هنا غزة: 90 دقيقة من الهدنة
هناك موجة من الأخبار والصور التي تتدفق علي صفحات الإنترنت بعد كل موقف يعبر عن تضامن مع قضية الفلسطينيين، تحمل التحليل حول مغزى ومصير التضامن في تغيير الأمر الواقع، وموجة أخري من الذكريات التي تمر على ذاكرة المرء في محاولة لحصر مواقف ومحطات سابقة شكلت وعيه عن مفهوم التضامن بالأساس وبخاصة الفلسطينيين، إحدى أشهر وأكثر تلك المواقف تعلقًا بالذهن كان رياضيًا كرويًا بطله «محمد أبوتريكة».
اللافت ربما يكون أثر مظاهر هذه الأشكال التضامنية علي الفلسطينيين، فيما يحملون مشاعر الغضب للحرب، فإنهم يسعدون ويحترمون تعاطف الآخر مع معاناتهم، يؤكد لك ذلك الميدان والملاعب التي تغيرت أسمائها لصالح أبوتريكة كما رسومات «سفيان فيغولي» التي زينت بعض حوائط فلسطين.
محمود درويش كتب يومًا أن كرة القدم تعبر بدقّة عن طبائع الأمم في الهجوم والدفاع وأسلوب اللعب الفردي المعتمد علي المهارة أو الجماعية المبنية علي الجهد، كما فسّر حالة المشجع والمشاهد الذي يدفعه سياق تاريخي واجتماعي لبناء موقفه.
متضامن من كل فريق
المجال لا يتسع لذكر نسيج واسع من إعلان التضامن الذي حازه الفلسطينيون من نجوم اللعبة، ألوان تختلف درجاتها بين إعلان واضح لا يقبل التأويل وآخر استدعاه موقف معين لتعليق يحمل توازنات وأخير يبدي تمنيه أن يحل السلام في كل العالم بدون تفاصيل، فالتضامن عمومًا موقف ذاتي يخص مبادئ أي شخص، إعلانه من عدمه يظل اختيار شخصي خاضع لأولويات يحددها اللاعب نفسه.
«مارادونا»، «بوفون»، «كانوتيه» وآخرون يقعون جميعًا في الدرجة الواضحة، فالأول كان قد أعلن عند وصوله لتدريب نادي الوصل بأنه «المشجع الأول لفلسطين» وهو الأمر الذي استدعي أن يزوره أحدهم بعد التدريبات ويهديه الوشاح الفلسطيني ليقابله ملك الأرجنتين بترحاب وسعادة شديدة مرددًا «فيفا فلسطين»!
لبوفون قصة أخري مع ذلك الوشاح الذي ظهر به في أكثر من صورة، لكن حارس إيطاليا الأول لم يكتفي بذلك فكان أن غرّد علي «تويتر» دعمًا للإستقلال الفلسطيني.
أسطورة الأتزوري أعلن عن دعمه لفلسطين بأكثر من طريقة
أما كانوتيه فإن قصته أشهر من أن تُروي، المهاجم المالي نشر صورة حديثة نسبيًا تشير لاحتفاظه بذلك القميص الأسود الذي يحمل كلمة «فلسطين» بلغات شتّي، القميص ظهر للمرة الأولي بعد أن سجل كانوتيه في «ديبورتيفو لاكورنيا» لصالح «إشبيلية» ونال استحسان الكثيرين.
رونالدو يحظي بالجانب الأوفر من تسليط الضوء علي موقفه، يعود ذلك لموقفين بدرا من قائد البرتغال؛ الأول كان بحفل «البالون دور» 2008 والذي فاز فيه بجائزة أفضل لاعب بالعالم في الوقت الذي تم تكريم الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم فكان أن جمعته صورة بأعضاء الاتحاد خلال الحفل يرتدي فيها وشاح فلسطين، لاحقًا تبرع رونالدو بقيمة الجائزة التي تقدر بـ1.5 مليون يورو لأطفال غزة.
الموقف الثاني كان استقبال الطفل الفلسطيني «أحمد الدوابشة» الذي راحت عائلته جراء القصف ونجا الصغير بعد 10 عمليات جراحية، الدوابشة الذي لا يزيد عمره عن عدد أصابع اليدين كان يحلم بلقاء رونالدو بطل طفولته، الحلم تحقق بدعوة الأخير كما شمل اللقاء الثلاثي؛ «مارسيلو»، «بيبي»، «بنزيمة».
«ميسي» هو الآخر كان له نصيب من إعلان التضامن، قائد وصيف كأس عالم 2014 كان قد كتب خلال العام نفسه علي «فيس بوك» إدانة للعنف الذي يحدث للفلسطينيين مشيرًا إلي أن الأطفال هم من يدفعون ثمن الصراع وقد أضاف صورة لطفل فلسطيني مصاب، بينما علي الصعيد العربي، يبقي موقف أبوتريكة خلال كأس أمم إفريقيا 2008 هو الأبرز فيما أكد «الماجيكو» علي موقفه حينما أعلن تمنِّيه أن يُدفن قميص التعاطف مع غزة بقبره.
الجزائر، اسكتلندا وإيطاليا
هل يمكن تخيل الجمهور الجزائري يحتفل بالتسجيل في مرمي فريقه؟!
ربما هو تخيل أقرب للمستحيل منه إلي التصديق!
لكن المستحيل حدث بالفعل حين استضافت الجزائر المنتخب الفلسطيني لمباراة ودية مطلع هذا العام، نال خلالها الفريق الفلسطيني ترحيبًا شديدًا اجتاز حتي الحماس المعهود لثعالب الصحراء، العلم الفلسطيني زاحم نظيره الجزائري علي تصدُّر واجهة المدرجات وحلَّت فرحة عارمة حين سجل الضيوف هدفهم الأول.
ارتباط جمهور شمال إفريقيا بفلسطين أمرُ بات معهودًا حيث ظهر العلم الفلسطيني في مدرجات الجزائر بكأس العالم الماضي، كما بمدرجات كبرى الأندية المصرية والتونسية والمغربية، حافلة استقبال المنتخب الجزائري نفسه حملت العلم الفلسطيني بعد عودتهم من كأس العالم الماضي قبل أن يبادر المهاجم «إسلام سليماني» بإعلان تبرع المنتخب بقيمة جائزة التأهل لدور الـ16 لفلسطين والتي تقدر بـ9 مليون دولار.
أما في الغرب فيظل أشهر المتضامنين علي الإطلاق هو جمهور «سيلتيك»، قد يظن البعض أن ما قام به جمهور الفريق الأسكتلندي مؤخرًا غرضه نكاية الخصم الإسرائيلي، لكن الحقيقة أن هذه ليست المرة الأولي التي يبدون فيه تعاطفهم مع فلسطين إذ خرجت تقارير من مواقع تشير لمساندة جمهور سيلتيك الدائمة للعدالة ورفض العدوان وهو ما أشار له الكاتب «أندي مورهيد» بتقريره علي موقع «سكوتزين» والذي حظي بتأييد قطاع كبير من القراء مشجعي سيلتيك.
لاحقًا قررت «الفيفا» توقيع عقوبة علي جمهور سيلتيك لكن الأخير نجح في جمع مبلغ العقوبة في أقل من 48 ساعة، التقرير نفسه أشار إلي حملة سكان مدينة «جلاسكو» الإسكتلندية لدعم الحقوق الفلسطينية والتي تدعم موقف جمهور سيلتيك.
في إيطاليا فإن لجمهور أندية العاصمة؛ «لاتسيو» و«روما» بالإضافة لجمهور نادي «ليفورنو» سوابق مع إبراز التعاطف مع فلسطين، صحيح أن تعاطف الطليان ليس بدرجة سيلتيك لكنه موقف ظهر أكثر من مرة خصوصًا في أوقات الحروب.
كارت أحمر
في إحدى ضواحي «لندن» تستند عربة طعام صغيرة لشاب ذي ملامح عربية تعلو وجهه ابتسامة مُرَّة تشير إلي قصة قاسية طويلة، يبرز الاختلاف في قصة الشاب عندما يبدأ في استعراض كرة القدم بمهارة فائقة بعد الإنتهاء من تحضير «الفلافل الشامية» الوجبة الشعبية لوطنه، تتيقن بأن العربي الذي يدعي «محمود» يحمل حكاية فريدة من نوعها حين تقع عيناك علي الصورة التي تجمعه مع ملك مانشستر «إيريك كانتونا» بينما يبدو الأخير في سعادة بالغة بحضور محمود. عمومًا، كم مرة رأيت كانتونا مبتسمًا؟
صورة كانتونا هي الفصل الأخير من قصة «محمود السرسك» اللاعب الفلسطيني الذي تعرض للاعتقال الإسرائيلي صيف عام 2009 بعد سلسلة من المضايقات نالت من سجله كلاعب ومنعته من عدّة مشاركات.
ظن محمود في البداية بأن هناك خطأ إداري،فلاعب نادي «خدمات رفح» لا ينتمي تنظيميًا لأي إتجاه سياسي، لكن سرعان ما اتخذت الأمور منحنى معاكسًا، يسرد «السرسك» بأنه واجه إصرارًا علي اعتقاله، فتنكيلًا وتعذيبًا لا يزال وجهه شاهدًا عليه، ثم فوجئ أنه ليس الرياضي أو لاعب الكرة الفلسطيني الوحيد الذي يواجه الإعتقال بدون تهمة بل أن غيره ممن يعانون أمراضًا من بينها السرطان سبقوه لنفس المصير.
قبع السرسك بالسجن مدة ثلاثة أعوام، أدرك خلالها ضرورة انتزاع حريته فأعلن إضرابًا عن الطعام، زامل ذلك حملة تضامن كبري للإفراج عنه أيدتها أسماء كـ«إيريك كانتونا»، «ليليان تورام»، «كانوتيه»، «أبو ديابي» وهو الأمر الذي شكل ضغطًا علي «بلاتيني» كما «بلاتر» فطالبا بسرعة الإفراج عنه.
هكذا كانت الصورة الأولي لمحمود عقب تحريره؛ محمولًا علي الأعناق ومحاطًا بأهله، علي صدره صورة تدعو للتضامن مع زملائه الذين ودعهم وكرة القدم بيده اليمني، الصورة تطابق تمامًا تصريحه اللاحق عن الكرة التي كانت سلاحه. فوجئ بعد خروجه بحملات التضامن التي وصلت حتي «بريطانيا» حين أعلنت منظمة «الكارت الأحمر» التي تستهدف انتزاع العنصرية من الملاعب عن موقفها بدعمه ثم ما لبثت أن دعته لزيارتها وتوثيق مسيرته.
كرة القدم تنتصر للاعب صاحب الإصرار والعزيمة الأوفر، كما القادر علي قراءة موقفه وإستغلال ما يملك، كذلك الحياة أحيانًا تنتصر لأصحاب النفوس الحرّة.
كأس العالم في غزة
ينقسم العالم خلال المونديال إلي ثلاثة؛ بلدان مشاركة تزحف الجماهير خلفها ،وأخري غير مشاركة تشاهد عن بعد، وأخيرة لا تحظي بحظ الأولي أو الثانية وأحيانًا محاصرة بالقوة العسكرية، الأخيرة كانت واقع غزّة خلال كأس عالم 2014!
الحصار الخانق الذي امتد للتشويش على الإرسال التلفزيوني لمباريات المونديال بحسب صحيفة «معاريف» العبرية منع الناس حتي من هدنة مدتها 90 دقيقة لكنه سرعان ما أن فقد كثيرًا من قيمته بتكرار الفكرة التي ظهرت خلال مونديال2010 وهي إقامة بطولة بين فرق الشباب تحمل أسماء المنتخبات المشاركة بنفس ترتيب المجموعات وتنال تغطية إعلامية محلية جيدة خصوصًا أثناء حفل الإفتتاح البسيط الذي أقيم بميدان الجندي المجهول وحمل شعار «الاحتلال يحاصرنا وكأس العالم نافذتنا».
بإمكانيات بسيطة للغاية وشغف حقيقي لمشاركة العالم كبري الأحداث الرياضية كما رفض سلب أبسط الحقوق كالاستمتاع بمشاهدة الرياضة؛ تولدت فكرة إقامة بطولة تحتضن المواهب الناشئة وتشكل متنفس لأندية فلسطين كما تفتح الباب لتضامن أوسع لهؤلاء الذين يبحثون عن فضاءات أسمى من تنازعات المباريات.
تطوير فكرة البطولة يحتاج إلي عاملين رئيسين؛ الأول هو مزيد من إدماج للمنظمات الأهلية والمجتمع المدني والكيانات الإعلامية بالأخص غير المحلية، الأمر الذي سيضفي شرعية تقف حيال منع إقامة البطولة، أما الثاني فهو ضرورة دعوة مدارس وأكاديميات الكرة حول العالم لمشاهدة تسجيلات البطولة لالتقاط المواهب الاستثنائية لفرص حقيقية بمجال كرة القدم.
لاعب النرد كمشجع
موقف درويش الأشهر مع الكرة كان النص البديع الذي كتبه عن «مارادونا» عقب انتهاء كأس عالم 86، يبدي فيه حزنه علي انتهاء البطولة وبالتالي الحرمان من سحر قدمي «دييجو» المعجزتين كما يصفهم، كما يشير إلي أن مارادونا كان قادرًا علي ملئ مساحة البطل في تصورات كثيرين سهروا لاختلاف توقيتات إذاعة المباريات لأجله وهتفوا حماسة له وخافوا من انكساره.
الملحوظ أن درويش ربط بين مجريات البطولة وبين واقعه حينها، فتراه يبدي تعاطفًا أوليًا مع فقر الأرجنتين ونشأة دييجو البسيطة وقدرته علي كسر أنف إنجلترا المغرورة كما قدرتهم علي الاستمتاع به رغمًا عن الحرب الأهلية. درويش بطبيعته كشاعر أهتم بالجانب الحسي الذي يرتبط دومًا بكرة القدم في وقت بات البرود العاطفي مستشري بكل شئ، ومن هنا كان سؤاله عن قلة الاهتمام الأدبي والفني بلعبة تجمع مشاعر الفرح والحزن والقسوة!
هل يمتلك اللاجئ رفاهية مشاهدة كأس العالم؟
الإجابة المنطقية؛ لا، إذ إن الكهرباء لا تتوفر بشكل دائم ناهيك عن مدي قوة إشارة الإرسال!
لكن حكاية تختلف عن المنطق كل الإختلاف بدأت حينما استعان درويش ببطارية سيارة لاستعارة الطاقة الكافية لنقل مباراة إيطاليا والبرازيل!
الدخان الأسود ودوي الصواريخ زاحم شمس بيروت أثناء الحرب الأهلية التي ذاق فيها اللاجئون الفلسطينيون الويلات؛ هكذا يبدأ شاعر فلسطين «محمود درويش» السرد بكتابه «ذاكرة للنسيان» عن بوارج إسرائيلية تتغول بالبحر ومقاتلات أخري بالجو وحرارة أغسطس/آب التي تتضاعف بحضور روتين الموت المفترس، لكن سياق معنوي آخر يرتكز علي الحب الفطري للحياة والمتعة وعلي الحق في البحث عنهما يتقاطع مع تلك اللحظة الكابوسية يعبر عنه درويش الذي كان مشجعًا كرويًا من طراز لا بأس به، شديد المحبة لـ«بيكاسو» خط الهجوم الإيطالي؛ «باولو روسّي» الذي سيقود فريقه بكأس العالم بأسبانيا 82.
كرة القدم منحت ذات مرة مخيم اللاجئين هدنة، ما لبث أن تحول الحصار إلي منتدى جماهيري، وتبدل الضجر وانقباض الصدور إلي هتاف وحركة مع مراوغات وأهداف «روسّي» الذي عاش حينها أفضل أيامه حتي وصفه درويش أنه هوّن بطش الحرب وحوّل الصواريخ إلي مجرد ذباب مزعج لن يعكر صفو لحظات الفرح الذي أوجدها «بيكاسّو الأتزوري»، ثم طاوعت لاحقًا مارادونا للحد الذي أكسبه صفات البطولة في وجدان شاعر شهد وأجاد التعبير عن مأساة بلده.