يرى العلماء أن كلّ ما في الكون هو معلومات يتم تشفيرها ونسخها، كالصبغيات في الخلايا البشرية وهي المعلومات التي تكون الكائن البشري، وترتيب الذرات التي تكوّن جسمًا معيّنًا، كل ذلك هو «معلومات». وقد بدأت المعلومات بالظهور في كوننا منذ لحظة الإنفجار العظيم ومازالت في تزايدٍ حتى الآن.

حسب الفيزياء الكمومية فإن هذه المعلومات لا تدمر ولا تفقد أبدًا، وهو ما يظن العلماء أنه يحدث في الثقوب السوداء، لكن تغيرت نتائج الأبحاث حول المعلومات التي تدخل إلى الثقب الأسود خلال العقود الماضية، هل تتدمر نهائيًا؟ أم تخرج بشكلٍ آخر؟


مفارقة خسارة المعلومات في الثقوب السوداء:

اقرأ أيضًا: الثقوب السوداء.. ماذا تعرف عن وحوش الفضاء المرعبة؟

ككل شيء موجود في كوننا، يجب أن تملك الثقوب السوداء سجلًا يحفظ طريقة تشكلها، أي أن تحتفظ بمعلومات النجم الذي تولّدت منه، بالإضافة لمعلومات كل شيء سقط فيها منذ تشكّلها، لكن إن كانت فعلًا تتبخر كما قال هوكينج سابقًا، فهل هذا يعني أن المعلومات دُمرت واختفت؟

حاول الفيزيائيون إيجاد طريقة تستطيع بها المعلومات الإفلات من الثقب الأسود عبر إشعاعات هوكينج، لكن الثقوب لا تستطيع تحميل المعلومات لهذه الإشعاعات.

ظهرت المفارقة بشكل سطحي في أوائل سبيعنات القرن الماضي عندما نتج عن عمل «ستيفن هوكينج – Stephen Hawking»، و«جاكوب بيكينشتاين – Jacob Bekenstein» أنّ هذه الثقوب السوداء ليست فعلًا سوداء، بل وجدوا -حسب الفيزياء الكمومية- أنّ هناك أزواجًا من الجسيمات وأضداها تتولّد عند أفق الحدث، ثم تفترق ليلتقف الثقب الأسود أحد الزوجين وينطلق الآخر إلى الفضاء.

يعني ذلك أنّ الثقب الأسود ينتج «جسمًا»، وتُسمى هذه الجسيمات المنطلقة «إشعاعات هوكينج – Hawking radiations».

وحسب نظرية هوكينج، بمرور الوقت تتبخر الثقوب السوداء بهذه الطريقة تاركة «فراغًا لا يحتوي شيئًا» مكانها، ولكنّ هذا يعدّ معضلة كبيرةً للفيزياء الكمومية، والتي بحسبها: «المعلومات لا تُخسر ولا تُدمّر».

حاول الفيزيائيون إيجاد طريقة تستطيع بها المعلومات الإفلات من الثقب الأسود عبر إشعاعات هوكينج، لكن المشكلة هي عدم قدرة الثقوب السوداء تحميل المعلومات لهذه الإشعاعات. حسب النظرية النسبية العامة، فإنّ الثقوب السوداء تحمل خصائص بسيطة فقط: الكتلة، الشحنة، والتسارع الزاويّ (نفس تسارع النجم الذي نتجت عنه).

في 2004، قام «سمير ماثور» من جامعة أوهايو وزملاؤه بتقديم نموذج للثقوب السوداء حسب «نظرية الأوتار الفائقة – String Theory» -التي تقول أنّ الكون مؤلّف من أوتار صغيرة مهتزة، وليس من جسيمات بالغة الصغر- واعتمادًا على هذه النظريّة فإنّ الثقوب السوداء تصبح مجموعة هائلة من الأوتار، وتقوم إشعاعات هوكينج بحمل أجزاء من المعلومات الموجودة في داخل أوتار الثقب الأسود.


الثقوب السوداء غير موجودة فعلًا:

نشر هوكينج ورقةً علميّةً كتب فيها؛ «لا وجود للثقوب السوداء»، ثم يشرح مستطردًا أنّ «لا ثقوب سوداء كالتي نعرفها، حيث لا مهرب حتى للضوء منها».

إذًا فالثقوب السوداء مازالت موجودة، لكن الاختلاف هو في خصائصها، إن كانت ورقة هوكينج صحيحة. «لا يمكنك الهروب من الثقب الأسود في النظرية الكلاسيكية» يقول هوكينج، لكن حسب الفيزياء الكمومية فإنّ المعلومات والطاقة يمكنها الخروج من الثقب الأسود، وكلّ ذلك يحتاج الكثير من النظريات والدمج بين الجاذبية وقوى الطبيعة الأخرى.

بعد اكتشافها من قبل عالم الفيزياء النظريّة «جوزيف بولتشينسكي – Joseph Polchinski»، برزت مفارقة الحائط الناري للثقوب السوداء، وهي الرد النظريّ على معضلة سقوط رائد فضاء في ثقب أسود.

يظهر أفق الحدث حول الثقب الأسود كحلّ رياضيّ لنظريّة النسبية العامة لـآينشتاين، وأول من أشار إليه الفلكي «كارل شفارتزفيلد» –الذي سُميّ قطر الأفق باسمه فيما بعد- حسب هذه النظريّة، فإنّ رائد الفضاء المسكين يسقط دون أن يعرف ماذا حصل له عبر أفق الحدث، ليتمّ جذبه تدريجيًّا إلى داخل الثقب الأسود ويتمّ تمطيطه بسبب الجاذبية الكبيرة للمتفرّدة، ليتطاول كالسباغيتي بسبب الفرق في التأثير للشد الجذبويّ الممارس على الطرف الأقرب للثقب الأسود وهذا ما يُسمّى بالـ«Spaghettification»، وفي النهاية يصلّ إلى المتفرّدة ويتحطمّ هناك.

لكن بعد تحليل هذه الحالة من قبل «بولتشينسكي» وفريقه حسب قوانين الفيزياء الكموميّة، التي تدرس الجسيمات الدقيقة، وحسب هذه النظريّة فإنّ أفق الحدث يجب أن يكون جدارًا ناريًا يحرق رائدنا المسكين محوّله إلى بقايا فحم.

لكن حسب النظرية النسبية لآينشتاين، فإنّ السقوط الحر للرائد داخل الثقب الأسود، سيبدو للمراقب بنفس الطريقة من جميع المواقع، سواء كان المراقب يسقط أيضا في الثقب الأسود أو كان يطوف في الفضاء الفارغ، أي حسب آينشتاين والنسبيّة العامة فإنّ أفق الحدث مكان عاديّ جدًا لا يختلف عن أيّ مكان في الفضاء.

في الـ22 من يناير/ كانون الثاني 2014، طرح هوكينج ورقةً بحثيّةً باسم «الحفاظ على المعلومات والتنبؤ بالطقس للثقوب السوداء – Information preservation and weather forecasting for black holes»، طرحها بناءً على حديث قدمّه في معهد كافيلي للفيزياء النظرية في أغسطس/ آب 2013. يمكنك مشاهد العرض الذي قدّمه هوكينج: هنا.

ولحلّ مشكلة الجدار الناري، اقترح هوكينج شيئًا غريبًا، فألغى وجود «أفق الحدث – Event Horizon» واستبدله بمفهوم آخر هو «الأفق الظاهري – Apparent Horizon» الذي لا يقوم بفعل الأفق السابق، الذي يحبس الأشياء داخله إلى الأبد، وبهذا فإنّ عبارة «لا ثقوب سوداء» في كلام هوكينج، تعني الثقوب السوداء بمفهومها الكلاسيكي الذي يمنع الأشياء من الخروج ويحبسها داخله.

ويمكن تعريف الأفق الظاهري بأنّه المساحة الموجودة حول الثقب الأسود، والتي عند محاولة الأشعة الضوئية الإفلات منها، فإنها لا تستطيع المغادرة وتبقى محتجزةً هناك. ومبدئيًا يمكننا التفريق بين الأفقين بأن زيادة المواد التي تُبتلع من قبل الثقب الأسود ستؤدي لزيادة حجم أفق الحدث أكثر من ذلك التأثير الحاصل على الأفق الظاهريّ.

عبارة «لا ثقوب سوداء» في كلام هوكينج، تعني الثقوب السوداء بمفهومها الكلاسيكي الذي يمنع الأشياء من الخروج ويحبسها داخله.

يقول «دون بايج – Don Page» الفيزيائي وخبير الثقوب السوداء في جامعة ألبيرتا والمشارك لهوكينج في أعماله في سبعينيات القرن الماضي، «إنّه من التطرّف القول بعدم وجود أفق حدث، لكن تحت الظروف الكموميّة.

وبسبب الغموض الذي يلّف موضوع الزمكان، نحن لانستطيع تحديد المنطقة المسمّاة فعلًا، أفق الحدث». لكن بايج مازال مترددًا بشأن مشاكل أفق الحدث، وأنّها قد تحدث بسهولة أيضًا في مفهوم الأفق الظاهريّ.

ويمكن للأفق الظاهري، بعكس أفق الحدث، أنّ يختفي في النهاية –رغم أن هوكينج لم يفسر كيفية اختفاء الأفق الظاهري في ورقته- وهذا يؤدّي ببايج للاعتقاد بأنّ هوكينج يفترض أنّه من الممكن لأيّ شيء الخروج من الثقب الأسود، فإنّ تقلصّ هذا الأفق إلى حجم معيّن، تحت تأثير كلا النظرية الكمومية، والجاذبية يمكن بعده أن يتلاشى ليخرج ما كان داخل الثقب، لكن ليس بالشكل الذي دخل فيه طبعًا.

إذا كان هوكينج محقًا، فمعنى ذلك أنه قد لا توجد حتّى «متفرّدة – Singularity» في مركز الثقب الأسود. مما يعني أنّ المادة ستكون فقط محتجزة خلف الأفق الظاهري، تتحرك ببطء شديد إلى الداخل بسبب جاذبية الثقب الأسود، ولكنها لن تصل أبدًا إلى المركز، بينما لا تتدمر المعلومات المتعلقة بتلك المادة، بل تغادر الثقب الأسود عن طريق إشعاع هوكينج.

بالرغم من ذلك فإنها ستكون مُشوشة ومختلفة تمامًا عن الحالة التي دخلت بها الثقب الأسود، مما يجعل من الصعب جدًا معرفة حالتها، أو ماهيّتها قبل أن يبتلعها الثقب الأسود. وفي ورقته البحثيّة يقارن هوكينج الوضع بتنبؤات الطقس، والتي نظريًّا هي شيءٌ ممكنٌ نقوم بفعله وعرضه في نشراتنا الإخباريّة يوميًّا، لكن فعليًّا فإنّ الأمر شديد الصعوبة ولا يعطينا نتائج فائقة الدقّة.

لكن بولتشينسكي ما زال مشككًا بوجود ثقوب سوداء دون أفق حدث في الطبيعة، ويقول «حسب نظريّة الجاذبيّة آينشتاين، فإنّ أفق الثقب الأسود ليس مختلفًا عن أي مكان آخر في الفضاء، ونحن لانرى تقلّبات الزمكان في باحتنا الخلفيّة في الكون، بل نحتاج لمساحة أوسع بكثير لرؤية ذاك الأثر، حيث يختفي أفق الحدث».


مفارقة المعلومات مرةً أخرى 2015

قدّم هوكينج ما يعتبره الحلّ لمفارقة خسارة المعلومات، خلال جلسة في معهد (KTH) الملكي للتكنولوجيا في ستوكهولم في 25 أغسطس/ آب. حسب اقتراح هوكينج فإنّ المعلومات لا تُحفظ في داخل الثقب الأسود كما يعتقد المرء، بل على العكس، توجد المعلومات على حدود الثقب الأسود، عند أفق الحدث.

ويمكننا تخيّل أفق الحدث بشكل كرة تحيط بالثقب الأسود، حيث لا يمكن للجزيئات عند الوصول إليه النفاذ خارجًا، ويقترح هوكينج أنّ معلومات النجم المولّد للثقب الأسود ومعلومات الجسيمات التي تصل لأفق الحدث تُترجم إلى هولوغرام -أيّ وصف ثنائيّ الأبعاد لجسم ثلاثيّ الأبعاد-، وتتوضع هذه المعلومات بشكلها الجديد على سطح أفق الحدث. وهذا ما سمّاه بالترجمة الفائقة أو «التحوّل الفائق – Supertranslations».

هذا التحوّل الفائق يتضمن معلومات الجسيمات الداخلة إلى الثقب الأسود، وهكذا لا نخسر المعلومات المحتواة في الثقب الأسود. إذًا يمكن لإشعاعات هوكينج حسب هذا الاقتراح أن تحمل بعض من المعلومات المُخزنة على محيط الثقب الأسود عند إصدارها منه سامحةً للمعلومات بالخروج.

هذا التحوّل الفائق لن يكون بلا ثمن، فمعلومات الأجسام الداخلة تخرج لكن بطريقة وشكل فوضويّين مختلفيين بشكلٍ كليٍ عن الأصل، وهكذا نظريًا تمّ حلُّ مفارقة المعلومات، ولكن فعليًا فخروج المعلومات بهذه الشكل يعني ضياعها، أو على الأقل ضياع شكلها.

وفي النهاية نذكر لكم ما قاله هوكينج حوال احتمالية كون الثقوب السوداء مفاتيح لأكوان أخرى:

«لا تفقد الأمل إن كنت تشعر أنّك في داخل ثقب أسود،هناك طريقٌ للخروج، قد تكون الثقوب السوداء بوابات لعوالم أخرى، لكن لحصول ذلك يجب أن يكون الثقب كبيرًا ومتحركًا، لكنّ أعلم أنّك بالتأكيد لن تعود إلى كوننا هذا نفسه، ورغم أنني أودّ تجربة الطيران في الفضاء، إلا أنني لا أفضل تجربة ذلك داخل الثقب الأسود».

سيقوم هوكينج وزملاؤه لاحقًا بنشر الورقة العلمية التي تشرح نظريتهم الجديدة تلك في الأشهر القادمة.