هل شهد «المتنبي» الربيع العربي؟
ها هو «المتنبي» يفرض نفسه علينا من جديد، ولا تزال حِكَمُهُ تلمع تحت أغطيتها البلاستيكية الشفافة، وتفوح منها رائحة الاحتراق الخفيفة التي تميز الإلكترونيات الجديدة. لكأني به الآن يرتسم على شفتيْه ابتسامةٌ ملؤها الثقة والغرور، وهو ينظر إليّ ساهراً في شجن، أتوحد مع شعره، وأختصم مع نفسي وزماني بما قصد وما لم يقصد. وبعد أحد عشر قرناً من وفاة صاحب الخيل والليل والبيداء، ما زالت الأيام تزيد شعره التماعا، وما يزال حبلُ مريديه يزداد متانةً بطول الزمن.
رحلة «المتنبي»، ورحلتنا
بقدر ما أحترم قريحة المتنبي الفريدة، بقدر ما أعضُّ على النواجذ غيظاً وعَجَباً أن معظم هذا المحصول العبقري، بذرتُه رضا «سيف الدولة» ومقته، وأن نفس المتنبي الكبيرة التي تعب في مرادها جسمه كما قال فيما اشتهر من أبياته، كان مرادها المتعب هو الصدارة في مجلس سيف الدولة، أو الولاية على أحد أعماله، أو طلب القرب من «كافور الإخشيدي»، العبد الذي خان سيده واغتاله كما تجنَّى عليه المتنبى عندما لم يُعِرْه اهتماما.
لكن لا يعنينا هنا محاكمة مقاصد المتنبي وغاياته، ما يعنينا أن هذه المقاصد أخرجت منه إبداعاً لم يستطِع الأوائل أو الأواخر أن يأتوا بما يدانيه. وهذه الإبداعات العابرة للأزمنة والأمكنة تشبه تحفة الموناليزا، كلما نظرت إليها في سياق، شعرت أنها تنظر إليك، وتعبّر عنك أنت.
وقد احترف المتنبي شعر الحكمة، وأتحف في أبيات الشجن على واقع يستحق الأفضل منه. وتخطى كل الحدود في الاعتزاز بالذات، وفي سب وذم السفهاء الذين يتنمرّون في لحظات ضعف أسيادهم. كل هذه الأغراض الشعرية هي عين ما نريد في رثائنا لربيعنا الشهيد وبكاء أطلاله، وفي بث الروح في أحلامنا الصريعة.
والآن.. قل يا أبا الطيب
هكذا كان شهداؤنا هم الرابح الأكبر في ربيع الكرامة الذي استحال خريفاً للذل. لقد استقبلوا الموت، فاستدبروا الهوان. وتخلصوا من عبء أجسامهم في الثرى، وحلقوا بأرواحهم الطاهرة في الثريا. وتركونا نبكي مرتين، مرة لفراقهم، ومرة من أجل حلمهم وحلمنا الشهيد.
ومرة أخرى يفرض المتنبي حكمته عبر القرون، وكأن أبياته كانت آخر ما يجلجل في أعماق أحرارنا وصدورهم تستقبل الرصاص في شوارع «القاهرة»، ورؤوسهم ينهمر عليها براميل سفاح «حلب»، وظهورهم تصطلي بطعنات الغدر في «تعز»
كان هذا – ولا يزال – من أميز شعارات الثورة السورية الذبيحة. ولا عجب أن يستلهم الأحفاد في خروجهم على واقعهم ، عنواناً قال شبيهه جدهم المتنبي قبل ألف عام في رحلته للتمرد على واقعه في الشام. ولشدَّ ما يعبر عن حال ثورتهم، جرح ربيعنا الأعمق.
ترك المتنبي جنة سيده سيف الدولة في حلب وتوجه تلقاء مصر، قاصداً حاكمها كافور، وتاركاً غيره الذي استوت عندَهُ الأنوار والظلم، فاستمع لسعي الوشاة والحاسدين. فكانت هذه القصيدة التي سيطلب في ثناياها الحظوة الكافورية. لكن كعادة المتنبي، فإنه خصَّص نصف القصيدة تعبيراً عن ذاته هو، وعن آلامه وعن غيظه. وكان في صدرها هذا المطلع العبقري الشجيّ.
نعم لا حال أقسى على الإنسان -وكذلك الثورات- من تلك التي تضطره لتمني الموت علاجاً أوحد لواقعِ مرير. وأي شيءٍ يفسد حياة الحر أشدَّ من أن يُترَك وحيداً تتقاذفه أنياب الذئاب، ولا يجد صديقاً يتقاسَم معه الآمال والآلام، أو حتى عدواً يظهر له أنه يخشاه، ويحاول أن يخفي عداوته عنه. فأعداء ربيعنا الآن تنمَّروا، وجاهر صغيرهم قبل كبيرهم بأحقر العداوة صباح مساء. وتبجَّحوا على ماضينا وحاضرنا كأننا هباءٌ منثور، أو بقعة من الفراغ، أو ظلٌّ من اللاشيء. ولعلنا لهذا السبب نموتُ كلَّ يومٍ ألف مرة، خيرٌ من أن تعتاد نفوسنا هذا الهوان.
إذا أردت أن تكون مُهاباً، موفور الكرامة، منتصراً على قانون الغاب الحاكم على كل شيء، فعليك أن تكون قوياً، شديداً في حقك، قادراً على الانقضاض على أعداء حلمك، وانتزاع المجد من بين مخالب الوحوش. ولعل لعدم تمثُّلنا هذا المعنى، واكتفاؤنا بنبل الغايات، خسرنا جولاتنا الأولى مع أعداء ربيعنا الذين كانوا أكثر جاهزية وشراسة في سبيل باطلهم. وعسى أن يكون لنا معهم جولاتٌ لاحقة، نستدرك فيها ما فاتنا، ونستحق من جديد أن تظَّلنا درتي المدح الشعري اللتين أهداهما المتنبي إلى كل صاحب مجد وعزم على مدى الدهر.
بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟
في هذا الشهر منذ خمسةِ أعوام كانت الذكرى الأولى لثورة ٢٥ يناير، وكان ميدان التحرير في عيدٍ حقيقيٍّ يستأنس بمئات الآلاف من الثوار المحتفلين بثورتهم، والداعين لاستكمالها. أما الآن تحل الذكرى السادسة بعد أيام، والربيع العربي يحتضر، والميادين تشكو وحشتها في صمت القبور. لا يستطيع ثوارها إلا المرور فيها مهرولين، يفرون من سياط الذكرى والحنين التي تجلد أرواحهم. فبأي حالٍ تعودين إلينا أيتها الذكرى؟! الأحبة فرقتنا عنهم القبور والقضبان والحدود. والأحلام استحالت سراباً جافاً في صحراء قاحلة.
هذه القصيدة انتزعها المتنبي من قلب غضبه وحزنه ناقماً على مصر وكافورها الذي استهان به، ولم يُعِر شعره وطموحه الانتباه الذي يستحق. ورغم تجاوزه كثيراً في حق كافور، ومصر كذلك، في تلك القصيدة وصويحباتها في تلك الفترة الحانقة من حياته، فإنه نطق عن حال مصر ببعض الحكم الخالدات التي كلما ظنّنا مصر انفلتت من عقال لعنتها، فإنها لا تلبث أن تعيد استحقاقها لها عن جدارة.
هكذا مصر تعود سيرتَها الأولى، وتخضع كعادتها لمن غلب على أمرها، ناسيةً أو متناسية كيف غلب. وعاد خيار أبنائها للاستكانة ظاهراً أو باطناً، تاركين -جبراً أو قنوطاً- العنان للصوص ينهبون ما بقيَ من عناقيدِها. وهكذا هوَّنت مصر أحرارها من جديد، وحكَّمت فينا وفيهم وفيها حثالة البشر.
لا يزدهر في مصرَ الآن إلا السخرية من كوارثها العجيبة اليومية، ومن أوهام نخبة الحكم المتصدرين بها رغم أنف الحق والعقل والمنطق، ولكن نكات مصر الحالية هي الوجه الآخر لآلام ودموع الملايين من المسحوقين فيها. وهي المهرب الوحيد للكثيرين لاستخراج ابتسامة من قاع معاناتهم.
ما لجُرحٍ بميِّتٍ بإيلام
لا فخر إلا لمن قهروا الظلم، فلم يقدر أحد أن يفرضهُ عليهم. وعلى هؤلاء ألا يغفلوا أبداً عن حربهم ضده، وإلا انقلب عليهم من جديد، وعادوا تحت سيف الذل الذي يفسد الأرواح والأجسام.
إعادة إنتاج لفكرة محورية في شعر المتنبي، ونستشعرها في أيامنا هذه. الموتُ أهون من حياة الذل والهوان. والحرّ يطلب الشهادة، ولا يحيا كالعبيد.
وصفٌ بديع للنخب المستكينة، والشعوب الخاضعة، التي خافت التغيير، فاحترفت الهوان، وارتمت في أحضان المستبدين مهما أذلُّوها وأفقروها. وعلى الأحرار أن يشعلوا جذوة الغضب كل يوم وليلة، وإلا لحقوا بهؤلاء. فاعتياد العيش في ظل سيطرة الظلام، يذهبُ بحاسة الإبصار. فليحافظ كل حر على شموخه، ويضع نصب عينه أنه يستحق ما هو أفضل كثيراً من منزلته الحالية. وأنه بشرفه وكرامته وبذله، يحلق متساميا ًفوق كل هؤلاء الأذلاء.
كان قدر جيلنا أن يكون في مرمى هذا الزمن العصيب. فلم يقصر في دفع فاتورة الدم والأعصاب. لابد أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا، فما بقي من جولات معركة الذات واستعادة الوطن، أكثر وأخطر مما فات.