«هذا المساء»: لا ملائكة ولا شياطين في هذه المدينة
في الحياة الحقيقية لا يوجد أبيض وأسود، لا يوجد خير مطلق وشر مطلق، اللهم إلا في حالات محددة جداً لا تحدث يومياً ولا نقابلها كل مساء، الحياة التي نعيشها فعلاً هي درجات متفاوتة من الرمادي، القصص ذات العبرة الأخلاقية لا توجد سوى في مجلات الأطفال ونحن هنا لا نعيش في ديزني لاند.
ضمن وظائف الفن أن ينقل لك حياتك وحياة الآخرين، ويجلسك في كرسي وثير تشاهدها وأنت مطمئن خارج الأحداث ولست طرفاً في الصراع، الوظيفة الحقيقية للفن هو أن يفعل ذلك بجمال ونعومة، أن تستمتع عيناك وأذناك بما يحدث على الشاشة، لسنا في معتقل تعذيب هنا، والحياة مهما كانت غير عادلة إلا أنها –فعلاً– جميلة.
يكمن في التفاصيل
مسلسل «هذا المساء» الذي حصد تقريباً كل الأصوات الإيجابية والذي أشاد به الجميع يستحق فعلاً أن يكون أيقونة جديدة من أيقونات الدراما التليفزيونية، بغض النظر عن أن الموسم كان ضعيفاً بالأساس والمنافسة لم تكن شرسة، ولكن المسلسل كان على الأرجح سيحصد نفس النجاح حتى لو كان هناك من ينافسه، المسلسل مطبوخ على نار هادئة، كل التفاصيل معتنى بها، لم يقع في فخ الكروتة الذي وقع فيه الكثيرون، الديكورات، والراكور، والملابس، والإضاءة، وفلاتر الكاميرا، والموسيقى كل في موضعه تماماً، أما الشخصيات فموضوع آخر يطول شرحه.
مسلسل «هذا المساء» هو المسلسل الثالث الذي يخرجه «تامر محسن» بعد «بدون ذكر أسماء»، و«تحت السيطرة»، ولكنه أنضجهم فنياً،يقول «تامر محسن» إنه «يعمل على المسلسل كمشروع وإن وظيفته ليست أن يضع الكاميرا ويقول أكشن، ولكنه يرى حلما ويعمل على تحقيقه مع باقي أفراد العمل المشاركين».
كلامه هذا منطقي فعلاً، فمسلسل «هذا المساء» تحديداً من بين أعمال «تامر محسن» أشبه بالحلم، خاصة في انتقالات المشاهد بين الحارة الشعبية وبين الفيللا الكبيرة في الكومباوند، حركة الشخصيات وأغنيات الخلفية ومشاهد شوارع القاهرة، فعلاً كل هذا يشبه الحلم خاصة عندما تتفاعل مع مشاهد وأصوات تراها يومياً في حياتك بطريقة مختلفة، وكأن هناك من قام بتنقيتها حتى تناسب لا وعيك وتتسرب إليه دون أن تدري.
هناك ألوان المشاهد أيضاً، فتلاحظ في الحارة الشعبية فلترا يبهت الألوان بدرجة طفيفة جداً، وكأن هناك غمامة من تراب تحيط بالأشياء، رغم الضوء الساطع للشمس والألوان الشاهقة، استطاع أن ينقل لك درجة خفيفة جداً من الغلب تغلف المشاهد، في حين أننا ننتقل إلى العالم الآخر حيث الفيللا الأنيقة والثراء الفاحش فنرى كل شيء أنقى، فلتر أزرق معقم يجعلك تشعر وكأنك غسلت عينيك في محلول مطهر فباتت الأشياء أوضح وأكثر حدة.
هذا المساء.. كل مساء
أسماء أبو اليزيد، وأحمد داود في مسلسل هذا المساء
العناصر الحية هي الشيء الوحيد الذي يجعل جمال العمل الدرامي ظاهراً، دون ممثلين جيدين لن يكون للتقنيات أي فائدة، هذا بالطبع يتطلب خطوة أولى هي أن يكون رسم الشخصيات التي سيلعبها هؤلاء الممثلون متقناً، دون ورق جيد – كما يقولون في عالم صناعة الدراما – ودون أداء جيد سوف نرى صورا وكادرات جميلة فقط تصيبك بالملل بعد حلقتين على الأكثر هذا إن صمدت أصلاً.
هنا الممثلون جميعاً يجعلون إيقاع العمل مثيراً وانفعالاتهم التي تتبدل كل مشهد تصيبك بالتخبط والحيرة وتجعلك أسيراً لانتظار الحلقة القادمة، ليس فيهم من تتعاطف معه تعاطفاً مطلقا وآخر تكرهه بجنون، كلهم درجات من الإنسانية تحويها داخلك وأنت نفس الشخص فتستطيع أن تجد مخرجاً منطقياً لكل تصرف تتصرفه الشخصيات على الشاشة.
فترى في «أكرم» الذي لعب دوره «إياد نصار» الرجل الأناني الذي استغل مميزاته في إبهار عبلة كي يحظى بكل شيء، ولكنك في نفس اللحظة تراه متخبطاً حاول أن ينقذ زواجه من «نايلا» وصدته كثيراً، ترى «عبلة» الذي لعبت دورها «حنان مطاوع» بريئة ساذجة طيبة وتتعاطف معها بلا حدود، ثم تلومها حين رجوعها لضاحي وكأنها تختار أحسن الوحشين رغم أنها غير مضطرة لذلك، «نايلا» نفسها والتي لعبت دورها «أروى جودة» تراها حيناً متكبرة ومتصلبة الرأي وتتصرف بغباء وعنجهية، ثم تعود فيرق قلبك لها وتعذرها حين تعرف أنها تجاهد نفسها كي تعبر عن مشاعرها ولا تستطيع.
كل الشخصيات مرسومة بالمسطرة حتى الشخصيات القليلة التي تعرف أن مشاعرك تجاهها محددة وواضحة وذات بعد واحد كشخصية «أم عبير»، مرسومة بكل تفاصيلها حتى لون الشعر الفاقع، والحواجب المرسومة بالكحل والوجه المنتوف تماماً، شهوة شعبية جداً تليق بالحارة.
وكذلك «نور» الطفلة الرائعة التي لعبت دورها بذكاء يجعلها نجمة حقيقية وكأنها من لحم ودم، تلك الفتاة ظهرت في مسلسل «حجر جهنم» في مطلع العام وكانت جيدة، ولكنها لم تكن بنفس جودة شخصية «نور» في «هذا المساء»، هنا يمكنك أن تعرف أن الموهبة وحدها لا تجعل النجم نجماً بل هناك عناصر أخرى متى توفرت أصبح النجاح مضموناً ومستحقاً.
طرفا المغناطيس المختلفان
«سوني» الذي لعب دوره عفريت التمثيل «محمد فراج»، الشيطان الذي دمر كل شيء وانتقم على طريقة شمشون الجبار دون أي وجه حق، حتى هذا لا تستطيع أن تلومه تماماً ترى في عينيه أحياناً حاجته للتقبل، حاجته أن يشيد به الآخرون وأن يكفوا عن اعتباره شيطاناً.
«سوني» يريد أن يحبه أحدهم وأن يراه عظيماً، يزدري «أم عبير» – التي من الممكن أن تكون مشاعرك تجاهها واضحة وأحادية وتكرهها للأبد – ويسأل إحدى الفتيات التي كان يبتزها؛ هل تأتي له وتوافق على إقامة علاقة معه من أجله أم من أجل خوفها من الفضيحة، يحاول أن يفوز بحب «تقى» لأنه ظنها أضعف وستتقبله وتعتبره فعل بها معروفاً، هو ليس سيئاً تماماً، أنت تكره تصرفاته ولا تكرهه هو، بل تتعاطف معه أحيان كثيرة.
أما «سمير» نجم المسلسل بجدارة بتعبيرات وجهه المرتبكة دائماً وملابسه المتحفظة وتسريحة شعره وشكل ذقنه، مواعظه التي يلقيها على مسامع أخيه وصديقه طوال الوقت ثم خطيئته التي لا يستطيع التخلص منها ويكفر عنها يومياً، يشعرك أحياناً أنه تضاد شخصية «سوني» وأحياناً أنه لا يختلف إطلاقاً ولكنه أكثر لؤماً فيجيد إخفاء شيطنته، ثم تعود وتقتنع أنه بالفعل مقتنع أنه شخص صالح.
«أحمد داوود» أجاد تجسيد معاناتنا جميعاً في شخصية «سمير» المتخبطة الذي لا يعرف هل هو ملاك أم شيطان، ولكنه يتقبل كونه إنساناً ويمارس إنسانيته تلك بكل أحمال الذنب الذي لا يطيق حملها ولكنه مضطر.
في المسلسل لا يوجد أضاد تبرز اختلاف بعضها البعض سوى «تقى» و«فياض»، الشر المطلق المتمثل في «فياض» المبتز المجرم الذي أجاد تجسيده تماماً «محمد جمعة» حتى أنك تشعر باشمئزاز حقيقي عندما تراه على الشاشة، وتشم رائحة أنفاسه وعطره الزنخ، و«تقى» أو «أسماء أبو اليزيد» المغلوبة على أمرها التائهة التي تكفر عن ذنوبها بأقسى الطرق وأشرسها، هنا فقط – تقريباً – تكون مشاعرك ذات بعد واحد إما كراهية أو تعاطف لا مجال للبين بين، وبنسبة ضئيلة جداً ضمن شخصيات المسلسل الذي يحاكي الحياة تماماً.
مسلسل «هذا المساء» حالة فنية تحتاج المزيد من الكلام، وكل شخصية وكل تفصيلة في المسلسل تستحق أن نفرد لها صفحات وحدها، ولكننا هنا نكتفي بما عرضناه ونكتفي برأي المشاهد الذي دون كل هذه التحليلات أحب المسلسل وأعطاه ما يستحقه من تقدير واحتفاء، وهذا كاف لصناع العمل فالمشاهد هو المقياس الأول – والأهم – الذي يقيس مدى نجاح العمل الدرامي خاصة في موسم ثري بالدراما كرمضان.