هيرفي رينارد: عامل نظافة فجرًا ومدرب صباحًا
حين تشاهد مدرب المنتخب السعودي «هيرفي رينارد» وهو يلقي بكلمات تحفيزية للاعبيه بين شوطي المباراة، تنم أحيانًا عن رغبة ملحة في الاستفزاز الذي يصل إلى الإهانة، فاعلم أن هذه الطاقة لم تأتِ من فراغ. أدمن هذا الرجل طيلة مسيرته تحويل الإهانات إلى نجاح، ولذلك فهو يعلم جيدًا ماذا يقول وكيف يتعامل مع مثل هذا النوع من المحفزات.
عامل نظافة، نعم… لقد بدأ الرجل حياته العملية عامل نظافة. تستهويه كرة القدم فيقرنها إلى وظيفته الأساسية التي يرى فيها الإهانة كل يوم. نحن هنا لا نتحدث فقط عن عامل نظافة أكرمه الله وصار مدربًا فترك وظيفته الأساسية، بل عن مدرب بدأ مسيرته المهنية وهو يرى أنه لا ينبغي أن يتنازل عن مهمته الأساسية كعامل نظافة، لأن المستوى الذي بدأ منه لم يكن يؤهله ماديًا للتنازل عما يجنيه من تنحية ما يلقيه الناس من فضلات.
كان يبدأ يومه في الثانية صباحًا وهو شاب في الثلاثين حين أنهى ممارسة كرة القدم بمشوار أقل من المتوسط، يبدأ ورديته كعامل نظافة متجول وينتهي منها مع بداية استيقاظ البشر، ليذهب إلى ورديته الأخرى في تدريب كرة القدم بنادي دراجوينان المغمور، الذي حقق أبرز إنجازاته في الخمسينيات حين تأهل إلى ثمن نهائي كأس فرنسا، الآن هو نادٍ غير مصنف في دوريات فرنسا بالأساس.
عامل نظافة فجرًاومدرب صباحًا
بعمر الثلاثين بدأ الرجل مسيرته التدريبية، ولم يترك مسيرته «التنظيفية». قال إن الحصول على سكن له كان يشترط الحفاظ على الوظيفتين، وصف رينارد هذه الفترة من حياته ذات مرة قائلًا: «كانت حياة أصعب بكثير من أن تكون مجرد مدرب أو لاعب كرة قدم محترف، إنه أفضل تعليم يمكن أن يحصل عليه المرء على الإطلاق».
ظل محافظًا على ذلك التدرج في الوظيفتين، حتى أسس شركة تنظيف خاصة به في فرنسا عام 2001، ومع بدء الترقي في وظيفته كعامل نظافة، أتت خطوة لم يكن يتوقعها على الإطلاق كتبت له التطور في عالم التدريب، في تقرير لـ«الجارديان» نشر مؤخرًا، تم التأكيد على أن رينارد كان على أعتاب أن يتفرغ لإدارة شركته ويضع تجاربه التدريبية على الهامش، لكن أتت الرياح بما تشتهيه سفن «المدرب رينارد» في 2001.
أتته المكالمة من صديقه بيير روميرو، أحد مديريه في وقت سابق، وكان وقتها مسؤولًا في نادي روين الذي يلعب في الدرجة الرابعة الفرنسية، بالكاد تستطيع الآن أن تجد حسابًا لروميرو هذا على مواقع التواصل الاجتماعي، حساب غير موثق على تويتر، سيخبرك كيف أن رينارد بدأ من تحت الصفر.
كانت المكالمة واضحة، أحد كبار المدربين الفرنسيين الرحالة في أقطار العالم المختلفة وهو كلود لوروا يريد مساعدًا في جهازه الفني مع بدء تجربة جديدة في الصين وتحديدًا في نادي شنجهاي كوسكو، هل يمكنك أن تقبل هذا الدور؟ ومن دون أي تفاصيل قال: نعم. من يستطيع رفض فرصة كتلك وهو قبل وقت قليل فقط كان عامل نظافة؟
ظن رينارد أن كل شيء قد انفتح له، كان مختصًا بالشق البدني في جهاز لوروا، والحق أن الفرنسي وثق به كثيرًا، لكن النتائج لم تسعفه مع الفريق الصيني لتنتهي تجربته في غضون عام واحد فقط، وينتهي كل شيء في وجه رينارد، الذي وجد نفسه لا يطال أي شيء، لا يباشر شركة النظافة التي أسسها، وليس له أي تجربة تدريبية في الوقت الراهن.
إن هذا مهين أكثر، أن تنتشل نفسك من كل شيء وتراهن على فرصة، فتطير تلك الفرصة أدراج الرياح لمجرد أنك في كنف مدرب كثير التنقلات، ولكن حياة رينارد المليئة بالإهانات ربما كانت دائمًا تفسيرًا لما سماه نيك آميس كاتب «الجارديان» بـ«الشرارة المتقدة في عيني رينارد».
«لوروا يجلب لي الحظ»
في 2004، عاد لوروا لانتشال رينارد مجددًا وإعادته لعالم كرة القدم من جديد، تجربة في كامبريدج يونايتد الذي كان ينشط في الدرجة الثالثة الإنجليزية ومهمة إنقاذ من السقوط للدرجة الرابعة، حينما سئل لوروا بكيفية قبول منصب كذلك، قال بوضوح: «لقد كانت مهمة لمساعدة صديق سابق (رينارد) لكننا أنقذنا النادي».
النادي آنذاك كان بالمركز الثالث والعشرين في لائحة ترتيب الدرجة الثالثة الإنجليزية، وصل لوروا ومساعده رينارد في منتصف موسم 2003-2004 ليساعد الفريق في البقاء ويحتل المركز الثالث عشر في المسابقة ويضمن عدم الهبوط.
صلاحيات رينارد آنذاك كانت في الشقين البدني والفني، ولكنه اسميًا كان مدرب أحمال في كامبريدج يونايتد.
هذا المعروف الذي أسداه لوروا إلى رينارد، يجعل الأخير دائمًا يتحدث عنه بإجلال كبير، ويستخدم كلمات عاطفية للغاية في وصف شيخ المدربين الفرنسيين خارج القطر من قبيل «وجوده يجلب لي الحظ» و«لولاه لما وصلت إلى ما أنا فيه».
ظل رينارد مع لوروا مساعدًا فنيًا ومختصًا بالأحمال البدنية في كل من تجربتيه بمنتخبي الكونغو وغانا، وفي 2008، تولى قيادة زامبيا في أول تجربة منفصلة له، وفي إحدى ولايتين، وحينما جلس مع مسؤولي الاتحاد الزامبي كان أول ما قيل له: «كيف تجعلنا نثق في أن مدرب أحمال يستطيع إدارة فريق كرة قدم من الناحية الفنية؟».إهانة جديدة، وهذا الرجل يحب الإهانة كما اتفقنا.
سيحقق رينارد مع زامبيا في ولايته الثانية أهم إنجاز كروي في تاريخها، وهو الحصول على لقب كأس الأمم الإفريقية 2012، سيأخذ اللاعبين إلى موقع تحطم طائرة منتخب زامبيا الشهيرة في 1993، لأنه يعرف جيدًا أن فقدان 18 لاعبًا في حادث كذلك أمر من المهين ألا يتم تذكره أثناء لحظة الانتصار الأعظم في تاريخ البلاد، وهذا الرجل يعرف كيف يتعامل مع الإهانات، يتفادى تأثيرها ويعتقد أن مثل هذا الحادث منح فريقه «أعظم قوة على الإطلاق» ولو كان قد مر على حدوثه آنذاك 19 عامًا.
تحول بعدها إلى الجيل الذهبي لكوت ديفوار، الذي تعرض لصدمات متتالية في كأس الأمم الأفريقية، إهانات في كل نسخة تتساءل فيها القارة بأسرها: «كيف لم يفز هذا الجيل باللقب الأفريقي حتى الآن؟»، هذا الجيل الذي ضم ديدييه دروجبا ويايا توريه وأرونا كونيه وعبد القادر كيتا وإيمانويل إيبوي وغيرهم من النجوم، يدخل كل نسخة من 2006 وحتى 2013 وهو المرشح الأقوى للقب، يقدم أقوى مستوى ثم لا يتوج! بعض الإخفاقات تكون بالأربعة من مصر، أو بالثلاثة من الجزائر!
فما يكون من رينارد إلا أن يحول كل تلك الإهانات، إلى لقب طال انتظار الأفيال له في 2015، ليصبح المدرب الوحيد في تاريخ القارة الإفريقية الذي يحقق لقب كأس الأمم مع منتخبين مختلفين.
«هيا خذ صورة مع ميسي!»
بعد كل هذه الإهانات التي تحولت إلى نجاحات باهرة في مسيرة الرجل، يمكنك تفسير لماذا أصر على توبيخ حسان تمبكتي بين شوطي مباراة السعودية والأرجنتين بمنتهى العنف لأنه لم ينفذ خطة الضغط على ليونيل ميسي حين يستلم الكرة بوجهه ويبدأ في تحريك اللعب فيقول له: «اذهب والتقط صورة معه إذا أردت!».
وبخ صالح الشهري أيضًا بين الشوطين وكان الرد من المهاجم السعودي حاسمًا بعدها بدقائق معدودة حين سجل التعادل مع الأرجنتين في يوم لن ينساه العالم أجمع لا العرب فحسب، هذا الرجل يعرف معنى أن تهين إنسانًا بطريقة تعيده للحياة، تمامًا كما عاد للحياة عامل نظافة تحول إلى أحد أشهر مدربي العالم.