ارتفاع أسعار النفط: بين العقوبات الأمريكية وسياسات أوبك
تسير أسعار النفط العالمية في اتجاه تصاعدي، في سبيل إعادة التوازن للأسواق بعد معاناة أضفتها الزيادة على جانب العرض، وبخاصةً زيادة الإنتاج من النفط الصخري الأمريكي. وترتفع الأسعار وسط فجوة سعرية لصالح خام برنت العالمي (المُسعر به ثُلثا إمدادات النفط عالمياً) تصل لنحو عشرة دولارات للبرميل الواحد عن خام تكساس الأمريكي (المُسعر به ثُلث إمدادات النفط عالمياً).
يعود ارتفاع الأسعار في المقام الأول إلى قيام منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» بتخفيض إنتاجها، بالإضافة إلى تأثير العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة على صادرات النفط الفنزويلية، وبالرغم من ذلك تظل المكاسب محدودة بسبب ضعف الطلب العالمي، في ظل تحديات النمو التي تُعاني منها الصين، أكبر مُستهلك للنفط عالمياً، وكذلك تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي بقيادة منطقة اليورو.
دعم التخفيضات
البداية كانت عند منظمة أوبك، التي قامت بتخفيض إنتاجها – دعماً لأسعار النفط- لمدة ستة أشهر بدءًا من الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، حيث أفادت المنظمة بأن إنتاجها من النفط الخام تراجع بمقدار 797 ألف برميل يومياً في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، على أساس شهري ليصل إلى 30.81 مليون برميل يومياً. وذلك بعدما وافقت أوبك ومجموعة من 10 منتجين من خارج الكارتل، برئاسة روسيا، على خفض الإنتاج بشكل جماعي بمقدار 1.2 مليون برميل يومياً خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2019.
وتعهدت المملكة العربية السعودية بأن تضخ أقل بكثير من حصتها. وقال وزير الطاقة السعودي خالد الفالح، خلال الأسبوع الماضي، إن المملكة تخطط لإنتاج 9.8 مليون برميل يومياً في مارس/آذار المُقبل، أي ما يقل بنحو 1.3 مليون برميل عن مستويات الإنتاج التي وصلت إلى 11.1 مليون برميل يومياً في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو مستوى القياس للتخفيضات المُتفق عليها في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتشير أرقام الإنتاج والتصدير لشهر مارس/آذار المُقبل، إلى أن المملكة ليس لديها نية لملء الفراغ الناتج عن عجز الإمدادت النفطية القادم من فنزويلا على المدى القصير، في ظل العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
تأثير العقوبات
تأتي هذه التخفيضات جنباً إلى جنب مع قيود الإنتاج غير الطوعي نتيجة للعقوبات الأمريكية على إمدادات النفط الخام في كل من فنزويلا وإيران، إلى جانب انخفاض الإنتاج في ليبيا بسبب الاضطرابات المدنية، وهجوم الميليشيات المُسلحة.
وفاقمت الجولة الأخيرة من العقوبات الأمريكية ضد شركة النفط الوطنية الفنزويلية PDVSA من الوضع الخطير بالفعل لصناعة النفط في البلاد. وتستمر العقوبات الأمريكية على PDVSA في تغيير تدفقات النفط الخام العالمية وتسارع انهيار قطاع النفط في فنزويلا، فالعقوبات التي أعلنتها إدارة ترامب في 28 يناير/كانون الثاني الماضي، ويتوقع أن تظل سارية المفعول إلى أن يترك الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو منصبه، دفعت مصافي ساحل الخليج الأمريكي إلى البحث عن مصادر جديدة للخام الثقيل بعد قطع تدفق المنتجات المكررة الأمريكية إلى فنزويلا.
وتكثر التقديرات حول سرعة انخفاض إنتاج فنزويلا من النفط، المتوقع انخفاضه بواقع 340 ألف برميل في اليوم على أساس سنوي، ليصل إلى 1 مليون برميل في اليوم في عام 2019 وانزلاقه إلى 890 ألف برميل في اليوم في عام 2020. وإذا استمر الوضع الراهن؛ تُصبح فنزويلا غير قادرة على تعويض آثار العقوبات الأمريكية وتأمين تمويل جديد لاستثماراتها النفطية، ويمكن أن تشهد البلاد انخفاضاً إضافياً في إنتاج النفط الخام خلال العام الجاري إلى نحو 800 ألف برميل يومياً، قبل أن تنزلق إلى 680 ألف برميل يومياً في عام 2020.
كذلك يتباطأ إنتاج النفط في إيران مع خروج المستثمرين الأجانب من حقول النفط الإيرانبة، بعد تعهدات من جانب المسئولين الأمريكيين بتشديد القيود المفروضة على مبيعات النفط الإيرانية، كذلك فرضت الولايات المتحدة مجموعة جديدة من التدابير ضد صناعة تصدير النفط الإيرانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018. ولمواصلة التصدير حتى ولو بمعدلات متناقصة،تحتاج إيران إلى جذب حوالي 100 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية لقطاع النفط والغاز والبتروكيماويات.
وعلى جانب آخر، تسببت الاشتباكات العسكرية قرب أكبر حقل نفطي في ليبيا، «الشرارة»، في جعل الظروف غير آمنة للاستثمار في البلاد، ومن المستبعد استئناف الإنتاج قريباً، ومن المحتمل أن يؤدي القتال القائم في ليبيا إلى تعطيل الخطط الحكومية لرفع الإنتاج إلى 1.6 مليون برميل يومياً بنهاية 2019، من 1 مليون برميل يومياً في الوقت الراهن. ولا تزال المناطق الواقعة جنوب غربي ليبيا، «الشرارة والفيل»، عُرضة بشكل خاص لانقطاع الإمدادات الناجم عن نقص الوقود المزمن والمشاكل الأمنية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حقل شرارة، أكبر حقل في ليبيا، والمسئول عن إنتاج 350 ألف برميل يومياً ظل مغلقاً منذ أوائل ديسمبر/كانون الأول بعد أن احتلت الجماعات المسلحة الموقع.
النزاع التجاري الأمريكي-الصيني
تظل السوق النفطية مُواكبة للمحادثات التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين في واشنطن -خلال الأسبوع الجاري- لمعرفة ما إذا كانت هناك أي إنجازات قد تتحقق على صعيد التعريفات الجديدة، قبل الموعد النهائي في الثاني من مارس/آذار المُقبل.
فحتى الآن تنوي الولايات المتحدة زيادة معدلات الرسوم الجمركية على الواردات الصينية بقيمة 200 مليار دولار من 10% إلى 25% إذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق. كما هدّد ترامب بمزيد من التعريفات على منتجات صينية إضافية بقيمة 267 مليار دولار، وتضغط واشنطن على بكين لإجراء تغييرات على سياساتها الاقتصادية التي تقول إنها تفضل الشركات المحلية بشكل غير عادل من خلال سياسات حمائية وغيرها من أشكال الدعم. كما اتهمت واشنطن الحكومة الصينية بدعم سرقة التكنولوجيا كجزء من استراتيجيتها الإنمائية الأوسع، بينما في الصين هناك شعور بأن الولايات المتحدة تستخدم الحرب التجارية لاحتواء صعود البلاد الاقتصادي على الصعيد العالمي.
الخطير في الأمر، أن تنامي الصراع بين أكبر قوتين اقتصاديتين على مستوى العالم من شأنه أن يؤثر على صناعة النفط العالمية، فالولايات المتحدة والصين هما أكبر دولتين مستهلكتين للنفط في العالم، وقد تضمن آخر تقرير شهري صدر عن بيانات التجارة الصينية تذكير بالأثر الخطير للصراع التجاري الأمريكي-الصيني على صادرات النفط الخام الأمريكية؛ حيث لم تستورد الصين برميلاً واحداً من النفط الخام الأمريكي في ديسمبر/كانون الأول الماضي. علماً أنه في العام السابق لظهور الخلاف التجاري، كانت الصين تمثل، في المتوسط، نحو 20% من جميع صادرات الولايات المتحدة، وهو ما يُعادل أكثر من 11 مليون برميل في الشهر.
مزيد من ارتفاع الأسعار
وقد ارتفعت العقود الآجلة لخامي برنت وتكساس الأمريكي لتصل إلى أفضل مستوياتها لهذا العام، وقفزت العقود الآجلة لخام برنت العالمي لتُداول حول مستوى 66 دولاراً للبرميل، وهو أعلى مستوى إغلاق له في ثلاثة أشهر. وفي الوقت نفسه، يُتداول خام غرب تكساس الوسيط حول مستوى 56 دولاراً للبرميل، وهو أفضل سعر إغلاق منذ 19 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وبالرغم من أن الاتجاه التصاعدي في أسواق النفط لا يزال وليداً بعد سلسلة طويلة من الانخفاضات التي وصلت لأقل من 30 دولاراً للبرميل خلال السنوات الماضية، لكن ارتفاع خام غرب تكساس الوسيط من قاع 51.23 دولار إلى أعلى مستوى له بالقرب من 56 دولاراً خلال أقل من أسبوع واحد، يعتبر مؤشراً على مزيد من هذا الاتجاه التصاعدي. ويتوقع أن تحصل الأسواق على دفعة ارتفاعات قوية جراء التهديدات بشن هجمات متشددة على البنية التحتية النفطية في نيجيريا قبيل الانتخابات الرئاسية، والنزاع المستمر حول أكبر حقل نفطي في ليبي، والعقوبات الأمريكية الجديدة ضد شركة الطاقة المملوكة للدولة في فنزويلا، فضلاً عن تشديد العقوبات على النفط الإيراني.
وأطلق موقع «Fxempire» توقعات إيجابية لأسعار النفط الأساسية، مُتوقعاً أن تتماسك الأسعار بمجرد الوصول إلى مناطق مُقاومة جديدة؛ مُشيراً إلى أنه بالنسبة للعقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط، فإن المُقاومة المستهدفة هي 59.51 دولار إلى 63.40 دولار قبل نهاية فبراير/شباط الجاري. وبالنسبة لخام برنت، فإن المُقاومة المستهدفة الصاعدة هي 67.77 دولار إلى 71.59 دولار قبل نهاية فبراير/شباط.
ويقول المتداولون إن الأحاديث الإيجابية حول المفاوضات التجارية الأمريكية الحالية في بكين تساعد على دعم الأسعار لأن نهاية النزاع التجاري ستزيد الطلب على النفط الخام لثاني أكبر اقتصاد في العالم. كما يقدم تقرير الميزان التجاري القادم من الصين مزيداً من الدعم لأسعار النفط؛ وأظهر التقرير -الصادر الأسبوع الماضي- أن واردات الصين من النفط الخام ارتفعت في يناير الماضي بنسبة 4.8% مقارنةً بالعام الماضي لتصل إلى 10.03 مليون برميل يومياً، وهذا هو الشهر الثالث على التوالي الذي تتجاوز فيه الواردات مستوى 10 ملايين برميل في اليوم.
عوائق قد تحدّ من المكاسب
من المحتمل أن تكون أكبر مخاطر انخفاض أسعار النفط هي مزيجاً من احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي عالمي، وضعف الطلب العالمي على النفط، وارتفاع الإمدادات الأمريكية وسط زيادة الإنتاج من النفط الصخري.
وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية نمو الطلب العالمي في عام 2019 بارتفاع قدره 1.49 مليون برميل في اليوم، لكن تقديراتها لنمو المعروض تقترب من 2 مليون برميل يومياً. لذا يتوقع أن يكون هناك فائض عرض بنحو 500 ألف برميل يومياً في عام 2019؛ حيث إن تخفيض الإنتاج من قبل المشاركين في الأوبك وغير الأعضاء في أوبك، وكندا، وتقليص الإنتاج نتيجة العقوبات على الإمدادات الفنزويلية والإيرانية، لن يكون كافياً لمواجهة نمو العرض في الولايات المتحدة.
وتقول وكالة الطاقة الدولية، إن أسواق النفط ستظل تكافح لاستيعاب الإمدادات غير المنتظمة من الدول غير الأعضاء في منظمة أوبك رغم العقوبات على إيران وفنزويلا وتراجع إنتاج أوبك في عام 2019. وقالت الوكالة، إن النمو القوي المستمر للنفط الصخري في الولايات المتحدة سيخفف من أثر العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة على شركة النفط الحكومية الفنزويلية، وبالتالي لن يكون الارتفاع كبيراً في أسعار النفط العالمية.
وحسبما ذكرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في تقرير الطاقة السنوي قبل أسبوعين، فمن المتوقع أن يستمر إنتاج النفط الأمريكي في ارتفاع على مدى عقود، ليرتفع من متوسط 10.93 مليون برميل في اليوم في عام 2018 إلى ما يقرب من 15 مليون برميل يومياً بحلول عام 2027، قبل أن يتراجع إلى أقل من 12 مليون برميل يومياً بحلول عام 2050.
كما توقعت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن تصبح الولايات المتحدة مصدراً صافياً للطاقة في عام 2020، وأن تظل كذلك حتى عام 2050 على الأقل، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى النمو السريع في إنتاج النفط الخام المحلي والغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المُسال وتباطؤ نمو الاستهلاك في الولايات المتحدة.
وعلى جانب آخر، قد تخشى المملكة العربية السعودية ألا تتمثل روسيا لاتفاق أوبك بشأن تخفيض الإنتاج، وخاصةً إذا ما قوبلت التخفيضات السعودية بارتفاع الإمدادات من النفط الصخري الأمريكي. فهنا لن تقبل المملكة تحمل عبء موازنة سوق النفط وحدها مع التخلي عن حصتها في السوق العالمية لصالح مُنتجين آخرين.
وتجدر الإشارة إلى أن السعودية تُعاني من عجز كبير في الميزانية، وتحولت بالفعل للاستدانة من أسواق السندات العالمية للحصول على مزيد من التمويل لتغطية العجز في موازنتها، وبالتالي إذا لم يتحقق هدف المملكة الرئيسي من تخفيضات الإنتاج، وهو ارتفاع أسعار النفط التي تعطيها مزيداً من الإيرادات لتمويل ميزانيتها، فسيكون الضرر أكبر على الاقتصاد السعودي.
وبالتالي، لن تستمر المملكة في تخفيضات الإنتاج من جانبها، لتعاود ضخ المزيد من إنتاجها النفطي في الأسواق العالمي، بما يزيد من فائض المعروض، وبالتالي تتجه الأسعار نحو الاتجاه الهبوطي مرة أخرى.