هيلما أف كلينت: تخاطرت مع الأرواح فأنجبت الفن التجريدي
يرتبط الفن التجريدي في الثقافة الشعبية باللوحات غير المفهومة المثيرة للسخرية، تلحق رؤيتها تعليقات مثل: ما الذي يعنيه هذا الخط الأصفر؟ يمكن لابني أن يرسم مثلها، أو هذه مجرد خربشات لا يمكن تسميتها فنًا. يميل الناس أكثر لما يمكن فهمه وإرجاعه للعالم الحقيقي، لذلك يلاقي الفن الذي يمثل أشكالًا ومشاهد من الواقع شعبية وتقديرًا كبيرين، والفن التجريدي ينبذ ذلك ويخلق عالمه ولغته البصرية الخاصة، معتمدًا على الخطوط والألوان والتناغم البصري المجرد الذي لا أصل ولا وجود له في الطبيعة.
يمكن إرجاع بداية الفنون كلها بشكل تقريبي إلى رسوم الكهف في عصور ما قبل التاريخ ومحاولات تصوير الطبيعة والجسد الإنساني ونشاطاته بأبسط وأقل الخطوط والألوان المتاحة، وهو ما يمكن تسميته بالتصوير المجرد، لكن ذلك التجريد يمكن اعتباره اضطراريًا فكيف أصبح التجريد في الفن غاية في حد ذاته؟عادة يسهل تحديد فترات بداية حركة فنية ما بالنسبة للمؤرخين لأن مؤسسيها أصدروا بيانًا بذلك، ففكرة الريادة لها أهمية كبيرة في الفن وفي الفن التشكيلي بشكل خاص، لكن عند البحث في بداية الفن التجريدي يصعب الجزم بذلك.
لم تكن الحال كذلك منذ مائة عام فلقد كان أمرًا مسلمًا به أن الفنان الروسي فاسيلي كاندنسكي هو أول من نفذ لوحة تجريدية، ووثق هذا بكلماته الشخصية في خطاب الى موزع أعماله في نيويورك. أكد كاندنسكي أنه مخترع الفن التجريدي قائلًا: «بالطبع تلك هي أول لوحة تجريدية على الإطلاق، لأنه لم يحدث أن رسم فنانًا واحدًا في الماضي لوحة بأسلوب تجريدي، بكلمات أخرى، إنها لوحة تاريخية».
فاسيلي كاندنسكي هو أحد أهم فناني القرن التاسع عشر، ربط فن الرسم بالموسيقى وبالقوى العليا وخلق عوالم نابضة بالحياة والحركة والتجديد، لكنه لم يعلم هو أو أي من معاصريه من الفنانين غير الموضوعيين أن هناك امرأة سبقتهم لذروة التجريد.
التجريد والتخاطر مع الأرواح
يعقد اجتماعًا في موعد ثابت أسبوعيًا، مكون من 5 فتيات صديقات مهتمات بالفن، معًا يتعبدن ويصلين، يتأملن ويعقدن جلسات لتحضير الأرواح. إحداهن هي هيلما آف كلينت، رسامة للمناظر الطبيعية والبورتريهات.
ولدت «هيلما آف كلينت» في السويد عام 1862، وقضت طفولة تتخللها الطبيعة من كل جانب، فتشبعت بها وترجمت تأثرها ببيئتها في رسم المناظر الطبيعية التي تنعم بها بلادها الخضراء، لكن بعد وفاة أختها الصغرى أظهرت زهدًا من نوع ما في الحياة المادية بما فيها فنها التمثيلي من صور شخصية ومناظر طبيعية، واتجهت للاهتمام بالتواصل الروحاني مع القوى العليا، لكنها أرادت توثيق تلك المقابلات، فجعلت منها مشروعها الحياتي والفني، أنتجت آلاف اللوحات التي أرجعت إلهامها إلى نفحات من الأرواح، لم تملي عليها ما تفعل ولكن كانت بجانبها ترشدها دائمًا.
تتكون مجموعة الأعمال التي أنتجتها كلينت في فترتها الروحانية من لوحات تحمل أشكالًا هندسية متناغمة، دوائر وخطوطاً متداخلة بدقة فائقة، لا تعبر عن أي شكل يمكن تصوره في الواقع، وتركيبات لونية متنوعة تتراوح بين فواتح رائقة وغوامق مقبضة. لسنوات وسنوات لم يكن عالم الفن على دراية بوجود تلك الأعمال والتي لو وجدت لكانت هيلما آف كلينت نجمة ورائدة في مدرسة فنية لم يسبقها إليها أحد، على الأقل ليس بهذا النقاء.
في أحد دفاترها تصف كلينت طريقة تنفيذ أعمالها بأنها شبه آلية، فالأشكال يتم رسمها من خلالها دون تحكم ودون رسومات مسبقة وبقوة كبيرة ضاربة، فهي لا تملك أي فكرة كيف سينتهي العمل وعما سيعبر، فكانت تعمل بثقة وسرعة ولا تغير ضربة فرشاه واحدة.
يمكن ربط أفكار كاندنسكي المدونة عن الروحانية في الفن بممارسات آف كلينت، كلاهما يرى الفن كحالة غير أرضية أسمى من الماديات، فهو حالة من التواصل والتحليق الروحاني، وهو ما يتم وصف الفن به بشكل عام لكن كلينت طبقت ذلك بشكل حرفي، فالفن يخدم ممارستها الروحانية وليس العكس.
هيلما آف كلينت، لوحات الرموز الكبيرة، رقم 5، مجموعة 3، 1907
رأى كاندنسكي الفن كترياق للروح ضد المادية المفرطة، كعلاج وتدريب على السمو، وشارك العالم هذا الفن وتلك النظريات، لكن هيلما آف كلينت ظنت أنه لن يتم فهم أفكارها فـأخفتها عن العالم، لم تتوقع أن يتقبل أحد فكرة وجود لوحات لأشكال غير تمثيلية تنبعث من رؤى شبه إلهية، باختصار لم تعلم كلينت أن تأملاتها الشخصية سوف تكون بذرة لواحدة من أهم مدارس الفن الحديث، فلم تتسابق لإثبات أنها الأولى، لم تكن على دراية بأن هناك سباقًا من الأساس.
أول عمل فني تجريدي
1906، سمت تلك المجموعة بلوحات المعبد، فلقد أرادت بناء معبد يحوي نتاج تخاطراتها وتأملاتها، وبالنظر إلى التاريخ فلقد سبقت لوحة كاندنسكي الذي أعلنها الأولى من نوعها.عمل المنظمان الفنيان ماشا شيلنوفا وليا ديكرمان على ورقة بحثية بعنوان «اختراع التجريد»، حاولا وضع معايير محددة لما يجعل العمل التجريدي تجريديًا حقًا، منها وعي وحساسية الفنان بما يقوم بتنفيذه.لذلك ترى شيلنوفا أن لهذا السبب لم يتم تمثيل هيلما آف كلينت كفنانة تجريدية في متحف الفن الحديث، لأن ممارساتها كانت معتمدة على الروحانية المجردة والرسم الأوتماتيكي اللاواعي في بعض الأحيان. عارض آخرون تك الرؤية مبررين اعتراضهم بأن رغباتها ونواياها الشخصية لا تسلبها كونها رائدة في ذلك النوع من الفن، ففي النهاية نحن الآن نرى لوحاتها دون النظر الى تاريخها الشخصي وممارساتها الخاصة كلوحات تجريدية بشكل كامل.
رجح مؤرخون آخرون أن يكون أول عمل فني تجريدي من نصيب فرانسيس بيكابيا عام 1909، لكنه لم يكن تجريدًا بحتًا، فما زال يمكننا إرجاع الشكل إلى أصله الطبيعي وأن نرى أنه مزهرية صغيرة تحمل باقة من الزهور المتداخلة، فهي لوحة تمثيلية بشكل مجرد.يمكن وصف التجريد بأنه عكس التمثيل، ويمكن وصف التمثيل بأنه محاولة تصوير العناصر بأقرب شكل واقعي لها، حتى وان لم يكن تمثيلا فوتوغرافيا، ففي الفن التمثيلي عندما نرى لوحة لامرأة نعلم أنها امرأة، عندما نرى باقة من الزهور يستدعي عقلنا باقة زهور حقيقية. الفن التمثيلي نفسه يملك مساحة عريضة بداخله، فيمكن أن يتم المبالغة في أحجام وألوان وأشكال العناصر الحقيقية ويمكن تبسيطها لكن ما دامت لم تتخل تمامًا عن قيمتها في تصوير شيء من الواقع فهي لم تصبح مجردة بعد.
فالتجريد إذن عكس ذلك كله، هو ترتيب من الأشكال والألوان التي لا يترجمها العقل على الفور كموجودات من ذاكرته وواقعه، وربطه المتكرر بالروحانية والنقاء يبعده عن التحليلات المباشرة والمنطقية، الطريف أنه إذا سئلت الأسئلة المعاصرة مثل ماذا تعني تلك الأشكال أو لماذا رسمت مربعًا وليس دائرة سيكون جواب هيلما آف كلينت أن تلك الخيارات كانت توجيهات الأرواح.