الكارثة الصحية في قطاع غزة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
إن أحد ملامح ثقافتنا السياسية تتمثل في أن الصحة تكون قاسماً مشتركاً قوياً في تحديد الكيفية التي نُقدِّر بها العدالة الاجتماعية. وتشكل التحديات التي تواجهها هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا الجانب الأكبر من أخبارنا اليومية. لذا فإن تقديم «خدمات صحية عالية الجودة سهلة المنال» يُعد أساسياً للكيفية التي ننظر بها إلى الحكم الرشيد والاستحقاق المدني. إنها مشاعر تعززها استطلاعات الرأي المتكررة، والتي تظهر أنها تمثل الأولوية رقم واحد. بالنسبة لغالبيتنا داخل بريطانيا، فإننا نعتبرها حقاً لا جدال فيه من حقوق الإنسان.
وليس فقط في بريطانيا، فبشكل عام نحن نقر بحق الحصول على الخدمات الصحية كهدف أخلاقي مرغوب فيه للآخرين الأقل حظاً، فيما قد نُعّرِفه بـ «استحقاق».
والآن فنحن نتجاوب مع آثار ذلك بصفة أساسية من خلال منظور الصدقة والتعاطف. فالصحة تتوافق مع رغبتنا في تقديم شيء إيجابي. ومع ذلك، فإن مثل تلك النوايا والقيم الجيدة ليست مطلقة. وبدلاً من ذلك، فإنه يتم استثمار تلك النوايا والقيم الجيدة في فكرة «الشيء المستحق»، والذي تتم إعادة صياغته من خلال النموذج غير السياسي للاحتياجات.
غزة تفتقد المعايير الصحية
ماذا قد يحدث عندما لا يتطابق السكان مع هذا التصور، عندما يُنظر إلى سلوكهم على أنه مخالف للمعايير الغربية حول «الجدارة» و«الاستحقاق»، ويختارون بدلاً من ذلك تأكيد هوياتهم التي تتحدى أوضاعهم عن طريق المقاومة؟
يبرز ذلك جلياً لينطبق على وضع الفلسطينيين في قطاع غزة، حيث تستغل إسرائيل هذه الازدواجية على حساب صحة السكان، ويتضح الحرمان من المرافق والمهارات الصحية الأساسية التي نعتبرها أمراً مسلماً بها، والذي يحمل عواقب فعلية على الحياة والموت.
وليس هذا الأمر وليد الصدفة. فالتقرير الأخير الذي أصدره «مايكل لينك» المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد أشار إلى أن القيود المفروضة على قطاع غزة تعني أن ثمة فرصة ضئيلة للحصول على الرعاية الصحية خارج أراضي غزة، وأن قطاع الرعاية الصحية الفاشل والمتداعي في غزة يُعد أزمة من صنع الإنسان.
كما أن القيود الصارمة المفروضة على ما يمكن إحضاره لداخل القطاع وما يمكنه المغادرة، تُعد عاملاً أساسياً في تدهور فرص الحياة للفئات الأضعف. ناهيك عن أن الأطباء يعملون في إطار بنية تحتية هشة، وفي ظل ندرة للموارد، وهو الأمر الذي لا تتحدث الأنباء عنه كثيراً.
إن معدلات وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة، والتي تتخطى المعدلات المتوسطة، تقدم دليلاً على هذا التأثير. في عام 2015، بلغت معدلات وفيات الأطفال حديثي الولادة في غزة 21 لكل ألف مقارنة بوجود 3 حالات وفاة فقط في «إسرائيل».
كما تُعد الإحصاءات قاتمة بالدرجة نفسها بالنسبة لوفيات الأمهات. ففي الضفة الغربية وقطاع غزة كانت النسبة 31 حالة وفاة لكل 100 ألف سيدة بينما كانت في إسرائيل 2 فقط. وأصبحت وحدات العناية المركزة لحديثي الولادة مكتظة في مواجهة سوء تغذية الأم وارتفاع معدلات الأطفال منخفضي الوزن.
يُضاف إلى ذلك الآثار الوخيمة لأزمة الوقود والكهرباء الناجمة عن القيود الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ أبريل/نيسان 2017، وما جاء في شهادة مايكل لينك عن الأزمة الصحية والإنسانية في غزة ليس مبالغاً فيه. فخدمات علاج السرطان تُعد من بين الخدمات الأكثر تضرراً. ولا يقتصر الأمر على عمليات إزالة الأورام غير المستقرة في مواجهة نقص الكهرباء والوقود، ولكن يسلط تقرير لينك الضوء على عدم وجود العلاج الإشعاعي والتشخيص الطبي بسبب عدم تشغيل الأدوات اللازمة مثل المسرعات الخطية أو أجهزة التصوير المقطعي المحوسب. وفي كثير من الأحيان يتم بشكل حتمي إجراء تشخيص للسرطان في غزة في المرحلة الأخيرة من المرض.
وفي بداية العام الجاري، أغلقت 3 مستشفيات أبوابها بشكل مؤقت، إلى جانب 13 عيادة رعاية صحية، مما أثّر على إيصال الرعاية الصحية لأكثر من 300 ألف شخص.
ومما يفاقم من أزمة خدمات العلاج هو عدم قدرة مستشفيات غزة الحصول على إذن إسرائيل باستيراد قطع الغيار للمعدات الحيوية للتصوير التشخيصي، مما أخرجها من الخدمة طيلة شهور، وحتى لأعوام. وكانت إحدى نتائج تلك الأزمة الحادة هي الحاجة الملِحة لإحالة عدد كبير من المرضى الذي يعانون حالات مرضية خطيرة أو مزمنة إلى منشآت طبية خارج قطاع غزة، لتلقي العلاج.
هل سنقبل بذلك الموقف إذا تبدلت الأدوار؟
لقد أشارت منظمة الصحة العالمية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى أن 45% من طلبات المرضى للحصول على خدمات الرعاية الصحية خارج قطاع غزة لم تُكلل بالنجاح، وأن العام 2017 شهد أقل معدلات لقبول تلك الطلبات والخروج من قطاع غزة، منذ بدأ توثيق ذلك في العام 2006.
وإذا قمنا بترجمة ذلك إلى أرقام، فإنه قد تم رفض 11 ألف طلب للمرضى في قطاع غزة، والذين إما تأخروا في الحصول على تصاريح سفر أو لم يحصلوا عليها من الأساس.
ووثّقت منظمة الصحة العالمية وفاة 54 شخصاً في غزة خلال العام الماضي، وجميعهم تقدموا بطلبات للحصول على تصاريح سفر طبية، تم لاحقاً رفضها أو لم يتلقوا ردوداً عليها.
إن القيود الصارمة المفروضة على الحركة نتيجة للحصار الإسرائيلي آلت إلى مواجهة الأطباء وأطقم التمريض في غزة لمصاعب في الحصول على تصاريح لمغادرة أراضي القطاع لتلقي تدريبات متخصصة ومهنية في أماكن أخرى: حيث تمت الموافقة على 40% فقط من طلبات الخروج المقدمة من قبل المهنيين الطبيين خلال العام 2017.
تدعونا تلك الحقائق المحبِطة لطرح عدد من الأسئلة، أولها هل كنا سنقبل بذلك الموقف إذا تبدلت الأدوار؟ وفي حال كانت أفعال الفلسطينيين تعني حرمان الإسرائيليين من حق الحصول على خدمات الرعاية الصحية، هل كنا سنسمح باستمرار ذلك؟
وماذا لو كانت الكهرباء في تل أبيب تعمل من 6 إلى 8 ساعات يومياً، وكان مرضى السرطان يموتون نتيجة لذلك؟ ألم يحِن الوقت للاعتراف بأن ما يبديه الفلسطينيون من مقاومة للاحتلال لا ينبغي أن يحرمهم من دعمنا؟ إن الحق في الحصول على الخدمات الصحية مقيد بشدة لسكان قطاع غزة، بشكل لا يٌصدق إذا ما حدث في مكان آخر في العالم.
قبل حوالي 100 عام، بدأ العمل بوعد بلفور، والذي شرع في عملية تحويل الفلسطينيين إلى مواطنين من الدرجة الثانية. وكانت مقاومتهم اللاحقة – سواء أحببناها أم لم نحبها – نتيجة متوقعة لمعاييرنا المزدوجة وماضينا الاستعماري. لقد خلق اقتلاع أراضيهم واستمرار الاحتلال الإسرائيلي صعوبات جماعية، لا تقوم الحكومات الغربية المانحة – بشكل منتظم – بمحاسبة إسرائيل عليها.
والآن، فإن لدينا التزاماً لتقويم الظلم الواقع على الفلسطينيين، وإعطائهم نفس الحقوق التي نتعامل بها مع الآخرين. وكلما سمحنا بأن تكون غرائزنا الإنسانية متوقفة على نهج القبضة الحديدية الإسرائيلي تجاه غزة، يتعاظم تواطئنا في ظلم نرفضه في مكان آخر. لقد حان الوقت لأن ننظر لأنفسنا في المرآة، ونتساءل عن سبب سماحنا باستمرار ذلك.