«الإخفاء»: مزيج خاص من الخوف واليأس والهزيمة
سمح لنا الفنانون؛ «مريم صالح»، و«تامر أبو غزالة»، و«موريس لوقا»، مبدعو ألبوم «الإخفاء»، بتفسير ما هو المخفي الذي يشير إليه الاسم. هل هو معنى أم رمز أم مشاعر؟ الخطوة الأولى لفهم أي شيء تبدأ بواجهة الألبوم وهو البوستر الدعائي. لوحة تشكيلية تمثل رأسًا بوجه مجعدٍ ذي قسمات حادة، اختفت حدقة عينه فتظهر بيضاء تمامًا. ليس هذا فقط، بل إن الرأس مشرحة بشكل حلزوني. ويظهر بداخلها صورة معتادة من أحد أحياء القاهرة ذات المباني الكبيرة العتيقة والقبيحة في نفس الوقت. داخل الوجه يظهر كل ما تمثله القاهرة من قبح وتلوث وتفاصيل شديدة الثقل على النفس.
نحن نتحدث عن ألبوم موسيقي غنائي، ولذلك لن نستفيض في شرح البوستر ومعانيه. بل من الأولى التوجه للألبوم وأغانيه وكلماته وموسيقاه.
إنتي ليه مقتولة مني
الملاحظ في كلمات الأغاني جميعها أنها تعبر عن حقبة ما بعد الهزيمة، حيث المشاعر المختلطة، وفقدان الأمل والميل للعدمية. فالكلمات أما توجه لشخص بلهجة معاتبة وساخرة في نفس الوقت. أو كخواطر مجردة عن التيه واليأس والخوف والهزيمة.
في أغنية «عاوز أوصل» (التصدير في الأعلى)، والتي غنتها مريم منفردة، تعاتب فيها شخصية مجهولة على تعجبها من موتها. وتشير لأن تلك الشخصية هي السبب، حيث أخذت كل ما تريد ولم تقدم شيئًا. يمكن أن تشير هذه الكلمات لأكثر من معنى. سواء عتاب لحبيبة أو أمل ضائع، أو وطن أو ثورة.
ولكن لأن السخرية من الهزيمة رغم الاستسلام لها، هي سمة الألبوم الأولى، فلم يكن صوت مريم صالح حزينًا، بل ساخرًا، وتتصاعد السخرية تدريجيًا إلى أن نصل لجملة «إنتي ليه مقتولة مني» فتزداد لأقصاها إلى أن تصل لدرجة المكايدة.
وعكسها في أغنية «تسكر تبكي»، يظهر الحزن والشجن في صوت مريم وتامر أبو غزالة. فالكلمات تزداد ذاتية وواقعية عن سابقتها. ويوجه الغناء للمهزوم نفسه، وهو المستمع في هذه الحالة، فالكلمات توجه بشكل مباشر لمن يسمع الأغنية.
الأغنية مرثية لمن خدع في كل شيء، ولا تتوانى الكلمات عن استخدام أقسى وأقبح الألفاظ. لتعبر عن عظمة الخداع، ف«الحلوة طلعت شرم***»، و«الصحبة طلعت قح**» ولأن لا حلول مطروحة، فالحالة المسيطرة هي السكر والبكاء. ولم تخلُ الكلمات من لهجة السخرية تجاه المهزوم في عبارة، «تسكر تبكي زي العيل».
ذلك الشخص المهزوم يتذكر آماله وأحلامه في أغنية «كنت رايح»، والتي تَشَارك مريم وتامر في غنائها. فتصف الأغنية حالة الأمل بأبيات «كنت طايب كنت صايب كان في قلبي شوق مهول». ويعقبها التعبير عن هزيمة تلك الحالة في أبيات «فجأة أعاني من الحبايب فجأة يقفش رجلي غول». وتنتهي الأغنية بتسليم تام للهزيمة في أبيات «يبدو ليا إني راجع .. رغم أني مش ملول .. يبدو أن الهم واسع .. يبدو إني مش همول .. رغم إني كنت رايح .. كنت عازم إني أقول».
وفي أغنية «مزيكا وخوف» التي تقوم بدور التحذير من الأمل والرغبة، فالأغنية لا تريد منع الرغبة، ولكنها تصفها بالخطرة. «مزيكا وخوف وأحزان وغنا»، كلمات تقال في نهاية الأغنية. وهذه الكلمات تصف الحالة الشعورية العامة التي يعبر عنها الألبوم. فبعض الأغاني تعبر عن هذه الكلمات قاطبة. وأغانٍ أخرى تعبر عن كلمة واحدة.
مكسور يا إيقاع
الألبوم عامر بالغرابة، وهذا يظهر جليًا في أغلب تفاصيله بداية من البوستر، مرورًا بكلمات الأغنية وطريقة إلقائها. ونهاية باللحن الحافل بالكثير من الآلات والألوان الموسيقية.
وكما يخفي البوستر بداخله صورة للقاهرة المزدحمة، تعبر الموسيقى عن التنوع الثقافي والجمالي والفني لتلك المدينة الحافلة بالأضداد. فموسيقى موريس لوقا ذات الطابع الشعبي المهرجاني، والتي ظهرت في أكثر من موضوع أبرزها افتتاحية أغنية «مزيكا وخوف»، ونهاية المقطع الأول في «تسكر تبكي». وبالطبع أغنية «إيقاع مكسور» التي كثر استخدام الموسيقى الشعبية فيها، من خلال استخدام مقاطع إلكترونية على الكثير من آلات النقر.
هذا من جانب موريس، أما تامر أبو غزالة فقد أكثر من استخدام العود والجو الأسطوري «المهلوس». يظهر جليًا ذلك في أغنية «مكونش وأكون» التي تبدأ باستخدام العود، ثم يدخل صوت ريم الذي يعبر عن الحالة غير المتزنة التي تشعر بها. وفي جملة «بقيت مجنون» تتم معالجة الصوت إلكترونيًا ليظهر كأنه هلوسة. ويتكرر نفس المزيج بين استخدام العود في أول المقطع ثم صوت الهلوسة. ويتكرر نفس الأمر في أغنية الشهوة والسعار، حيث اللعب في الصوت إلكترونيًا لجعله يظهر مثل الهلوسة مع استخدام العود في البداية.
استخدام قدر كبير من الآلات والتنويعات الإلكترونية، سواء من قبل موريس لوقا بأجوائه الشعبية أو تامر أبو غزالة بالأجواء الهلوسية، ساهم في تعزيز صورة الغرابة.
الإخفاء
من البوستر والكلمات والألحان يمكن أن نجد المخفي في الألبوم. الإخفاء هو انعكاس لحالة الهزيمة واليأس عند الكثير من الشباب المصرين، وخصوصاً شباب القاهرة الكبرى الذين خصهم الألبوم في البوستر. يتبنى الألبوم أطوارهم المتعددة للتعبير عن هزيمتهم جميعًا، سواء من خلال الحزن أو الخوف أو الهلوسة أو السخرية اللاذعة من كل شيء.
الألبوم يقصد شبابًا من طبقات وتوجهات مختلفة، وهذا ما ظهر جليًا في اختلاف عمق الكلمات وتعقيدها. وتنوع الألحان بين شعبية، وغربية، وحديثة. وبعض الأغاني كانت تحمل كل هذه التنويعات في مقطع واحد. الإخفاء هو تجربة جديدة وغريبة وجريئة ومفكرة. لا تحاول استغلال الكلمات الشعبوية كما في ألبوم «كايروكي»، ولا يحاول الجنوح للشكل الغربي الموسيقي والكلمات شديدة الرمزية التي تحتاج قدرًا عاليًا من الثقافة كما في حالة ألبوم «مشروع ليلي». ولكنه يصنع حالته التي تشبه البيئة الخارج منها بكل أطوارها التي تبدو قبيحة أحيانًا وغريبة وحزينة وجريئة وجميلة في أحيان أخرى.