الطبيب «هشام الوالي»: قربان جديد على مذبح الطب المصري
الكثير من الضحكات العصبية المبالغة فيها تتجمع في فضاء الغرفة، حتى ليظنُّ من يصلُه أصداءُ أصواتهم بالخارج أنهم في حالة من الانبساط السرمدي، وأنهم لم يعرفوا الهمَّ أبدًا. لن يعرف هذا السامع أن مثل تلك اللحظات من الراحة والارتخاء التي يختلسونها في السكن، وينتزعونها انتزاعًا من بين مخالب نوبتجية الطوارئ التي لا تعرف السكينة ولا الرحمة، هي الوقود الهزيل الذي يحاولون به إكمال رحلة اليوم العصيب.
تتطاير النكات يمينًا ويسارًا، أغلبها بالطبع عن الجراحين، الأصدقاء اللدودين لأطباء التخدير، وشركاء أشهر الخصومات الثنائية في الطب. من الجراح الذي قام بتلفيق تحاليل ممتازة للحالة ليقتنع بها التخدير، إلى الثاني الذي لم يستطِع مواجهة أقرباء إحدى الحالات بوفاتها في إحدى العمليات الحرجة، فأخبرهم أنها لم تتحملْ التخدير، إلى الثالث الموسوس في إغلاق الجرح، والذي يؤخر إفاقة طبيب التخدير للمريض… إلخ. انتزعه من قلب تلك العاصفة الخاطفة المؤقتة من الضحك إحساس داخلي غريب لم يشعُر به من قبل. شعر بأنه ليس على ما يرام، هو معتاد على إحساس الإجهاد المزمن السخيف نتيجة النوم غير المنتظم، لكن هذا إحساس من نوع آخر، وأغرب ما فيه اختلاطه بشعور عجيب من راحة فريدة يشمها في الجو، هل للراحة رائحة؟ بالتأكيد، فهو يشمها الآن.
استأذن من الجالسين للذهاب إلى دورة المياه. مر وقت ليس بالقليل قبل أن يلاحظ الحاضرون غيابه. كانت الحالة المنتظرة الآن في غرفة عمليات الطوارئ، فأخذوا يبحثون عنه. رنات عديدة على هاتفه المحمول دون رد، ثم طرقات كثيرة على باب دورة مياه السكن دون رد كذلك. بدأ التوتر يسري في المكان، قرروا اقتحام دورة المياه. شهقات ملتاعة من أعمق طبقات الإحساس، وألف دفقة من الأدرينالين انفجرت في عروقهم. زميلهم الذي كان يشاطرهم بؤس النوبتجية، وراحاتها المسروقة مُلقى على أرض دورة المياه، وقد غزت نظارة وجهه تلك الزرقة المرعبة التي يعرفونها جيدًا، وأناخ صمت القبور ركابه على بابه.
أكثر من ساعة من الإنعاش القلبي الرئوي، ومحاولات مستميتة لالتقاط أية ذرة حياة تائهة في الأثير، لكن قضى الله أمرًا كان مفعولًا. من كان سببًا في عودة العشرات أو المئات من البرزخ بمثل هذا الإنعاش، حكمت المشيئة الإلهية أن تكون هذه المرة الأولى والأخيرة في محاولات إنعاشه.
من آخر ما كتب د. هشام الوالي – رحمه الله – على جروب أطباء الزمالة على الواتس آب، قبل وفاته المفاجئة بساعات.
كان ما سبق هو تصور تقريبي للدقائق الأخيرة من حياة طبيب مصري شاب، بلغ من عمره أربعة وثلاثين ربيعًا، أو الأنسب أربعة وثلاثين خريفًا، اقتنصه الموت أثناء أدائه عمله في مستشفى الطوارئ بجامعة طنطا، بعد أن ابتلعت دوامة الطب المصرية ثلثيْ عمره الغض، وسني الحلم والأمل.
– عامان في الثانوية العامة، ورعب نصف الدرجة.
– 6 أعوام ونصف من الدراسة في كلية الطب وامتحاناتها التي تمتد في السنة الأخيرة إلى 5 أشهر، وما يتخللها من جحيم المنافسة على الترتيب التراكمي من أجل اللحاق بأماكن نيابة الجامعة، والأماكن الأفضل بمستشفيات وزارة الصحة.
– سنة الامتياز التدريبية التي غالبًا ما تضيع في إنهاء بعض المهام اللوجستية غير المفيدة طبيًّا، مقابل فُتات من التعليم، وهو ما يتعارف عليه الأطباء بمصطلح «الشغل الديرتي».
– سنة على الأقل من التكليف في وحدة صحية بالأرياف، تُنسي طالب الطب ما تعلمه في الكلية، وتكون مهمته الروتينية الأولى هي الكشف على بعض المتمارضين من أجل الحصول على المضاد الحيوي لإعطائه للبهائم، أو الظفر بأية أدوية يعتبرونها بمثابة تخليص حق من وطن حرمهم الكثير.
– سنوات النيابة، وما أدراك ما النيابة بين خياريْن يتنافسان في المرارة. إما أماكن قوية يتعلم فيها جيدًا، لكن في المقابل تستنزف الوقت والجهد، فلا يستطيع بجوارها أداء واجبات اجتماعية ضرورية، وإما القيام بالكثير من العمل الخاص لتأمين مصاريفه الشخصية والدراسية. وإما أماكن ضعيفة المستوى، قليلة الحالات، لا يتعلم فيها جيدًا، لكنها تمنحه فائضًا من الوقت والجهد ليستهلكه في الدوران في ساقية العمل الخاص «البرايفت».
سابقون ولاحقون
ليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل تلك الوفاة المفاجئة لأطباء شباب في مصر في السنوات الأخيرة، وبالأخص في التخصصات التي تتعامل مع حالات الطوارئ، والتي تمتاز بالضغط العصبي، وقلة ساعات النوم والراحة. في جامعة طنطا نفسها منذ سنوات، عُثر على إحدى طبيبات التخدير مُتوفَّاة في غرفتها بالسكن الجامعي، ومنذ عاميْن سقط طبيب تخدير في غرفة عمليات مستشفى كفر الشيخ العام، ولم تنجح محاولات إنعاشه، ومنذ عاميْن كذلك تُوفِّيَ أحد أطباء الجراحة بمستشفى بلبيس العام بمحافظة الشرقية بعد مشادة كلامية مع أقارب إحدى الحالات. والقائمة طويلة، ونخشى كثيرًا أنها ستطول.
أخيرًا وليسَ آخرًا، القصة المفجعة التي حدثت العام الماضي لطبيب تخدير شاب عُثر على جثته متحللة بسكن الأطباء المتهالك بمستشفى العجوزة بالقاهرة بعد 5 أيام من وفاته، لم يشعر به أحد من زملائه أو حتى أهله لاعتيادهم على غيابه لأيام متواصلة بين العمل الحكومي والخاص. وليست الظاهرة حصرية لمصر، إنما على سبيل المثال، في جنوب وادي النيل في أبريل 2018م كان هناك واقعة مؤثرة لطبيب شاب يدعى وائل صلاح توفي فجأة بعد نوبتجية لمدة 24 ساعة في مستشفى الشعب بالخرطوم.
في أية لحظة قد تسبب الضغوط النفسية وكذلك الجسدية أزمات قلبية مفاجئة نتيجة توقف عضلة القلب، أو اضطرابات كهربية شديدة في القلب، وتحدث الوفاة.
هل الأطباء ضعفاء، ولذلك لا يتحملون ضغوط المهنة السامية؟
سنأخذ مقطعًا طوليًا افتراضيًا من نوبتجية لطبيب تخدير شاب – كمثال معبر عن التخصصات المحتكَّة بالطوارئ – في مستشفى جامعي، لنعرف لماذا ارتقى هشام وسابقوه، ولاحقوه.
يستيقظ في السابعة صباحًا ليهرع إلى المستشفى من أجل «لستة» العمليات الصباحية، وهو الذي وصل إلى منزله بعد المغرب في اليوم السابق، لأن « اللستة » طولت شوية. بعد انتهاء الحالات الصباحية، هو الآن نوبتجي من أجل الحالات الطارئة حتى اليوم التالي. الحالة الأولى مصاب بـ 3 طلقات نارية في رأسه، وأهله يهددون بنسف المستشفى على رءوس الأطباء الأوغاد إذا لم يخرج من المستشفى سليمًا معافى على قدميه، الحالة الثانية مريض بتليف كبدي متقدم، أصيب بانسداد معوي يحتاج لتدخل جراحي عاجل، واحتمالات الوفاة مرتفعة كذلك، وأهله قاموا بتصوير طبيبي الجراحة والتخدير، لإرسال المقطع للأستاذ فاشل النقراشي الذي نصَّب نفسه مبعوث عناية السماء لكشف إهمال الأطباء، وذلك عندما طلبا منهم توقيع إقرار الخطورة العالية للجراحة.
بعدها راحة استثنائية لمدة ساعة يحاول التقاط أنفاسه، لكنه لا يستطيع النوم بسبب التفكير في امتحان الماجستير الذي اقترب، بينما هو يجد بصعوبة الوقت الكافي للاستحمام، بلْه أن يذاكر، كذلك لا يتوقف عن الدوران في عقله شريط الإهانات التي كالها له الأستاذ المشرف عليه في رسالة الماجستير، والذي طلب منه تعديلات تساوي عمل رسالة جديدة. صوت سرينة الإسعاف يدوي في أرجاء المستشفى، حادثة على الطريق السريع، والنتيجة 3 عمليات جراحية متتالية من نصيبه، توفي 2 من المرضى، لا صوت يعلو فوق صوتِ صراخ الأمهات الثكالى. يكتشف أن أذان الفجر كان منذ ساعتين، يصلي ثم ينتزع ساعة من النوم، ثم يستيقظ من أجل تحضير «اللستة » الصباحية، والتي لحسن الحظ لم تكن تضم سوى حالات، وهكذا أتيح له العودة للمنزل في الرابعة عصرًا. يتناول غداءه، ثم يخر نائمًا على الكنبة حتى العاشرة مساءً، ثم يستيقظ ليشعر باكتئاب ليلة النوبتجية المعتاد، ثم يذهب في الصباح الباكر إلى المستشفى، وهكذا دواليك.
كل ما سبق مقابل مرتب شهري لا يتجاوز في أحسن الأحوال 170 دولارًا شهريًا.
كارثة استنزاف الأطباء.. سيسقط المعبد على رءوس الجميع
الطبيب أ.م. طبيب مقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، وطبيب مقيم سابق بأحد المستشفيات الجامعية المصرية
أوائل سبتمبر 2018، ظهرت نتائج دراسة كبيرة نشرت في دورية الجمعية الطبية الأمريكية JAMA network تتحدث عن خطورة ظاهرة استنزاف الأطباء جسمانيًا ونفسيًا Burnout. خضع للدراسة حوالي 42 ألف طبيب في الولايات المتحدة الأمريكية، وأظهرت النتائج وجود علاقة جوهرية بين ظاهرة إنهاك الأطباء جسمانيًا ونفسيًا بضغوط العمل، وبين انحدار مستوى الخدمة الطبية التي يتلقاها المرضى، وكذلك زيادة عدد الأخطاء الطبية وشدتها، والتي تقدر خسائرها بمئات الأرواح، وبمليارات الدولارات سنويًا في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعد عاصمة الكوكب الطبية، والتي يطمح مئات الآلاف من الأطباء حول العالم للالتحاق بمنظومتها الصحية، والحصول على شهاداتها وخبراتها.
وفي تقرير لموقع ميدسكيب الطبي الشهير أوائل عام 2017م، ذكر أكثر من 50% من الأطباء أنهم يعانون من الإنهاك الشديد نفسيًا وبدنيًا، خاصة أطباء تخصص الطوارئ، وأن النسبة تزيد سنويًا بما لا يقل عن 4%. ذكر الأطباء المشاركون أن أهم سببيْن لهذا الإنهاك هو المهمات البيروقراطية الكثيرة، وساعات العمل الزائدة، وهذا في الولايات المتحدة، فما بالنا بالحال في مصر، حيث الطبيب متصدر لكل صغيرة وكبيرة تخص الحالة، وأحيانًا ينفق من جيبه لاستكمال بعض الموارد الناقصة، ولا تحميه قوانين عمل رشيدة صارمة في تحديد الحدود القصوى للمهمات.
كذلك أظهر تقرير ميدسكيب عن إرهاق الأطباء وعلاقته بالاكتئاب عام 2018م، والذي شمل 15 ألف طبيب من 29 تخصصًا مختلفًا بالولايات المتحدة، أن 3% شُخِّصوا بمرض الاكتئاب، و 12% يصفون أنفسهم بالاكتئاب، وأن 40% فقط ذكروا أن إجهادهم واكتئابهم لم يؤثر سلبًا على أدائهم مع المرضى. وأكد ثلثا الأطباء أن هذه الحالة من الإنهاك والإحباط يمكن أن تقل بتقليل ساعات العمل قليلًا، وزيادة المقابل المادي لتقليل الشعور بالضغوط المالية.
الخلاصة: نحتاج إلى ثورة حقيقية لإنقاذ الأطباء والمرضى من براثن الطب المصري.