هنري فورد: الرجل الذي غيَّر وجه الصناعة الحديثة
في قرية صغيرة من قرى ولاية ميشجان الأمريكية وُلد هنري فورد عام 1863. عائلته كانت تعمل في الزراعة، بحكم وجودها في قرية، وانضم إلى العائلة هو الآخر. لم تكن الزراعة تستهويه لكن استمر في ممارستها خضوعًا لتقاليد العائلة. وفي وقت فراغه كان طفلًا يفكك الأشياء ويعيد تجميعها، ويصلح أعطالها. كالساعة المميزة التي أهداها له أبوه في يوم ميلاده الخامس عشر، ففككها في لحظتها.
اكتسب في محيطه سمعة الشاب الذي يُصلح الساعات. لكن بحلول عام 1879 لم يحتمل فورد التواجد في المزرعة أكثر، وقرر ترك المنزل. فقد توفيت والدته عام 1867، وقد قال لاحقًا إنه لم يكن لديه أي حب للمزرعة، وكان وجود أمه في المزرعة جل ما أحبَّه.
ذهب إلى ديترويت ليعمل في ورشة ميكانيكا. تنقل بين ورش وشركات الميكانيكا المختلفة حتى تمكن من معرفة جميع خبايا المُحرك البخاري، وصيانة الآلات الزراعية. كما استغل وجوده في ديترويت لتعلُّم الميكانيكا وتعلم المحاسبة بشكل أكاديمي، فدرس في كلية جولدسيميث للأعمال.
بعد عودته إلى قريته عمل في شركة ويستنجهاوس إلكتريك، التي تعمل في مجال التطوير الكهربائي. لكن لم يكن راتبه منها يكفي لحياة جيدة، فاضطر إلى تركها والعودة إلى العمل في مزرعة العائلة بعد زواجه. لكن مرةً أخرى لم يحتمل البقاء بعيدًا عن الميكانيكا والمحركات، فعاد إلى شركة ويستنجهاوس. عاد بصفته مهندسًا مختصًّا في صيانة المحركات البخارية.
الهروب من توماس إديسون
حاول أن يجمع بين الزراعة والصناعة فطوَّر عربة بخارية تساعد الفلاحين، أشبه بالجرار الزراعي حاليًّا. وصنع عربة بأربع عجلات، بدلًا من العربات ذات العجلتين. كان ما يزعجه في هذه الابتكارات هو الاعتماد على المحرك البخاري، فقد كان يراه غير مناسب لهذه العربات الخفيفة.
سنحت له فرصة استراق النظر على تركيب المحركات المعقدة حين طُلب منه إصلاح محرك إحدى السيارات الخاصة بأحد الأثرياء. لكن ظل فورد مقتنعًا أن ثمة شيئًا ناقصًا في كل السيارات التي يراها حوله. بحثًا عن هذا المفقود التحق للعمل بشركة إديسون للكهرباء عام 1891. أخبر فورد صاحب الشركة توماس إديسون بخطته لإنشاء عربات جديدة بأربع عجلات، خفيفة الوزن وسريعة الحركة نسبيًّا، فدعمه إديسون.
بعد عام واحد فقط نجح فورد في صناعة أول سيارة بمحرك قدرته 4 أحصنة، كما كانت طريقة حركتها بدائية قليلًا. فقرر بيعها واستخدام المال في تطوير سيارة أفضل. في تلك الفترة كان النجاح هو عائقه، فقد حصل على ترقية في شركة إديسون براتب مرتفع، لكن الشرط الوحيد كان أن يتخلى فورد عن أي عمل خارج الشركة.
بعد فترة من الالتزام بالوظيفة دون العمل خارجًا، لم يجد فورد في نفسه القدرة على المواصلة بعيدًا عن ورشته التي يحبها. فترك شركة إديسون للعمل في شركة سيارات. فعمل في شركة ديترويت للسيارات، لكنه سريعًا ما غادرها حين تمت تصفية الشركة بالكامل.
استغل هو وزملاؤه تصفية الشركة، وكونوا شركة جديدة فيما بينهم تُعنى بصناعة سيارات السباق. بعد قرابة العام والنصف لم تُحقق الشركة أي نجاحات في الأسواق، لذا قاموا بتصفيتها.
سيارة لكل مواطن
رغبة فورد في تحقيق إنجاز ما في مجال السيارات لم تتلاشَ، لكن العمر لا يمهل الإنسان. بعد المحاولات السابقة كان فورد قد قارب الأربعين من العمر. فقرر الاكتفاء بإنشاء معرض للسيارات. هدفه من هذا المعرض أن يقوم غير القادرين بتجرية السيارات المملوكة لأناس آخرين بمقابل مادي، لأن اقتناء سيارة في تلك الحقبة كان خيالًا لا يمكن تحقيقه للطبقات المتوسطة.
بعد تجربة المعرض فكَّر فورد لماذا لا يمتلك الجميع سيارة، وأن بإمكانه العمل على آليات التصنيع والتسعير حتى تصبح السيارة ملكًا للجميع. لذلك في عام 1903 حلَّق بحلمه لمستوى مختلف، فأطلق شركة فورد موتورز. أطلقت الشركة بعد إنشائها السيارة المعروفة باسم موديل تي. لاقت السيارة رواجًا حتى عُرفت لاحقًا بأنها سيارة القرن.
باعت الشركة العديد من السيارات للأمريكيين من الطبقة المتوسطة، فقد كانت الشركة بمثابة المصباح السحري الذي سيمكنهم من اقتناء السيارات التي كانت حكرًا على الطبقات العُليا والأثرياء فقط. السعر المُقارن الذي قدمه فورد لعملائه أتي من ابتكاره ما يُعرف حاليًّا بخطوط التجميع، والتوفير الهائل الذي قدمته للشركة.
التقط فورد فكرته من صناعة الدراجات، وبعض الصناعات الأخرى كتغليف اللحم. وقال فورد إنه إذا كان هناك مسار محدد ينتهي بخروج سيارة كاملة، لكن في خلاله يقوم كل فرد بمهمة واحدة فقط، بالتالي مع مرور الوقت سيصبح العامل أسرع في أداء مهمته، وأكثر إتقانًا لها. والأهم أن ذلك سوف يقلل من الوقت والموارد الضرورية لإنتاج سيارة واحدة.
بهذه الفكرة حفر فورد اسمه في عالم الصناعة ككل، وليس في صناعة السيارات أو في سيارات فورد فحسب. فقد اقتبست منه جميع الصناعات فكرة خط التجميع، وتكليف العامل بمهمة واحدة فقط.
المجتمع هو الهدف الأسمى
قد يبدو هنري فورد عاشقًا للميكانيكا فحسب، مشغولًا بالسيارات فحسب، لكن تاريخه يكشف عن اهتمامات أخرى له، وتأثير عابر له.
أما عن تأثيره فقد أدت إتاحة السيارات إلى الاستغناء عن الأحصنة كوسيلة للنقل، بالتالي زهد الفلاحون في زراعة المحاصيل التي تتغذى عليها الأحصنة كالقش. فانتشرت زراعات أخرى، وحدثت ثورة في مجال الزراعة. كما أن انتشار السيارات بين يدي الشعب أدى لضرورة تشييد كباري جديدة وجيدة تتحمل هذا الضغط الكبير.
وبخصوص اهتماماته فقد كان المجتمع هو الهدف الأسمى لفورد، أن يعيش الجميع الرفاهية. وأول خطوة في تلك الرفاهية كانت التعليم، لذا أنشأ عددًا من المدارس. اعتمدت تلك المدارس مبدأ التعليم عبر الممارسة. فتقوم بتدريب طلابها عمليًّا على كل شيء، دون الاكتفاء بالتعليم النظري التقليدي.
كما تخصص الشركة جانبًا من أرباحها سنويًّا لأعمال الإغاثة الخيرية. لكن في نفس الوقت كان ضد النقابات العمالية وإضراباتها. ورأى أن تلك الإضرابات تعطل الإنتاج، وتكبد الشركات خسائر فادحة. خصوصًا أنه كان يعطي العامل وقتها أجرًا قدره 5 دولارات يوميًّا، ما يُعادل في عام 2022 مبلغًا قدره 130 دولارًا يوميًّا، وهو مبلغ رآه فورد مجزيًا. كما خفض مناوبة العمل لتصبح 8 ساعات بدلًا من 9، وقسَّم اليوم على ثلاث ورديات عمل بدلًا من اثنتين فقط.
كما كان يمنح العمال الذين استمروا معه أكثر من 6 أشهر نسبة من الأرباح، شرط أن يكون تقييمهم ممتازًا. لكن رغم محاولته لخلق حالة من رأسمالية الرفاهية، وتحسين جودة حياة عماله، استمرت الإضرابات لهذا كان حريصًا على استقدام عمال من خارج الولايات المتحدة كي لا يكون لهم دراية بدهاليز النقابات العمالية أو الإضرابات.
كذلك فإن الرجل هو صاحب مبدأ الفوردية، الذي يقول فيه بضرورة الإنتاج الضخم للسلع، حتى تصبح رخيصة في السوق، ويقترن ذلك بأجور مرتفعة للعمال. وإيمانه الآخر كان أن حماية المستهلك هى الحل لسوق مثالي. فكان ملتزمًا بخفض التكاليف دائمًا، وعدم احتكار قطع الغيار أو الصيانة، وأعطى حق امتياز صناعة وصيانة سيارات فورد للعديد من المصانع والشركات.
معاداته لليهود
كان فورد كذلك مناهضًا لليهود بشكل واضح. وقد ألف في ذلك كتابًا حيويًّا نُشر عام 1920، يحمل عنوان اليهودي العالمي أكبر مشكلة للعالم. كما دعم عبر صحيفته ديربون إندبندنت الكتاب المشهور برتوكولات حكماء صهيون. تلك الكتب، وخصوصًا اليهودي العالمي، يُقال إنها كانت ذات أثر قوي في ولادة النازية، وتكوين آراء أدولف هتلر.
لكن دوره الأبرز كان في دعم الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية. فكانت شركة فورد لصناعة السيارات هي المحطة الأبرز والمورد الأهم الذي أمدَّ الجيش بقاذفات الصواريخ وسيارات الدفع الرباعي قوية البنية والعديد من الدبابات.
وأبرز المساهمات كانت دخول فورد مجال صناعة الطائرات. اكتشف فورد شغفًا جديدًا في تلك المرحلة. لذا بعد نهاية الحرب استحوذ على شركة طائرات سابقة، واستمر في تصميم وإنتاج المزيد من الطائرات. وطوَّرت فورد نموذج الطائرات ذات المحركات الثلاثة الفردية. وكانت أول طائرة قادرة على نقل 12 فردًا، فأصبحت أول طائرة ركاب أمريكية ناجحة.
استمر فورد في العمل والحلم حتى تقاعد عام 1945. خلفه على رأس شركاته حفيده هنري فورد الثاني. بعد عامين من التقاعد تُوفي فورد جراء إصابته بنزيف في المخ، في أبريل/ نيسان 1947، ودُفن حيث وُلد. وعاشت مقولته أن دوره أن يجعل بإمكان أي مشترٍ اقتناء السيارة التي يريدها باللون الذي يريده، طالما كان اللون أسود. فقد أصر طوال حياته أن تُنتج سياراته باللون الأسود فقط، رغم أن منافسيه وقتها قدَّموا ألوانًا عديدة، لكنه أصر على الأسود.