من قرية إيطالية صغيرة، أعلنت عدة جماعات طليعية أوروبية في عام 1957 إقامة «الأممية المواقفية» التي تعد أكثر حركات التجديد والتمرد راديكالية وشمولًا في هذا القرن؛ قرن الآمال العظيمة والإخفاقات الكبرى.

هذا المقال هو بداية سلسلة من المقالات تحتوي مراجعةً لكتاب «راية التمرد: الأممية المواقفية في العصر ما بعد الحداثي» من تأليف الكاتبة والباحثة البريطانية سادي بلانت، وترجمة الصحافي والمترجم المصري أحمد حسان.


يا أعزائي، المغامرة قد ماتت

المجتمع تنظيم هائل من الاستعراضات، كل ما يظهر على أنه حقيقي هو محض تمثيل، يَتفرّج البشر على حيواتهم ولا يخبروها إلا عبر مسافة معينة، هي المسافة الكافية لتصديق وعود الإشباع التي لا تتحقق بمجرد الانخراط في الموقف.

أعلن المواقفيون أنه طالما كان الإنسان هو «نتاج المواقف التي يمر بها، فإنه من الجوهري خلق مواقف إنسانية، حيث أن الفرد يُعرف بموقفه، فإنه يريد السلطة لخلق مواقف جديرة برغباته»*.

الثورة على استلاب الرأسمالية هي الشرط الأساسي لتحقيق المواقف التي تظل غير حرة ضمن علاقات الاستلاب التي هي بناء خرج لتوه من المصنع، المواقف في ظل الرأسمااية قائمة على التسليع المباشر والمستمر لكل شيء، قانون التبادل السوقي للسلع، هو القانون الحالي لتبادل الخبرات والمهارات والمشاعر بين البشر، ولا مكان لأي خبرة معاشة لأن تكون حقيقية داخل نطاق التسليع والتثمين. يمكننا تشكيل بناء حر ولعبي للمواقف «يُمكِّن البشر من التعرف على ذواتهم»، ولا يُلغي التناقضات الطبيعية للحياة، لكنه يهدم التناقضات المصطنعة التي تخلق الصراع والتناحر بين البشر بعضهم البعض.

العالم مُقيَّد بتصورات عن الحياة تُشكلها السلعة التي تتغول في بناء المواقف لتُحيلها إلى مجرد تمثيلات جذابة في ظاهرها؛ تُصوَرالخبرة للإنسان دون أن يعيشها حتى لو مارسها فإنه يظل ممارسًا لتمثيلات مستعملة دون المستوى الحقيقي للممارسة الفِعلية للموقف، يرغب البشر في إشباع الرغبات ولا تفعل السلعة غير تصوير إمكانية إدراكها عن طريق أشياء وصور تُمثِل لهم حيواتهم بحيث يصبح الواقع بالنسبة لهم «شيئًا مُستعمَلًا»، يبحث الإنسان عن تحقق تلك التمثيلات الفارغة فلا يجده، «مساعي التحقق محبطة دومًا».

أو كما يقول جي ديبور الفيلسوف الفرنسي صاحب كتاب أو مانيفستو «مجتمع الاستعراض»، والذي ستبني عليه الحركة فيما بعد أساسًا نظريا جديدًا لها «لا أحد يكون لديه عند عودته من مغامرة الحماس الذي كان لديه عند الشروع فيها، يا أعزائي، المغامرة قد ماتت»**.

الاستعراض هو الإحالة إلى العالم عن طريق السلع التي تحول بدورها الواقع إلى مجرد إرهاصات وتمنيات – لا تتحقق – بممارسة فعلية للخبرات والمواقف تشكلها حركتها.

«هو لا يرى السلعة بل عالمها».


تعقيبًا على ماركس

مُتأثرين بماركس – ومُطورين له – تحدث المواقفيون عن العامل داخل المصنع – أو المؤسسة – الذي ببيعه وقته – قوة عمله – ينتج فائض القيمة، وكيف صار خارج دائرة العمل مُنتِجًا: الخبرات، الخيال، والاحتياجات الحقيقية التي تعزز الاستهلاك، الاستهلاك الذي يُحوَلها بدوره إلى احتياجات مزيفة؛ سلع لا تُعزز إلا من نفسها.

علاقات المجتمع هي علاقات استلاب تفصل الإنسان عن نتاج الخبرة المُعاشة كما تفصل علاقات الانتاج العامل عن نتاج عمله. كما أن صنمية (فيتشية) السلعة التي تحدث عنها ماركس – والتي تؤدي بالضرورة إلى الاستعراض – تعيد صياغة العلاقات بين الناس وتحويلها إلى علاقات بين أشياء.

تَنبه المواقفيون لحصول البشر ليس على ما يبقيهم أحياء قادرين فقط على الإنتاج – كما التفسير الكلاسيكى لنمط الإنتاج الرأسمالي – لكن على ما يبقيهم قادرين على الخضوع لجاذبية الاستهلاك أيضًا.

أما بالنسبة لوقت الفراغ الذي ناضلت من أجله جموع البروليتاريا في شكلها القديم، فقد لاحقته عجلة الاستلاب مستهلكة إياه في دائرة السلعة. يرغب البشر في إشباع الرغبات ولا تفعل السلعة غير تصوير إمكانية إدراكها عن طريق الأشياء والصور.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه ليست «الصور، أوالتطور المهول لتقنيات الصورة وتعميمها على المجتمع هي الاستعراض، لكن الاستعراض هو علاقات اجتماعية تتوسط فيها الصور».

كما بَيَّنوا أن الطبقة العاملة اليوم ليست هي البروليتاريا ذات القلنسوات الزرقاء، والأحذية الممزقة؛ امتلك البروليتاري ذات يوم بيتًا بحديقة يتقافز فيها جرو صغير؛ لكنه بمرور الأيام كان يفقد السيطرة على حياته الشخصية، البروليتاريا هي «الغالبية العظمى من العمال الذين فقدوا كل سلطة على استخدام حياتهم «لصالح» عالم يتم فيه الإبقاء على مظاهر الحياة الواقعية من أجل إخفاء غيابها»، لكن بالرغم من أن البروليتاريا قد «فقدت تماما القدرة على توكيد استقلالها، فإنها لم تزل موجودة بشكل لا يمكن اختزاله».

وهم بذلك يعيدون تعريف البروليتاريا بوصف كل من يناضل لنفي الاستلاب «الذي هو وسيلة وغاية التنظيم الاستعراضي» بأنه يقوم بالدور الثوري للبروليتاريا.


الإعلان المستمر عن الحياة

الحياة ضمن الاستعراض هي الإشباع القادم – أو الوعد الدائم به – الذي لن يتحقق، ما يتحقق فقط هو دورة السلع، عملية الإنتاج من أجل الحفاظ على النظام الاقتصادي قائمًا.

الإنتاج مستمر في ضخ سلع قيمتها الوحيدة في الرغبة المُلحَّة لامتلاكها، في إيهام المرء بأن معجون الأسنان «س» جذاب للنساء، وأن العطر «ص» هو ربيع الحياة، أو أن الشيكولاتة «ك» هي سر السعادة، لكن بمجرد امتلاكها يكتشف المرء أن ما وعدته به السلعة من إشباع لم يتحقق بعد، من أنها صارت مملة ومبتذلة بمجرد شرائها لأنها تمثيل منفرد لغاية لا يريد صانعها لها أن تتحقق، لأن هناك سلعة – موديل – آخر خرج أو على وشك الخروج للسوق ليعد بالإشباع من جديد، لعبة خلق عدد لا نهائي من الرغبات وإقناع المستهلك بأحقية الجديد منها وضرورته.

إشعارات جديدة بتحديثات للمنتجات – لا نهائية – تخبرك بأن الإشعار القديم صار تافهًا تحقق من الإشعار القادم لعله يُشبِعك. إشعار لن يأتي إلا ليُنتحل تحت اسم الإشعار المنتظر القادم. استمناء يحقق تلهفًا في انتظار المرة القادمة.

لم يعد الاستهلاك مجرد آلية وصفية لحياة الأفراد اليومية، لم تعد دورة السلع مجرد ترس تنسحق بين أسنانه معادن الخبرة الفعلية المعاشة أو الواقع المُخبّأ خلف الاستعراض، لكنه صار جزءًا من الهوية الشخصية التي تحدد وجود الإنسان في المجتمع أو العالم، وتحدد وجوده ومكانه بالمقارنة بالآخرين، «الاستهلاك البارز للسلع بوصفها علامات على المكانة الاجتماعية والهوية الشخصية»؛ حيث تتحول كل «وسائل الحكم، والتقييم، والعيش في العالم إلى المعايير المجردة للإنتاج والاستهلاك مجردة من المعنى الفعلي».


صناعة البقاء

رأى المواقفيون في الحياة الحديثة نفيًا للحجة القديمة المبررة لنمط الإنتاج الرأسمالي «الحاجة للبقاء»، تتيح لنا التقنيات والوسائل – التي طورتها لنا الرأسمالية ذاتها على امتداد تاريخها – الاستغناء عن العمل، والتمتع بأوقات فراغ غير مشروطة، لم يكن المواقفيون أعداء للتكنولوجيا كما يسهل على أحدهم الحكم من فوق سطح النظرية، كما أنهم ليسوا من أنصار العودة للطبيعة الأم، أو ما قبل التاريخ الصناعي، أي هِيبيّين بالمعنى الشائع، لكنهم كشفوا عن الغطاء الأيديولوجي للرأسمالية والذي يصر على تقديم الإنتاج كوسيلة للبقاء، حتى أن كل مُنتَج تافه يتم تقديمه على أنه ضرورة وأداة مهمة لتعزيز البقاء.

لقد رأوا في إمكانيات الحياة الحديثة «مستقبلًا تتيح لنا فيه الخيال، الإبداعية، التكنولوجيا، والمعرفة التي تطورت داخل المجتمع الرأسمالي أن نلغي العمل، ونشبع الرغبة ونخلق المواقف، ونتغلب على كل المشكلات التي يطرحها تأبيد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي عفا عليها الزمن».


اشنقوا آخر رأسمالي بأمعاء آخر بيروقراطي

تدور السلع بوصفها غايات في ذاتها؛ والبضائع التي تقدم اليوم على أنها نواتج فريدة ونهائية، على أنها أفضل وآخر البضائع، يتم استبدالها ونسيانها في اليوم التالي.

اُعتبِر المواقفيون – الذين دائمًا ما رفضوا تصنيفهم – قمة هرم النظرية النقدية، عارضوا البرجوازية – بكل التفسخ الذي أحدثته للمجتمع – والبيروقراطية على حد السواء، هاجموا بيروقراطية الحزب الثوري على افتراض أن ديناميته الطبيعية تقوده ليصبح غايةً في ذاته، وبالتالي تصبح المهمة التي تَكوَّن بالأساس لإنجازها – مهمة الثورة – مستحيلة ومؤجلة إلى ما لا نهاية، ذلك لأن الثورة الحقيقية سوف تطيح بكل أشكال التوسط والتراتبية والهرمية – التي يمثل الحزب صورة لها – أي بكل عناصر السلطة؛ سواء كانت برجوازية مُمثلة في الحكومات الرأسمالية، أو بيروقراطية شمولية كما كانت في الاتحاد السوفيتي أو كما هي في الأحزاب الديمقراطية والنقابات العمالية والمهنية.

كذلك نشأت تلك المعارضة من تَخوَف المواقفين الدائم من استعادة نقدهم الجذري للمجتمع داخل أشكال الثقافة القائمة، وداخل علاقات السلطة الممثلة داخل الحزب، أو عن طريق الأكاديمية.


* جميع العبارات الأخرى الواردة بين علامتى التنصيص مقتبسة عن نص الفصل الأول من الكتاب.

** Guy Debord, Critique of Separation.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.