هشام يخفي سرًا – الحلقة الثانية
كما توقعت ..
السيارة تقترب .. تدنو مني .. تتحرك بنفس سرعتي. أنظر إلى السائق فأرى وجه هشام المحتقن. في كل مرة يحطم جدارًا من جدران خجله، ثم يندم جدًا بعدها. نظرت له بتلك النظرة التي صار يعرف معناها.
قلت له في حزم وقد شددت قامتي:
-ـ«باشمهندس هشام، واضح أنك تلقيت إشارات خطأ بصددي، أو لربما أنا ضحية وغد حاول تشويه سمعتي».
أخرج رأسه من النافذة الجانبية، وقال بنفس طريقة الصبي المذنب إياها:
-ـ«أنت من تسيئين فهمي .. لو سمحت لي بأن أوصلك فلسوف أحكي كل شيء في الطريق ..».
-ـ«أنت تعرف أن سيارتي في الشارع المجاور».
طبعًا تمنعت قليلاً، لو كنت تظن أنني من الفتيات اللاتي يركبن سيارة شاب لمجرد أنه طلب ذلك ثلاث مرات فأنت مخطئ .. لابد من أربع مرات. فتحت الباب الجانبي مع المرة الرابعة، وجلست وشعرت بنعومة البطانة وبرد التكييف. سيارته أغلى من سيارتي بمئة ألف أو أكثر .. رائحة عطرية مدوخة جميلة.
-ـ«طلباتك؟».
قلتها في نفاد صبر، فارتبك أكثر .. ثم وجد أنه يجب أن يكون سريعًا حاسمًا لأنني نافدة الصبر كالإعصار .. أريد مقابلة أبيك. البيت المشترك .. حياتنا معًا .. كل شيء سيكون له طعم معك .. إلخ .. هكذا يردد بالضبط الكلمات التي أردت أن يقولها ..
حدث شيء غريب بينما هو يصغي لكلامي.. لقد تقلص وجهه في ألم وانثنى على نفسه لتصدم ذقنه إطار السيارة .. كان يعاني ألمًا مريعًا .. وراح يتحسس عظمة القص كأنه يحاول تحطيمها..
-ـ«هل .. هل أنت بخير؟».
مرت لحظات .. ثم راح يجفف العرق عن جبينه وبدأ لونه الشاحب يكتسي بلون الدم، ثم قال لاهثًا:
-ـ«لا شيء .. آلام المرارة .. يجب أن .. جراحة».
مرارة خلف عظمة القص؟ حتى أنا أعرف جيدًا أنها تحت حافة الضلوع اليمنى، وتسبب ألمًا في الكتف على نفس الجهة. هشام يخفي سرًا .. لا شك في هذا ..
في النهاية قلت له إنه يجب أن يدخل البيت من بابه، بينما هو يدور في الشوارع ليقودني إلى حيث تنتظر سيارتي .. ترجلت من السيارة فقط ليطلب مني رقم هاتف أبي. لقد نجحت .. أدرت محرك سيارتي وأنا أدرك أنني انتصرت. سوف تسكرني لذة الظفر هذه الليلة.
الموعد كان في بيتنا في الثامنة مساء الخميس .. اشترت ليلى الجاتوه السواريه، بينما اشترت مي المياه الغازية، واشترت سامية المانجو الذي سيقدم كعصير .. أبي ارتدى بذلته الرمادية وارتدت أمي ثوبها الأسود الأنيق، وعطرت رائحة الشقة، وقمنا بتمشيط فراء القط ..
هكذا جاء هشام مع أمه.. وكان وسيمًا كالعادة. أدركت بسهولة أن أمه سوف تموت بسرعة .. هذا التنفس اللاهث واحتقان الأوردة. سوف ترحل بسرعة وتترك جوهرتها لي .. شكرًا لك يا (حاجّة) .. سوف أتولى القيادة من هنا ..يمكنك أن تستريحي في فراشك أو في القبر لا مشكلة ..
في منتصف الجلسة تقلص وجه هشام، وبدا عليه ألم شديد .. توترت الأم بدورها وسألته همسًا عن شيء ما فهز رأسه .. ثم طلب أن نسمح له بدخول الحمام. كان هذا طلبًا عسيرًا لأن أمي نسقت ديكورات المكان كما يحدث في المسرح .. خشبة المسرح أنيقة معدة بعناية بينما الكواليس قذرة مليئة بالخيش والغبار والفئران. قال هشام وهو يضغط على أسنانه:
-ـ«معذرة .. آلام مرارة .. ».
نهضت أمي مسرعة ومعها ليلى .. المطلوب عملية تنظيف سريعة للحمام والممر المؤدي له. ثم تعود بوجه ممتقع لتسمح له بالذهاب للحمام. صوت السيفون .. صوت المياه في حوض الوجه .. عندما عاد كان شاحبًا لكنه في حالة أفضل ..
قلت لنفسي إن حساسيته شديدة لذا تقلصت أمعاؤه وكان لا بد أن يدخل الحمام. هذه تجربة غير مسبوقة بالنسبة له. لقد كان نصري كاملاً وقبل كل شروط أبي .. حتى أن أمي راحت تنظر لي بنظرة خفية معناها (ماذا – فعلت – لتسحريه – يا شيطانة -؟).
أنا سأتزوج خلال أشهر. سأفوز بأوسم وأغنى مهندس في المكتب .. شكرًا لك يا أم هشام على هديتك..
***************
يجب أن أحكي لك قصة وفاة هدى ..
أنا لا أحب هدى ولا أطيقها .. رائحة عطرها تخنقني، ولها ملامح غريبة لا تطيق النظر لها. تقيم هدى في شقة رخيصة مع أمها وأخيها .. وهي غير متزوجة. لا يوجد أحمق يتزوج هذه على الأرجح.
قالت التحقيقات فيما بعد إنها تناولت عشاءها مع الأسرة، ثم أعلنت أنها ستأخذ حمامًا قبل النوم. قالت أمها إن هذا سوف يؤذيها .. لا أحد يستحم بعد الطعام مباشرة، والحقيقة أنها كانت دقيقة جدًا .. لم تتصور أن يصل الأذى إلى درجة أن تموت ابنتها..
هنا لغز لا بأس به .. الفتاة دخلت الحمام في العاشرة مساء، والحمام مغلق .. ولا توجد به سوى نافذة صغيرة أقرب لفتحة تهوية؛ أي أنه لو أراد طفل في السادسة أن يجتازها فلسوف يفشل. لا يوجد سخان يعمل بالغاز ليكرر سيناريو التسرب إياه.. لا يوجد تفسير ..
بعد ساعة تأخرت أكثر من اللازم وكان أخوها بحاجة إلى دخول الحمام فراح يدق الباب.. لا يوجد صوت دوش. تبادل نظرة قلقة مع الأم. ثم بعد لحظات لوى المقبض بعنف وهو يضرب الباب بكتفه. كانت هناك على الأرض ثانية ركبتيها، وقد أراحت رأسها على حافة المغطس، وكان ينزف بغزارة. كانت بثيابها .. لم تجد الوقت الكافي لتتعرى، وقد أدرك من النظرة الأولى أنه لم تعد ثمة جدوى .. لقد فرغت الحياة منها.
عندما جاء رجال الشرطة قاموا بفحص الحمام، ولم يكن هناك شيء غريب سوى أن النافذة الصغيرة مفتوحة، وهذا شيء غريب بالنسبة لفتاة تنوي الاستحمام، لكن النافذة لا تسمح بمرور شيء خطر. بعد تفكير استقر الرأي على أن الفتاة انزلقت فاصطدم رأسها بحافة المغطس .. هذا سيناريو شهير جدًا خاصة مع المسنين.
يذكر الأخ أن عنق الفتاة مهشم .. لا يعرف تفسير ذلك. لقد سقطت على جبهتها لكن ما دور عنقها في هذه القصة؟
هكذا عرفنا الخبر، وكان من الصعب علي أن أصدق أن هذه هي هدى التي اقتحمت علي خلوتي مع هشام منذ يومين. اعتدنا أن نحسب الأشخاص الذين نكرههم أبديين لا يزولون أبدًا. غياب أحدهم خبر سار لكنه نادر الحدوث.
لماذا أحكي قصة وفاة هدى؟
لأنها شبيهة بقصة وفاة صفوت الأمير. صفوت مالك أرض في مجتمع عمراني جديد، وقد كلف مكتبنا بعمل رسم هندسي لفيلا يريد بناءها هناك .. صفوت يبدو كالملاك الأثرياء بشكل كاريكاتوري، بدين .. كرش عملاق .. رضا واعتداد بالنفس .. عوينات سوداء .. فظاظة عند اللزوم ..
لقد طرأ خلاف عنيف بينه وبين هشام، ودخل إلى مدير المكتب وتشاجر واتهمنا بأننا لا نفقه شيئًا ، وأن عليه أن يجد مكتبًا محترمًا .. ورفض أن يشرب القهوة التي قدمها له المدير، وشتم المهندس الأحمق (هشام) وطلب أن يطرده المدير لو كان يريد الاحتفاظ بالعملاء حقًا، وقد اشتطت غضبًا لدرجة أنني فكرت في انتزاع قلبه بأظفاري .. لا تشتم زوجي القادم يا بن الـ …….
غادر المكان وهو يطلق السباب. أما ما حدث بعد هذا فأنت تعرفه .. الجثة الممزقة في المصعد والرعب على الوجه و.. ماذا؟ هل علي أن أحكي هذه التفاصيل أيضًا؟