنا مختلفة عن تلك التي يذكرها علي حرب باعتبارها تضيع وقائعية النص مثلها مثل المذهب الواقعي، فبينما هو يقصد تحويل النص لرمز أي شاهد وآية، فإننا نتحدث عن الرمز بما له من قدرة على الكشف عن التجارب الحدية، أي بما يعطي للنص حضورًا وقوة وصمودًا وحركة. [9] الفكر الإسلامي، قراءة علمية، محمد أركون،ص201.[10] الخطاب والتأويل، نصر أبو زيد، صـ120.[11] السنة والإصلاح، عبد الله العروي، صـ104.[12] تاريخية الدعوة المحمدية، هشام جعيط، صـ194.[13] يقول نصر في «النص، السلطة، الحقيقة»: «وبما هو (تاريخي)، فإن معناه لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني، أنه (لا يتضمن) معنى مفارقًا جوهريًّا (ثابتًا) له إطلاقية المطلق وقداسة الإله، على عكس يقضي مفهوم (الأزلية) بـ (تثبيت) المعنى الديني». في هذا فإن نصر يتفق تمامًا مع خصومه في تصورهم للتاريخ كموضع تغير وهدم ونقض وتشذر، لكن بينما هم يقولون بوجود سابق للنص في اللوح المحفوظ من أجل حمايته من هذا الوقوع في التاريخ وتغيره وتشذره -أي من أجل حفظ كينونة له-، فإن نصر يرفض احتفاظ النص بأي كينونة أو وحدة متماسكة بسبب تاريخيته بالذات.[14] ولعل هذا الحصر للقرآن بلا حركة تتيحها كينونتة الخاصة، هو السبب في أن نصر حين سيتحدث عن مسكوتات النص بغية تحريكه وعدم تصنيمه واستنفاذه بالواقع كما حذر حرب، فإنه وللمفارقة لن يأتي بها –وهو التاريخي- من التاريخ –حيث تاريخه لا متسع فيه لذلك-، ولا من ألسنية القرآن الخاصة -وهو الألسني-، بل سيأتي بها من مجموعة من مقاصد جديدة تمثلها أفكار العقلانية والحرية العدل، تسقط على النص من خارجه وتقرأ باعتبارها مسكوتاته «مغزى النص» كي تمنحه كينونة مستقلة تجاه الواقع الجاهلي والمحدد لفعله فيها، وهذا موضوع سنتناوله تفصيلا في مقال قادم عن «التاريخية والتلفيقية»، حيث نرى أن نصر وأمام سكون نصه وانحباسه لم يجد سوى التلفيق والقراءة الإسقاطية لتحريكه.