«اسمه أحمد»: هنيئًا لمن أدرك معنى الحرية
كان هذا جزءًا من حوارٍ بسيط دار بين المناضل الأردني أحمد الدقامسة، ووالده موسى مصطفى الدقامسة، في طفولته، فزُرع كره أحمد للصهاينة منذ نعومة أظافره، علمه أن يعيش إنسانًا حرًا، وأخذ الابن عهدًا بينه وبين نفسه أن يكون له دور في النضال ضد هؤلاء القتلة، حين يكبر.
إذا سألت أحدهم عن أحمد الدقامسة، فسرعان ما سيجاوبك أنه المناضل الأردني الذي قتل 7 إسرائيليات استهزأن بصلاته، هذا كل ما صدّرته وسائل الإعلام عن الدقامسة، إلا أن الروائي الأردني «أيمن العُتوم» يخوض في روايته الجديدة «اسمه أحمد»، في تفاصيل حياة المناضل الأردني، نشأته، تعليمه، رحلته مع النضال، التي لم تقتصر على قتل الإسرائيليات، بل نكتشف من خلال الرواية أن الدقامسة اعتقلته السلطات الأردنية مرتين.
الأولى، حين وجّه سَبَطانة المدفع ناحية فندق يقطنه إسرائيليون، دون أن يضرم النيران، إلا أنه فعل ذلك بغير أوامر فكانت تهمته الوحيدة، التي قضى على إثرها 5 أيام بالحبس الانفرادي، واُتهم بأنه تابع لجهة ما أمرته بفعل ذلك، قبل أن يخرج ويعود لخدمته مرة أخرى، التي هرب منها بعدها بأسابيع قليلة، وكانت تهمته الثانية، التهرب من الخدمة العسكرية.
يُطلعنا «العُتوم» على قصة أحمد، الذي جاء في زمن المعاهدات والاتفاقيات، لا في زمن الحروب مع العدو الصهيوني، فاشتعلت حربٌ من نوع آخر في وجدانه أقوى من تلك التي دارت على الأرض، فلم يكره أحمد الصهاينة فقط، بل كره الأنظمة العربية، لاقتناعه بأنها أسهمت في تسليم فلسطين لليهود، فلسطين التي يراها أحمد على الجانب الآخر من قريته «إبدر»، ويحترق وجدانه في كل مرة لعدم قدرته على الدفاع عن تلك الأرض المنهوبة، حتى تأتي اللحظة التي يثأر بها.
خلال أحداث الرواية، يوضح لنا الكاتب أن كره الصهاينة لم يوُلد في نفس القدامسة عبثًا، بل ثمة شخصيات أثرت في ذلك، مثل قصص والده عن تخاذل العرب في القضية الفلسطينية، وعن زوجة عمه التي اغتالتها غارة للقوات الإسرائيلية على قريتهم «إبدر»، وأحبها بشدة، كذلك أحداث عايشها هو بنفسه، بدايةً من مذبحة صبرا وشاتيلا على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بلبنان، مرورًا بمؤتمر مدريد عام 1991، وصولًا لاتفاقية أوسلو عام 1993، وكان أثرها كبيرًا في نفسه.
تنتمي رواية العُتوم، الصادرة عن «دار المعرفة»، لأدب السجون، وهو نوع من أنواع الأدب معني بتصوير الحياة خلف القضبان، يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، وهي ليست روايته الأولى التي تنتمي لهذا النوع من الأدب، فسبقها رواية «يا صاحبي السجن»، عام 2013.
كتب أيمن روايته في الفترة بين 23 أبريل/نيسان 2017 – أي بعد الإفراج عن أحمد الدقامسة بـ 41 يومًا – حتى 6 يوليو/تموز 2017، وقد يكون نقل أحداثها من على لسان صاحب البطولة نفسه، بعد أن قضى 20 عامًا في سجون الأردن، ومن المفارقة أنه أُفرج عنه في ذكرى التاريخ الذي قتل فيه الإسرائيليات؛ 12 مارس/آذار 1997، قتلهن وهو يقضي خدمته على الحدود الأردنية الفلسطينية قرب الباقورة، عن نية بائتة، وعرف الحرية مجددًا يوم 12 مارس/آذار 2017.
اقتبس الكاتب الأردني اسم روايته من آية 6 في صورة الصف بالقرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)، حيث جاءت لأم أحمد «كاملة» في الحلم، أثناء حملها به، امرأة سوداء، ينير جسدها التمثالي ضوءٌ قادم من بعيد، يلقى هالةً من الضوء على وجهها الهادئ، وأبلغتها بأن أفضل الأسماء أحمد أو عبد الله، فأخذت ببشرتها وسمّت الولد أحمد، بعد صراع مع الأب الذي أراد أن يسميه مصطفى على اسم والده، ولكن البشرى كانت أقوى من أي خلاف، ومن كل شيء.
لم يعلم والدا أحمد وقتها أنه سيصير فخرًا لهما ولأمته كلها فيما بعد، فسُجن بتهمة قتل الإسرائيليات، بيد أنه ظل مرفوع الرأس في وقت انحنى فيه جميع القادة، عاش داخل الزنازين موفور الكرامة، لم يندم للحظة على فعلته، كما كان يطير فرحًا كلما تذكر مشهد سقوط المجندات أمامه، ويحمد الله، فكان حلمه الذي تحقق، حسب ما جاء في الرواية.
في السجن، أُهين الدقامسة، وداسوا بأقدامهم على وطنيته، وتعرض لجميع أنواع التعذيب، من ضربه بالسوط، مرورًا بلكمه بقسوة، وصولًا لرشقه بالماء المالح، لمجرد اعتقاد الاستخبارات أنه مدفوع بأيادٍ خارجية.
كان رفيق أحمد الوحيد في هذه الأيام هو الكتاب، فأبى أن ينفق زهرة شبابه في غياهب السجون، دون أن يستفيد، وكانت هذه الفترة هي الأبرز في حياته، حيث خاض فيها في التأملات والخواطر الإنسانية، كما زاد نضجًا وثقافةً، يقول الدقامسة: «كلما قرأت كتابًا فتحت نافذة على الحرية، أيها المعتقلون في كل سجون العالم، يا محبوسي الأرض تعالوا لنقرأ ساعة».
ظل أحمد ينهل من القراءة طيلة فترة سجنه، وسعى لتكوين مكتبة، ونجح، من أجل الحصول على منصب يُمكنه من الإشراف على مكتبة السّجن، فتحول المساجين في عهده من مجرمين قتلة إلى قراء يناقشون ويحلّلون ما يقرأون بشغف وحبّ لا متناهيين، بل إنه لم يكتفِ بذلك، بل تعمق في قراءة العلوم الشرعية، مما جعل من المساجين من يستفتونه في أمور دينهم، واجتهد في الدعوة والإصلاح، وهو في تلك المحنة، ولكن سبحان من وهبه القدرة على تحويل المحنة إلى منحة.
«ارفع راسك يمّه احنا نرفع راسنا فيك».. هتفت بها «كاملة» والدة أحمد، وهي تستقبله بالزغاريد في قاعة المحكمة، وقد رأت عليه آثار التعذيب، وسيستعيد أحمد تلك العبارة التي صدحت بها والدته طوال فترة سجنه التي بلغت عشرين عامًا.
لم تكن الرواية مجرد مذكرات سجين، بل سينضج القارئ مع أحمد، في كل فصل من فصول الرواية الـ 80، منذ كان جنينًا في بطن أمه، سيُدرك ارتباطه الوثيق بالأرض، وغيرته على سلبها، وسيُقدِّره. قد تتفق معه على قتل اليهوديات وتراه عملًا بطوليًا، وقد يراه آخر إزهاقًا لأرواح أُناس عُزل، إلا أنه من المؤكد لن يختلف أحد معه على روح العروبة، وعدم التنازل عن شبر واحد من الأرض، فستجد الأم نخلة شامخة معطاءة، وترى الزوجة الوفية تحل محل الأب وتناضل حبًا وأمومةً.
ستأخذك الرواية لعمرٍ كاملٍ مع الدقامسة في الزنانين، ستشفق عليه في لحظات العذاب المر التي عاناها، وتبكي، لكنك سرعان ما ستتبادل معه البسمات وستعلم صدقًا أن السجن الحقيقي يكمن في العقل لا الجسد.