الأرق يقتلنا: هل يمكننا تنظيم النوم؟
قبل الشروع في متن هذا الموضوع الحيوي، لا بد في البداية من اعترافٍ صادق، حتى لا نقع تحت طائلة التحذير الوارد في البيت الشهير المنسوب للإمام الشافعي ..
إن كاتبَ هذه الكلمات، كطبيبٍ ينتسب إلى تخصص يتعامل بالأساس مع الحالات الطبية الطارئة، التي لا تميز بين الليل والنهار، شرع في كتابة هذا المقال من موقعيْ الطبيب والمريض في آن، باحثًا لنفسه- وللكثيرين- عن مساحة وسطى، بين ما تفرضه طبيعة العمل والحياة القاسية وإلزاماتُها، وما توجِبُه ضرورات الحفاظ على الصحة والعافية.
لقد جعل نمطُ حياتنا المعاصرة- بتسارعِه إلى حد الجنون، والتنافسية المسعورة الكامنة في كل زاوية منها- من النوم الوادع في هَدْأة الليل ولو بعض أيام الأسبوع، حلمًا أو سرابًا، أو أمنية جارفة تفوق أحيانًا أحلام وطموحات التفوق وتحقيق الذات. وهكذا أصبحنا فرائس للأرق والسهر المُضني بأسبابهما النفسية والجسدية التي سنشير إليها في السطور التالية، ونفصّل في المُتاح من الحلول العملية مُمكنة التطبيق.
وما أدراكَ ما النوم الصحي!
هناك اختلافُ كبير في عملية التوصل إلى تعريفٍ محددٍّ، جامعٍ مانعٍ، للنوم الصحي. لكن للتبسيط، سنُعرِّفُهُ أنه النوم الذي يجدد النشاط والطاقة، ويمنح أجهزة الجسم جمعاء الفرصة الكاملة للتعافي، ولتنظيم نفسها بنفسها. يقدّره بعض العلماء ما بين 6 و8 ساعات من النوم ليلًا، والبعض من 7 إلى 9 ساعات، وآخرون يتحدثون عن أنه لا رقمَ بعينه يصلح للجميع، وأن الأهم هو جودة النوم وعمقه، ومناسبته لاحتياجات كل شخص، وأنه يتباين حسب عمر الشخص، فالأطفال يحتاجون ساعاتٍ أطول من النوم مقارنة بالشباب وكبار السن.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تذكر الإحصاءات أن أكثر من ثلث الأمريكيين ينامون أقل من 6 ساعات يوميًا، وتلك النسبة تدل على مدى شيوع اختلالات النوم.
من الواجب ألا يكون النومُ الصحي رفاهية أو كمالية، بل يجب أن يكون أحد المحاور الرئيسة للحياة، فلا بديل له في تجديد الطاقة الجسمانية والنفسية للمرء. ولكي نتبيَّن مدى أهمية النوم الصحي، سنذكر في الفقرة التالية بعضًا من نتائج عدم الحصول على النوم الصحي.
الأرق كقاتل صامت
أسباب عديدة قد تؤدي بنا إلى الأرق، وصعوبة الحصول على النوم الجيد، منها النفسي والحياتي والبدني والاجتماعي والاقتصادي… الخ، وهذه الأسباب قد نختلف في تحليلها، وفي تفصيل الفردي والجماعي منها، لكن ما لن نختلف فيه كثيرًا، هو وجود العديد من الأثمان الصحية الباهظة، قصيرة وطويلة المدى للحرمان من النوم الصحي الجيد، نُجمِلُ منها ما يلي:
- زيادة فرص الإصابة بالأمراض المزمنة الرئيسة كالسكر والضغط وأمراض شرايين القلب التاجية، وتلك الأخيرة هي السبب الرئيس للوفاة حول العالم، إذ تفتك بأرواح ما لا يقل عن 10 ملايين من البشر كل عام، أي ما يقترب من 30 ألف وفاةٍ يوميًا، وهو ما يتجاوز كثيرًا أشد ما وصل إليه وباء كورونا 2020م.
- الإصابة بمرض الاكتئاب، وزيادة فرص حدوث مضاعفاته، وصعوبة السيطرة عليه. على سبيل المثال، أظهرت دراسة طبية أجريت على 10 آلاف شخص، أن من يعانون من الأرق، والحرمان من النوم الكافي، فرصتهم للإصابة بالاكتئاب قد تصل إلى خمسة أضعاف نظرائهم الطبيعيين.
- زيادة كبيرة في التعرض لحوادث الطرق، نتيجة قيادة المركبات دون تركيزٍ كافٍ. وتعتبر حوادث الطرق من أكثر 10 أسباب للوفاة عالميًا، لا سيَّما بين المراهقين والشباب.
- تقليل التحصيل العلمي، واختلال الوظائف الذهنية الرئيسة للمخ كالفهم والاستيعاب والذاكرة .. الخ.
- إفساد الحياة الجنسية، حيث يؤدي الحرمان من النوم، وما يصاحبه من شعورٍ بالإجهاد المزمن، وفقدان الطاقة، وصعوبة التركيز، إلى تقليل الرغبة، وإضعاف الانتصاب والقدرة الجنسية.
- مفاقمة الإحساس بالآلام الجسدية، وتقليل كفاءة المسكنات.
- بروز مظاهر الشيخوخة مبكرًا، لا سيَّما التجاعيد. وأفول نضارة الوجه، ورونقه.
- الإصابة بمرض العصر، السمنة. فالسهر يزيد إفراز هرمون الشهية (الغريلين)، بينما يقلل إفراز هرمون الشبع (اللبتين)، مما يزيد الجوع ليلًا، والإقبال على الطعام. ولا يخفى علينا العلاقة الوثيقة بين السمنة، والإصابة بالأمراض المزمنة كالسكر والضغط وأمراض القلب.
هل من حلولٍ عملية لمشكلة الحرمان من النوم الصحي؟!
لن أخدع القاريء العزيز- وقبله نفسي- وأدَّعي أن هناك حلًّا سحريًا يحسم الأمر في ساعاتٍ أو أيام أو حتى أسابيع. لكن هناك العديد من الوسائل والخطوات التي يمكن أن تحدث الفارق كلما التزمنا بها، وهذا استعراضٌ موجز لأبرزها:
اعتبار الحصول على النوم الصحي واجبًا
يجب بجدية محاولة تغيير أنماط حياتنا لتصبح أكثر رفقًا بنا، فتسمح بتمتُّعنا ولو بشكلٍ جزئي بقسطٍ من النوم الصحي ليلًا لعدة أيامٍ أسبوعيًا. فهذا ليس مجرد رفاهية نحصل عليها أو لا نحصل في ختام أسبوعٍ شاقٍ وكثيف الضغوط النفسية. ولنتذكر دائمًا أن ما لا تُدركه كُلُّه، لا تترك معظمه أو حتى بعضًا منه.
مواعيد ثابتة للنوم والاستيقاظ
محاولة الحفاظ على موعدٍ ثابت للنوم في غالبية الأيام رغم ظروف الدراسة أو العمل، هو الخطوة الأولى للحصول على نومٍ صحيٍّ، ويُكمِّلها الاستيقاظ مبكرًا في وقتٍ محدَّد أيضًا. وهذا ما يسمى اكتساب روتين النوم.
الامتناع عن الأنشطة التي تصعِّب النوم
قبل موعد النوم بثلاث ساعات على الأقل، يجب الامتناع عن بعض ما يمكن أن يؤدي إلى الأرق، مثل القيام بالتمارين الرياضية، أو احتساء المشروبات المحتوية على الكافيين كالقهوة والمشروبات الغازية والشيكولاتة- يفضل بعض المتخصصين تجنب الكافيين تمامًا ابتداءً من منتصف اليوم- وكذلك الامتناع عن تناول وجبة العشاء متأخرًا، أو التدخين بمختلف أنواعه. وأيضًا لا يُفضَّل القيام بأيِّ جهدٍ ذهنيٍّ كبير قبل النوم مباشرة.
اقرأ: وجبة العشاء المتأخرة .. خطرٌ داهم يهدد صحتك.
خلق بيئة مشجَّعة على النوم
يمكن جعل غرفة النوم مكانًا مثاليًا للنوم عبر خطواتٍ بسيطة للغاية:
- البعد عن أي مصدر للصخب والضوضاء.
- إضاءة خافتة هادئة اللون، والأفضل إطفاء النور تمامًا.
- إبعاد الشاشات والأجهزة الإلكترونية قبل موعد النوم المحدَّد بنصف ساعة على الأقل، فإضاءتها تسبب نشاطًا في المخ غير مناسب لحالة الاسترخاء المطلوبة للنوم.
- أن يكون السرير والوسادات مريحة، بحيث لا تسبب آلامًا في الظهر أو الرقبة تصعب الدخول في النوم العميق أو تقض راحته.
- أن يكون سرير النوم حصريًّا للنوم، فلا نقوم بأي نشاطٍِ آخر عليه نهارًا أو ليلًا كالمذاكرة أو تناول الطعام أو مشاهدة التلفاز .. الخ، وذلك حتى يرتبطَ في اللاوعي بالنوم وفقط، مع الوقت، سيساعد هذا على النوم العميق بمجرد الاستلقاء على السرير.
- إذا كنت من مربي الحيوانات بالمنزل، فيجب إبعادها عن مساحة النوم، لأن وجودها يزيدُ اضطرابات النوم.
النشاط نهارًا يجعل النومَ ليلًا ممكنًا
النشاط عمومًا، والقيام بالتمارين الرياضية المنتظمة بوجهٍ خاص بشكلٍ دوري في وقت النهار، تساعد في الحد من مشكلة الأرق. كذلك فإنَّ حسن توزيع مجهودنا نهارًا، وإنهاء المهام المطلوبة منا مبكرًا، يجنبنا التوتر والسهر لإتمام النواقص، والذي يفسد علينا ليلنا، والنهار الذي يليه، فنبدأ في الدوران في حلقة مفرغة لا نستفيد فيها بنشاط اليوم أو سكون الليل.
اللجوء للطبيب
إذا لم تكن الخطوات الحياتية السابقة كافية للتغلب على المشكلة، فيجب استشارة الطبيب والمعالج النفسيَّيْن، للحصول على علاج معرفي سلوكي يتعامل مع الأفكار غير الصحية التي تساهم في تفاقم مشكلة النوم، وكذلك يمكن من خلال تلك الاستشارة تعلم بعض تمارين الاسترخاء والتنفس، وغيرها من الطرق التي يمكن أن تساهم في تسريع عملية النوم، وتحسين جودته.
كذلك يمكن أن يصف الطبيب بعض المهدِّئات التي تقلل التوتر العصبي كسبب مهم للحرمان من النوم، أو بعض المنومِّات التي تساعد على التغلب على الأرق. وهناك أيضًا الأدوية المحتوية على بدائل هرمون الميلاتونين– المعروف بهرمون النوم – والتي يمكن تعاطيها قبل موعد النوم بساعة، وهي تهيئ الجسم للولوج السلس في النوم، وتحسن جودته، لكن يجب تجنب الإفراط فيها، وإلا تسبَّبت في اختلال النوم.
كذلك سيقوم الطبيب النفسي بالتحويل إلى الطبيب المختص في حالة وجود حالة مرضية تجعل النوم أكثر صعوبة، مثل عُسر التنفس أثناء النوم، أو نقص التهوية الناجم عن السمنة، أو اختلال نشاط الغدة الدرقية .. الخ.
وختامًا، يجب أن نتذكر دائمًا قاعدة أن ما لا يُدرَك كُلُّهُ، لا يُترَك جُلُّه ولا حتى بعضه. فلا تيأس لعدم مقدرتك على القيام بكل ما سبق دفعة واحدة.