ما باحت به الأشجار لـ «هرمان هسه»
قام الناشر الخاص بـ هرمان هسه* بتجميع عدد من المقالات التي كتبها هسه عن الأشجار، وأصدرها في كتاب بالألمانية بعنوان: Bäume: Betrachtungen und Gedichte الأشجار: خواطر وأشعار. صدر الكتاب عام 1984، وصدرت آخر طبعاته عام 2014. ولكن لم تصدر منه ترجمات بالإنجليزية حتى الآن غير بعض المقاطع البسيطة والاقتباسات المترجمة من قبل القراء. وبين يديكم ترجمة لمقطع منه عن الألمانية.
كانت للأشجار دائما أقوى الخطب والعظات التي تتمكن من اختراق كياني، أنا أقدسهم عندما يعيشون في قبائل وعائلات، في غابات وبساتين، بل وأقدس الشجرة الوحيدة، التي تشبه الأشخاص المنعزلين. ليس الزهاد والرهبان الذين هربوا من ضعفهم، بل هي مثل الرجل العظيم المتفرد بوحدته؛ مثل بيتهوفين ونيتشه.
بأطوالهم الباسقة يجلبون إلى العالم أنغام الحفيف الرقيقة، وبجذورهم التي تمتد إلى اللانهاية، ولكنها لا تفقد نفسها في هذا العمق وهذا الطين. يحاربون بجميع قواهم الحياتية من أجل شيء واحد: الوفاء لتلك القوانين التي وضعوها لأنفسهم، لكي ينشئوا صورتهم الخاصة التي تمثل كل شجرة على حدة. لا شيء أسمى من ذلك، لا شيء أكثر مثالية من شجرة متميزة جميلة وقوية.
عندما تقطع إحدى الشجرات، ويُعرض جرحها العاري الميت لضوء الشمس، يستطيع المرء قراءة تاريخ حياتها بالكامل عبر النظر إلى تلك الأقراص الوضاءة اللامعة المنقوشة والمكونة لعودها. إنها حلقات عمرها، جروحها، كفاحها، معاناتها، جميع أمراضها وسعادتها وازدهارها، صفعات العواصف سنوات القحط وأعوام الازدهار.
كل فتى صغير عاشر الأشجار قليلا يدرك أن أقوى الأخشاب هي تلك التي تمتلك أضيق الحلقات. فكلما زاد ارتفاعها واقتربت أكثر من الأخطار؛ كلما زادت القوة والمثالية في نموها، وأضحت عسيرة على التحطيم.
الأشجار مقدسة. من يتعلم كيف يتحدث معها، من يتعلم كيف ينصت إليها، يستطيع الاقتراب أكثر من الحقيقة، بل وملامستها. الحقيقة الهاربة من سيطرة التفاصيل. الحقيقة الأبدية للحياة.
تقول شجرة: النواة مخبأة في داخلي، البريق، الفكر. أنا حياة مستمدة من الحياة السرمدية. المواقف والأخطار التي تسلكها الأبدية الأم معي متفردة. متفرد شكل العروق الطافحة على جسدي، متفردة مسرحية الأغصان تلك التي تجري على أفرعي وتلك الندبات الصغيرة على أزيائي الخارجية. لقد خلقت لأعكس الأبدية في أكثر تفاصيلي صغرا.
وتقول أخرى: أنا واثقة في قوتي. لا أعلم شيئا عن آبائي، ولا أعلم شيئا عن آلاف الأطفال الصغار الذين ينبثقون مني كل ربيع. أنا أستكشف فقط تلك الأسرار المدفونة في بذوري حتى النهاية. لا شيء آخر يهمني.
أنا أثق أن الإله في داخلي، واثقة بأن ولادتي كانت مقدسة. وبتلك الثقة أقضي حياتي.
عندما نفقد تماسكنا وقدرتنا على تحمل الحياة، تحدثنا الأشجار قائلة: التزم الهدوء، التزم الهدوء وانظر إلي. توقف عن التفكير الطفولي، الحياة ليست سهلة، الحياة ليست صعبة. أنصت فقط إلى نداءات الإله بداخلك، واستمد منها قناعاتك. يراودك القلق لأن الطريق يحملك بعيدا عن سكينة الوطن وحضن الأم؟ فلتعلم أن كل خطوة تخطوها وكل يوم يمر عليك يحملك إلى حضن الأم. الوطن ليس هنا ولا هناك. إذا لم يكن الوطن بداخلك أنت، فلا وطن لك على الإطلاق.
الحنين إلى التجوال يسيطر على قلبي عندما أنصت إلى حفيف الأوراق تحت تأثير نسيم المساء. إذا ما أنصت المرء جيدا لتلك الأصوات مدة طويلة، فإن ذلك الحنين سيكشف له عن بذرة المعنى المفقودة من حياته. إنها ليست وسيلة للهروب من المعاناة، مع أنها تبدو كذلك، بل هي حنين إلى الموطن الأم، إلى ذكريات الطفولة البريئة إلى دلالات جديدة للحياة. ذاك حنين يعود بك إلى الوطن. ستدرك أن كل طريق هو طريق عودة للوطن، كل خطوة هي ولادة جديدة لشئ لا تعلمه، كل خطوة هي وفاة جديدة. وكل لحد هو حضن للأم الأبدية.
صوت حفيف الأوراق في المساء، عندما يأتينا ونحن نعاني من أفكارنا الطفولية، يحدثنا عن خبرات الأشجار الكبيرة، في سباتها وهدوئها وحكمتها التي منحها لها العمر الطويل. الأشجار أكثر حكمة منا عندما نتوقف عن الإنصات لها. ولكن عندما نتعلم كيف نستمع إلى حكمتها، عند ذلك أفكارنا الطفولية المتسرعة تحقق بهجة لا تضاهى.
من يتعلم كيف ينصت للأشجار لا يريد أن يصبح شجرة. لن يريد أن يكون شيئا آخر غير نفسه، هذا هو الوطن وتلك هي السعادة.
سأظل أسعى دوما نحو الحقيقة، ولكنني توقفت عن سؤال الكتب والنجوم. وبدأت أنصت إلى تعاليم الدماء المتدفقة بداخلي وهي تهمس لي.
* كاتب وأديب سويسرى من أصل ألماني، وهو شاعر وروائي عالمي، حصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 1946