كانت المجلات الدورية؛ كالمقتطف والرسالة والثقافة والمنار والفتح وغيرها، شاهدة على الازدهار والتألق الذي شكّل المناخ الثقافي قبل يوليو/تموز 1952م. وقد اعتادت المدارس العليا والكليات والمعاهد الدينية في ذلك الحين على أن يكون لها مجلة دورية، وكان الزعيم مصطفى كامل قد ابتدأ هذا الطريق بإنشائه مجلة «المدرسة» وهو طالب بمدرسة الحقوق، واتبعته فيه المدارس العليا كمدرسة دار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعي، وكلية المعلمين التي أصدرت مجلة التربية الحديثة.

أما أكبر الدلائل على أن المجلات كانت سمة العصر الثقافية، فأنه كان من عادة المدارس الثانوية أن يكون لها مجلات دورية ناطقة عن حالها وحال طلابها، تصدر سنويًا أو شهريًا، وامتدت هذه الظاهرة إلى مدارس البنات الثانوية التي كانت لها مجلات دورية مثل مدرسة الأميرة فوزية، وبلغ الإبداع الطلابي الصحافي أوجَه حين كانت تُعقد مسابقة سنوية للصحافة المدرسية تحصل فيه المجلة الفائزة على شهادة الامتياز والتفوق.

ومن الطرائف أن العلّامة اللغوي الشيخ حسين والي، أحد اﻷعضاء المؤسسين لمجمع اللغة العربية، كان يخصّص في كل معهد ديني يعمل به سبورة يسميها السبورة اللغوية، يكتب على رأسها «قل ولا تقل»، فكانت الصحف تتناقل تصويباته، وهو ما يُمكن أن يماثل مجلة الحائط التي ما زالت بعض المدارس تلتزم بإدراجها في فاعلياتها الثقافية.


مجلة حلوان الثانوية

كانت مجلة مدرسة حلوان الثانوية الصادرة في ربيع الأنور 1357 هــــ = مايو/أيار 1938 م واحدة من هذه المجلات؛ فقد كانت مجلة سنوية تصدر قرب انتهاء العام الدراسي، يقوم عليها الطلبة في المدرسة ويشارك الأساتذة في تحريرها. وكان رئيس تحرير المجلة الطالب بالتوجيهي العام آنذاك أحمد أبو الوفا حسيب، ومراقب المجلة الأستاذ الشيخ حسن خزبك المدرس بالمدرسة.

صُدِّرَت المجلة بصورة للملك فاروق، كتب الأستاذ محمد إبراهيم حسن تحتها أبياتًا يهنئه على زواجه من الأميرة فريدة الذي كان في العام نفسه، وفي المجلة قصيدة للأستاذ محمد إبراهيم في ذات الغرض، وأتبعت الصورة بكلمة لناظر المدرسة، ثم كلمة المراقب، ثم كلمة هيئة التحرير، وكل كلماتهم تؤكد أن المجلة مجلة الطلاب.

غلاف مجلة مدرسة حلوان الثانوية في مايو/أيار 1938

ويلفتُ نظرنا في هذا العدد مقالة كتبها طالب سعودي كان مبتعثًا للدراسة في مصر برعاية من الملك عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة السعودية الثالثة، ونجد في هذه المقالة الطريفة حبًا وانتماءً من كاتبها لبلده التي كانت تخطو خطواتها الأولى حينذاك، ودفاعه عنها وعن ملكها، وقد صدرت المقالة بعنوان «ابن السعود الرجل الذي أيقظ شعبًا من سباته وشيّد صرح دولة، بقلم الطالب النجدي عبد الله الطريقي»، يقول فيها: «هذا هو مليكي ورمز أماني العرب في جميع أنحاء العالم، حامي الحرمين الشريفين، وناشر لواء السلم والأمن في ربوعها»، ثم يدافع عن الدعوة الدينية التي تبنتها المملكة وهي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيقول: «ويؤلمني أن أرى كثيرًا من إخواني المصريين قد جهلوا عقيدتنا نحن النجديين وقالوا بأننا ندين بمذهب ابتكرناه لأنفسنا …»، ثم نجدُ دفاعًا عن دعوة ابن عبد الوهاب، وذكر مناقبها في تجديد الدين ومحاربة البدع، كان الطريقي كذلك رئيسًا لفريق الكشافة في مدرسته حلون الثانوية، وكان يلقب بالنسر العجوز.

إن هذا الطالب النجدي تخرّج فيما بعد من كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول «جامعة القاهرة»، ثم ابتُعث لإتمام تعليمه بأمريكا، ثم صار أول وزير للبترول في السعودية، ومؤسّس منظمة «أوبك»!

لم يكن الطريقي الطالب المبتعث الوحيد في المدرسة، ولم يكن أيضًا الطالب المبتعث الذي يكتب في المجلة دون غيره من المبتعثين، فقد كتب الطالب عدنان أسعد مقالة عن مدينته المدينة المنورة على صاحبها الصلاة والسلام، وكتب الطالب الأردني محمد نور عكاشة مقالة عن الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن، وكتب الطالب السوداني عبد الماجد أبو حسبو مقالة عن بلده بعنوان «السودان الشقيق»، وكان هذا الطالب يشكو من المعلومات المغلوطة التي كانت في أذهان زملائه المصريين عن السودانيين، وكتب طالب سوداني آخر مقالة عنوانها «الشباب السوداني ونصيبه من الحركة الفكرية المصرية».

أما بقية الطلاب فقد تنوعت موضوعات المقالات بين موضوعات دينية؛ كمقالة الطالب مصطفى كمال أحمد مخلوف «الإسلام بين الماضي والحاضر»، ومقالة الطالب حسن البدري «الأسباب الاجتماعية التي اقتضت بعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام»، وعلمية كمقالة الطالب عبد العاطي محمد سليم «التلغراف اللاسلكي»، ومقالة الطالب أحمد لطفي إبراهيم «صناعة الصودا الغسيل»، والطالب محمد المعتز بالله «الزجاج»، وفلسفية كمقالة الطالب «الإنسان بين الشقاء والنعيم»، ومقالة الطالب محمود قدري عبد العزيز «الرسالات»، وغيرها من المقالات الأخرى.

ومن أطرف المقالات التي نُشرت في المجلة مقالة للطالب عبد الله علي سلطان عنوانها «باريس بقلم أخي» تحدث فيها عن واحة باريس في الصحراء الجنوبية صدرها بعبارة طريفة: «إن يفخر الغربيون بباريسهم فلنا نحن المصريين باريس يحق لنا أن نفخر بها».

ومن اللافت أن المقالات كانت تتفاوت في عدد صفحاتها من صفحة إلى خمسة، فقد كتب طالب اسمه محمد المعتز بالله مقالة عنوانها «تاريخ القطن في مصر» نشرت في صفحة واحدة، أما مقالة الطالب عبد الله الطريقي «ابن السعود» فقد نُشرت في خمس صفحات.

ولم تخلُ المجلة من حديث عن أنشطة المدرسة الطلابية كالكشافة وفريق السباحة وفريق الملاكمة وفريق كرة القدم وفرقة البنج بنج، والجمعية الجغرافية، والجمعية الزراعية، وجماعة التهذيب الديني، وحلبة الأدب، والموسيقا. ومن أنشطتها الظريفة «الجمعية الهيروغليفية» التي أنشأها ناظر المدرسة وتولى تعليمها بنفسه.

أما عن مشاركة الأساتذة في تلك المجلة فمحدودة جدًا؛ فقد صُدِّرت المجلة بكلمة افتتاحية لناظرها، ثم أجرى الطالب أحمد أبو الوفا حسيب رئيس تحرير المجلة حوارًا مع المدرس الأول للغة العربية بالمدرسة عبد الله موسى أفندي، كان الحوار يدور حول الإفادات التي يمليها الأستاذ عبد الله في أثناء الشرح للطلاب خارج المنهج المقرر، وأجرى حوارًا آخر مع عدد من الأساتذة بعنوان «آمال»، يذكر فيه كل أستاذ ما يأمله لنفسه ووطنه.

ومن أهم المشاركات ما قام به الأستاذ عزيز محمد حبيب مدرس الجغرافيا بالمدرسة، حيث كتب دراسة جيولوجية جغرافية لمدينة حلوان ابتدأها بخريطة للمدينة، ثم عرض فيها موقعها الجغرافي وسطحها التركيبي الجيولوجي، ومناخها، وتعرّض لأهم معالمها وهي عيون حلوان التي يُستشفى بها، وهي دراسة جغرافية مهمة وصفت طبيعة المدينة عام 1938م. وقد كان الأستاذ عزيز محمد حبيب أحد أهم الجغرافيين في العالم العربي، ومن جملة أعماله «العالم العربي من المحيط إلى الخليج» يؤرّخ فيه لدول العالم العربي ولنشأتها وجغرافيتها أصدر منه كتابًا عن ليبيا وعن الكويت وعن السعودية، ورأَسَ رابطة خريجي كليات ومعاهد التربية بالقاهرة.


عيوب شائعة تخلّصت منها المجلة

لم تخلُ هذه التجربة الطلابية من عيوب، لعل من أهمها كثرة تدخل الأساتذة في تحريرها؛ إذ كانوا يحررون صياغة المقالات التي كتبها الطلاب لتخرج المجلة في صورة كاملة خالية من ضعف أسلوب الطلاب وسطحية فكرهم، فيظن المطلع عليها أن الطلاب قد بلغوا القمة في الثقافة والعلوم والآداب والتعبير عنها، وهذا تدخل معيب لا يعكس صورة صحيحة للبيئة المدرسية.

مدرسة حلوان الثانوية في الثلاثينيات من القرن العشرين

وكذلك من هذه العيوب حشو المجلة بالصور الرسمية ابتداءً بصورة الملك مرورًا بناظر المعارف وكبار موظفي الوزارة ومراقب التعليم، ثم ناظر المدرسة وحده ثم ناظر المدرسة مع أعضاء هيئة التدريس، ومع الطلاب، ومع الكشافة، ومع الفرقة الرياضية والمسرحية، وهكذا مع كل نشاط من أنشطة المدرسة.

لكن مجلة حلوان التي نتحدث عنها خلت بصورة كبيرة من هذه العيوب، فقد كانت أكثر المشاركات هي مشاركات للطلاب، وأسلوب المقالات يدل على أن تحرير المجلة لم يُعْمِل التعديل فيها بشكل كبير.

وبالرغم من قلة عدد الطلاب المشاركين فضّلت هيئة التحرير أن تنشر عدة مقالات لطالب واحد على أن تكثر مشاركة الأساتذة في المجلة. وكذلك تخلت المجلة عن كثير من مظاهر البيروقراطية التي كانت منتشرة في مجلات المدارس في ذلك الوقت، مصداق ذلك أن سنة إصدار المجلة وافقت سنة زواج الملك فاروق، حيث خصصت المجلة لهذا الحدث أربع صفحات فقط، مقارنة بمجلات أخرى مثل صحيفة دار العلوم التي خصّصت عددًا كاملاً لهذه المناسبة.

ومن المجلات التي تخلصت من هذه العيوب أيضًا مجلة مدرستي السعيدية الثانوية التي صدرت سنة 1935م، وأعلنت في عددها الأول دستورها ولائحتها الطلابية.


اختفاء المجلة!

مدرسة حلوان الثانوية في الثلاثينيات من القرن العشرين

اختفت المجلات الثقافية المدرسية، ومنها مجلة مدرسة حلوان الثانوية بعد حركة الجيش في يوليو/تموز 1952 على يد وزير الثقافة الدكتور محمد عبد القادر حاتم، ثم أُعيد إصدارها بقوانين جديدة ضمنت عدم الخروج عن النظام الاشتراكي الذي ساد تلك المرحلة، وحرصت هذه القوانين على إقصاء الطلاب عن النشاط السياسي إلا في المسار الذي تحدده تلك القوانين.

لقد كانت الصبغة الاشتراكية تلوّن كل مظاهر الحياة في مصر حتى على واجهات المحلات التجارية، ومن ثم كان النظام آنذاك يدعو إلى حتمية إعداد المعلِّم الاشتراكي، والطالب الاشتراكي، والمدرسة الاشتراكية، والصحافة المدرسية في الميدان الاشتراكي.

على أن أهم أسباب اختفاء الصحافة المدرسية وأنشطتها التي اعتادتها قبل يوليو 52 كان يكمن في عدم تخصيص الميزانيات الدافعة لها على البقاء والاستمرار؛ وهو أهم سبب في اختفاء المجلات الثقافية في الحقبة الناصرية عمومًا، فالمجلة التي لم تكن تخضع لشروط الرقابة كان يُرفع عنها الميزانية لأسباب واهية كالطائفية أو الرجعية أو قلة التوزيع، واتُّهِمَتْ كبرى المجلات في مصر والعالم الإسلامي كالرسالة والثقافة وغيرهما بهذه التهم أيضًا، وهكذا تنوعت العوامل التي أسهمت في اضمحلال النشاط الحيوي والقوي الذي تمتعت به الصحافة المدرسية في حقبة الملكية المصرية!