الخليل كوميدي: واللي فاكر إنه مبدع
مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين انتشرت ظاهرة الأغاني الهابطة التي تغنت بها العوالم في الأفراح وليالي السمر. وهي أغاني اتسمت بالإسفاف الشديد والإباحية في كثير من الأحيان، فضلًا عن ركاكة لغتها وانحطاط معانيها، فلك أن تتخيل مثلا أغنية بعنوان «أنا كنت سايحة وسكرانة».
كتب هذه الأغاني مجموعة من الشعراء والزُّجال تخصصوا في هذا النوع من الأغاني مثل «محمد على لعبة»، و«صبري لولو»، و«زكي سليم سرور»، وكان أشهرهم الشيخ «محمد يونس القاضي» وهو صحفي عمل بعدد من المجلات والجرائد، وتولى رئاسة تحرير بعضها منتصف عشرينيات القرن الماضي.
ولكن ما جعل الأمر ظاهرة بحق أن حُمّى الأغاني الهابطة انتقلت إلى عدد من الفنانين الكبار في بداية مشوارهم الفني. فربما يعرف البعض أن الست «أم كلثوم» بجلالة قدرها لحقتها تلك العدوى في بداية رحلتها الفنية وغنت «الخلاعة والدلاعة مذهبي»، ثم حاولت أن تتراجع عنها فقامت بتسجيلها مرة أخرى مع تغيير مطلعها إلى «اللطافة والخفة مذهبي».
ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن «سيد درويش» لحقته تلك الموجة أيضًا فلحّن أغاني مثل «يا بابا ليه ما تدلعنيش» أو «وأنا مالي ما هي اللي قالت لي .. روح اسكر وتعالى ع الباهلي». وكذلك الشيخ «زكريا أحمد» الذي لحّن أغاني «ارخي الستارة اللي في ريحنا .. أحسن جيرانك تجرحنا»، أو أغنية «متخافش عليا أنا واحدة سجوريا .. في الحب يا إنت واخدة البكالوريا». كما لم يفلت من تلك الموجة الفنان الكبير «محمد القصبجي» الذي لحّن عددًا من هذه الأغاني مثل أغنية «أنا كنت سايحة وسكرانة»، وأغنية «قابلني على باب الحمام» ولم تكن هذه الأغاني حكرًا على العوالم، بل تغنّى بها كبار المطربين والمطربات أمثال صالح عبد الحي، ومنيرة المهدية، ونعيمة المصرية، وزكي مراد (والد ليلي مراد ومنير مراد).
والسر وراء هذه الموجة الغريبة من الأغاني الهابطة هو تهافت شركات الإسطوانات على طباعة وتوزيع أعداد كبيرة منها، وهو ما كان يدرُّ ربحًا كبيرًا لكل صناع العمل، وهو ما دفع الكثير من الفنانين مثل سيد درويش ومحمد القصبجي إلى هذا الفن الهابط هربًا من الفقر والحاجة. ولكن هذا التفسير لا ينفي مسئولية المجتمع لتقبله هذا النوع من الفن واستهلاكه حتى وإن أظهر خلاف ذلك، وإلا فأين كانت تذهب هذه الأعداد الضخمة من الإسطوانات التي تطبعها الشركات؟
واليوم وبعد قرن كامل من الزمن، لا يزال المتجمع يستهلك فنونًا هابطة بكميات هائلة تتجاوز ملايين «اللايكات»، و«الفيوهات» على عكس ما يظهره من نبذه لهذه النوعية من الفنون، إلى الحد الذي جعل من الـ«الخليل كوميدي» أصل الضحكة في مصر.
من أين جاء «الألش»
لا أظن أن أحدًا يتذكر متى تحديدا ظهر مفهوم «الألش» لأول مرة، ولا أظن أيضًا أن هناك من يعرف أصل التسمية، وإن كانت هناك العديد من المقولات في تفسير أصلها، منها مثلا أن أصل التسمية يرجع إلى معلقي كرة القدم حيث تواترت على ألسنتهم عبارة «ألش اللاعب» أو «ألشت الكرة» للتعبير عن موقف محدد عندما يكون اللاعب في موقع مناسب ومريح للتسديد على المرمي ولكنه يرتبك أو يخطئ موضع قدمه فتخرج منه الكرة بشكل عشوائي بعيدة تماما عن المرمي.
ومربط الدلالة في هذه التسمية أن مرتكب فعل «الألش» يفترض أن يكون طرفًا في حوار ما، لكنه يخرج عن صفة الحوار الجادة ويقول شيئًا بغرض السخرية في ثوب الكلام الجاد، كأن يلعب على لفظ ما ويحرفه تحريفا بسيطا ليؤدي معنًى مغايرًا، أو أن يكون اللفظ نفسه يؤدي أكثر من معنًى فيستخدم أحد هذه المعاني المخالفة لسياق الحوار الجاد، غير أنه في هذه الحالة يرتكب فعل «الألش» عن قصد، على خلاف اللاعب الذي ألشت منه الكرة رغما عنه.
بالرغم من الانطباع السلبي الذي اقترن بالألش في بداية ظهوره من حيث كونه سلوكا «سخيفا» أو «سمجا» أن يخرج أحدهم عن حوار أو سياق جاد ليلعب على مفارقة لفظية لمجرد السخرية، إلا أنه تطور كثيرًا خلال السنوات الأخيرة وتخلى شيئا فشيئا عن سطحية التلاعب بالألفاظ، واستبدلها بالجمل والإيفيهات الشهيرة من الأفلام والمسلسلات وغيرها من الأعمال الفنية، ثم اتجه إلى استخدام وسائط جديدة كالصور والكليبات المصورة أو ما يعرف في أوساط المواقع الاجتماعية بالـ«كوميكس». ومع تناول الألش للأوضاع السياسية والاجتماعية كمادة أساسية، تضخمت هذه الظاهرة إلى حد مزاحمتها لفنون قديمة راسخة مثل النكتة والكاريكاتير.
وعلى الرغم من هذا التطور الهائل والملحوظ الذي شهدته ظاهرة الألش، إلا أن هناك من استطاع أن يوقف عجلة الزمن، ويستدعي من الماضي نكاته الأكثر سخافة وسماجة التي اعتمدت فقط على المفارقة اللفظية على طريقة «مرة قنبلة وقعت على قهوة عملت بن»، بل واستدعى أيضا تلك النغمة الشهيرة التي شاع استخدامها في التسعينات كفواصل بين النكت التي يتم طبعها على شرائط الكاسيت «تن ترارارن تن تن»، والأدهي أنه وصف كل هذا التشوه بأنه «أصل الضحكة في مصر».
واللي فاكر إنه مبدع
«شفنا اللي مبدع.. واللي فاكر إنه مبدع»
هكذا وصفت فرقة «وسط البلد» في أغنية حملت الاسم نفسه، موهومي الإبداع.
أحمد حسن خليل الشهير بالخليل كوميدي، من مواليد محافظة الدقهلية في عام 1990. حقق نجاحًا مشابهًا للنجاح الذي حققته الأغاني الهابطة في بداية القرن العشرين، أصاب نصيبًا كبيرًا من الشهرة لا يقل عن نصيبه من الذم والاستحقار. ربما كان السر وراء نجاح الخليل كوميدي أنه يتمتع بقدر كبير من الثقة بالنفس شأنه في ذلك شأن كل موهومي الإبداع، حيث يبدو عليه طوال الوقت إيمانه الشديد بما يقوم به، غير عابئ بهذا الكم الكبير من الشتائم والاتهامات.
وكما سعت شركات الاسطوانات إلى تعظيم استفادتها من موجة الأغاني الهابطة، سعى الإعلام الرأسمالي المفلس إلى أرخص الطرق لجذب المشاهدين تمهيدًا لبيعهم للمعلنين. فلم تتحرج قناة مثل «Ontv» من استضافته، ولم تجد المذيعة أي غضاضة في الخروج على اللياقة التي تفرضها حرفية مهنتها قبل أي وازع أخلاقي، فتراها تضرب كفا بكفا، وتضحك ملء شدقيها في سخرية واضحة من ضيفها، في حين أن أصول المهنة تفرض عليها احترامه حتى ولو كان الخليل كوميدي.
وعلى الرغم من افتقاره الواضح لأدني قدر من الموهبة، وتلقيه لهذا القدر الكبير من الاستخفاف والاستهانة ، إلا أن الخليل كوميدي يواصل فرض نفسه، ويواجه كل هذا الاستخفاف بعينين ذابلتين وابتسامة واثقة، فعلى خلاف ما اعتاد عليه المشاهد من المشاهير في برنامج «رامز يلعب بالنار» ومبالغتهم في الانفعال لدي اكتشاف المقلب، فقد واجه الخليل الكاميرات بالعينين الذابلتين وبالابتسامة نفسها وكأنه يقول «فعلتها.. نلت مرادي».
يجادل البعض بأن الخليل كوميدي ما هو إلا مريض نفسي بحاجة للعلاج، بينما يذهب البعض الآخر إلى الاعتقاد بأنه يدعي البلاهة التي يظهرها في كل أفعاله ويلعب على استفزاز الجمهور ليكسب المزيد من المشاهدات والمتابعات. ربما كان الخليل بالفعل هو هذا أو ذاك، ولكن كل هذه التفسيرات لا تنفي مسئولية المجتمع الذي جعل منه مركزًا للاهتمام، والذي يستهلك كليباته بهذه الأرقام الضخمة، ويتابع حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتفقد أثره في الفضائيات.
في محاولة من الدولة للتصدي لموجة الأغاني الهابطة التي اجتاحت البلاد في بداية القرن الماضي أصدرت قرارًا عُرف بقرار «حماية النص الغنائي»، والذي يقضي بتعيين وزارة الداخلية رقيبًا يقوم بمراجعة نصوص الأغاني قبل طباعتها على الإسطوانات، ربما كان «الخليل كوميدي» على علم بهذه الحادثة، وربما عرف أيضًا أن الرقيب الذي اختارته وزارة الداخلية لم يكن سوي الشيخ «محمد يونس القاضي»، صاحب الرصيد الأكبر من كلمات الأغاني الهابطة التي سعت الدولة لمواجهتها.