هشام يخفي سرًا – الحلقة الرابعة
الحلقة الأولى – الحلقة الثانية – الحلقة الثالثة
هكذا ابتعد حلم الزواج جدًا.
هناك فترة حداد ينبغي أن تمر، وهناك ليالٍ كئيبة وتلفزيون لا يفُتح وثياب سود … إلخ. نحن أسرة مصرية ويجب أن نحزن جدًا. قبل موت فرد من الأسرة يكون البيت كفتاة عذراء نضرة، ثم يأتي الموت فتفقد الفتاة عذريتها ويتجعد وجهها بالخبرة المروعة للأبد.
كان عليّ كذلك أن أعتاد نظرة الاتهام من أمي وأخواتي باعتباري (قتلت الرجل)، وهو اتهام لست على استعداد للنظر له بأي جدية.. كل واحد منا يحمل في خلاياه تاريخ الإعدام وطريقته، وليس ذنبي أن كانت ساعة إعدام أبي هي لدى عودتي من الخارج مع هشام. لم يكن الاستفزاز قويًا لدرجة القتل، بل إن من أهين بشراسة هو أنا..
لم تكن تلك هي المشكلة..
كانت المشكلة هي خوفي وتوجسي من نفسي. الأمر قد تجاوز عشوائية الحظ.. لا يمكن أن يوجد كل هذا القدر من المصادفات في مكان واحد. سمعت عن أشخاص لهم نظرة قادرة على فلق الحجر، ورأيت التأثير العجيب للحسد، لكني لم أر قط من يكرهك لدرجة أن تموت.. لهذا وُلد تعبير (لو أن النظرات تقتل) على نفس وزن (لو أن الأفيال تطير)، لأن النظرات ببساطة لا تقتل. دعك من أنني لم أكره أبي قط.. الخلاف والاحتداد لا يعنيان الكراهية… ولا شك أن موقفي وحياتي من دونه صارا أعقد وأكثر كآبة.
جربت نفسي في مشادات أخرى.. وتشاجرت مرتين مع زميلة عمل ومع المدير، ودخلت في مشادة عنيفة مع شقيقتي ليلى.. أزعم أنني بالغت في استفزاز نفسي وإقناعها بأنني أكره خصمي، وهذا كي أوصل الاختبار إلى ذروته القصوى، وفي كل مرة كنت أكتشف ان موهبتي ليست حاضرة..
لم يحدث شيء لهن لحسن الحظ.. وهكذا كان علي أن أكون نظرية خاصة هي أنني أؤذي من يؤذي (هشام) على الأرجح.. هذه موهبة من نوع خاص بالتأكيد، وإن كنت لست فخورًا بامتلاكها إن كانت هي سبب وفاة أبي.
أما عن هشام فقد كان يتعامل بدرجة بالغة من الندم والشعور بالذنب. يوشك على أن يرتمي باكيًا ويصرخ:
-ـ«أنا قتلت ذلك الرجل الطيب.. اشنقوني».
وتوقعت أن يكون أحمق إلى الدرجة التي أخشاها: «صفاء.. لا أستطيع الارتباط بك لأن جثة أبيك ستظل بيننا للأبد.. لن أنسى ما حييت أننا كنا السبب في وفاته.. الوداع»
كنت أتأهب لهذه العبارة، وأتأهب لرد منطقي مقنع، فإن لم يقتنع تأهبت لأن أنفجر فيه – ابن الـ…. – وأغرقه بالشتائم. لكنه لم يقلها لحسن حظه.
فقط كان متحفظًا وبالطبع كفّ عن زيارة دارنا. كل لقاءاتنا كانت تتم خارج البيت.. كأنه لا يريد لأمي أن تستقبل قاتل زوجها والذي يتّم بناتها.
الحقيقة أنه كان يعرف كيف يتصرف.. لا أعرف الطريقة السحرية التي ظل يضع بها القصائد في درج مكتبي، أو يضع زهرة حمراء على تابلوه سيارتي.. سيارتي التي تقف أمام المكتب ومغلقة بإحكام. كيف استطاع هذا الشيطان أن يفتحها ليضع الزهرة فيها ثم يغلقها ثانية؟
كنت أسأله عن الحيلة التي لجأ لها فيبتسم في رقة ويرفض التفسير..
المرأة العاشقة تتصرف ببلاهة أحيانًا، أو هي تختار أن تتصرف ببلاهة لأن هذا يروق لها.. لكن التفسير الجاهز الذي يريحني كان دومًا: «هشام يخفي سرًا». وهو سر غامض يمنحه سحرًا وهاجًا..
قدرت أن أمامنا نحو عام ثم نواصل خطة الزواج السابقة.. لن أخشى أن يفر أو تخطفه أخرى، فأنا أحكم لف خيوطي حوله. أشد بعضها وأرخي بعضها كأفضل لاعب ماريونيت في العالم. لا خبرة لي في هذه الأمور لكني وجدت أنني أجيدها ببراعة. لا شك أننا نحن النسوة نولد بموهبة فطرية شبيهة بموهبة القطط في صيد الفئران.
لكن الأمور لم تكن لتسير بهذه البساطة كما تعرف يا كمال.. قلت لي إن اسمك كمال أليس كذلك؟ لم تقله؟ لا يهم. سأعتبرك (كمال) إلى أن أنهي قصتي..
***************
توفي نائب المدير. المهندس (ثروت). عرفت هذا عندما ذهبت للعمل بعد إجازة ثلاثة أيام، ولم اتصل بهشام في غضونها. كان (ثروت) رجلًا سمجًا ثقيل الظل، لكني لم أكرهه لدرجة أن أتمنى موته.. طراز الرجل الذي يعتقد أنه فاتن، وأن كل أنثى تخدع نفسها عندما تتظاهر بأنها لا تهيم به حبًا. توفي في ميتة من تلك الميتات الغريبة التي بدأت تتكرر مؤخرًا.. لدينا مطبخ صغير في المكتب، وقد دخله ليعد لنفسه بعض الإسبريسو، فهو مصر على أن أحدًا لا يجيد صنعه كما يريد. بعد ربع ساعة دخل العامل المطبخ ليجد جثة ثروت.. لقد صار هذا مملًا بالفعل. لم تعد هذه شركة بل هي أقرب لغرفة إعدام.
لا داعي لقول إنه لا توجد آثار عنف أو أي سبب واضح للموت. كالعادة يقولون إنها نوبة قلبية ويكتب الأذكياء عبارة (هبوط حاد في الدورة الدموية والتنفسية)، وهو تعبير سخيف لا يقول أي شيء. بالضبط كأنك تقول إن سبب الوفاة هو مجئ الأجل. كلام صحيح لكن لا قيمة له.
روضينا سكرتيرة شابة رقيقة تعمل معنا، وكنت أرتاح لها لكني كنت أشعر بالكثير من التحذلق في إصرارها على أن تكتب اسمها بهذه الطريقة.. تمسك بقلمك وتعدل اسمها وتنطقه بصوت عال، بينما الكل يصر على كتابته ردينا أو ردينة.. قالت لي روضينا وهي ترتجف:
-ـ«سبحان الله. قبلها بيوم بعد مشادته مع المهندس هشام، قلت لنفسي إن قلبه سينفجر!»
هنا نظرت لها متحفزة:
-ـ«هل تشاجر مع هشام؟»
-ـ«كان الصياح يصل للطابق السفلي… لم أسمع المهندس هشام يطلق هذا الكم من الشتائم من قبل»
رحت أراقب الجسد المسجى الذي يحملونه على محفة. لقد بدأ عهد الرعب في الشركة.. هدى وثروت.. ثم ذلك الزبون الوقح صفوت.. لم يعد الأمر صدفة. ترى كم من الوقت يجب أن يمر قبل أن يقرر مدير الشركة فضها؟ فليذهبوا للجحيم.. المهم أن يكون هشام معي..
بالمناسبة… يمكن القول إن هذه الحادثة فارقة. هذا رجل مات دون أن يغضبني ودون أن أعرف أنه يغضب (هشام)…
ابتلعت ريقي في رعب… بالفعل هشام يخفي سرًا..
يمكن تعديل النظرية قليلًا لتكون: كل من يضايق (هشام) يموت.. هدى.. صفوت.. أبي.. ثروت..
أليس هذا صحيحًا؟
هناك تعبير شعبي يقول: (اللي ييجي على فلان ما يكسبش)، ويبدو أنه ينطبق هنا حرفيًا. كل من ضايق هشام مات ميتة مرعبة…
لكن هل يمكن لهذا الهراء أن يغير مستقبلي؟ هل لهذه المصادفات الغريبة أن تجعلني أغير مسار خططي؟ بالطبع لا وإلا لكنت أحمق الحمقى..
عندما عدت للبيت كنت غارقة في أفكاري السوداء هذه…
كان الوقت مساء، فتناولت العشاء الذي تركته لي أمي في المطبخ.. كانت الفتيات الثلاث جالسات مع أمي يشاهدن التلفزيون الذي تم إطلاق سراحه مؤخرًا، بعد ما رأت أمي أنها عبرت عن حزنها لفترة كافية..
-ـ«مساء الخير..»
قلتها ودخلت غرفة نومي..
هنا تصلبت عند الفراش.. الأمر صار غريبًا بالفعل وأقرب للخطر..
هشام لم يزرنا منذ وفاة أبي. إذن من أين جاءت قطعة الشيكولاته الملفوفة بشريط مخملي أحمر هذه؟ ومن وضعها على الوسادة؟ ربما تم هذا بالاتفاق مع واحدة من أخواتي، لكني كنت أملك يقينًا غامضًا في عظامي أن هذا لم يحدث…